في زحام الإعلانات التليفزيونية الرمضانية التي تدعو إلي فعل الخير في موسم التآلف السنوي، تنفطر قلوبنا لمشاهد مرضي القلب والسرطان من الأطفال، وتؤلمنا مآسي الغارمين، ولكن هذه الإعلانات الموجهة من منظمات أهلية ومستشفيات متخصصة تنسي تماما قطاعا إنسانيا من غير القادرين ماديا وصحيا، وأعني المسنين الذين تمتلئ بهم الشوارع كباعة جائلين في إشارات المرور، أو من العاملين في قطاع النظافة الطاعنين في السن! وأنا أندهش من لجوء شركات النظافة إلي هؤلاء المتهالكين (الغلابة) الذين أرصدهم بألم في حي المعادي وغيره، يدفعون عربات يدوية لجمع القمامة، وينحنون لالتقاطها من الأرض بصعوبة ووهن، وينتظرون عطف وشفقة السائرين وهم يتحايلون علي الرزق العسير بمهنة شاقة، ليست ملاذهم الوحيد لكسب القوت، فإلي جانب التسول الذي يحترفه بعضهم ويخرج عن نطاق العمل الشريف إلي الاضطرار الحتمي لدواعي الحاجة والعجز عن توفير الاحتياجات، يقوم أكثرهم كذلك ببيع السلع الزهيدة التي غالبا ما تجلب لهم الصدقات وتكسبهم تعاطف الناس الذين فقدوا الثقة في المتسولين، بعد أن كشف الأمن مرارا عن تكدس ثرواتهم المخبأة في جحورهم الرثة! معظم العجائز العاملين في قطاع النظافة أو بيع السلع علي قارعة الطريق لايجدون حلا آخر لإعالة أنفسهم وأحيانا أسرهم.. فكثير منهم يضطرون إلي العمل المرهق كي يساعدوا أبناءهم الفقراء، وليرفعوا عبأهم الشخصي عنهم في ظروف الحياة الشاقة القاسية، ويكون الابن المكبل بالفقر المريع مرغما علي دفع أبيه للعمل، والأب المقهور يعاند صحته المتداعية ويعمل بأجر زهيد لايمكنه من الالتحاق بدور المسنين التي يتكلف الإيواء فيها مبالغ لا يمتلكها في أحلامه! خيل الحكومة المسنة تضرب بالنار عندما تفقد قدرتها علي العمل.. ينسحب هذا المنطق علي المسنين البشر في العالم الثالث وفي مصر أيضا، فكثير من الأبناء الميسورين، يفضلون تسكين آبائهم العجائز في دور المسنين ونسيانهم هناك، كأنما قبروهم (بالحيا) ليحصلوا علي بيوتهم لتزويج أبنائهم أو لاستثمارها، أو لسأمهم من مسئولية هؤلاء الآباء الذين أصبحوا بلا حول ولا قوة ولا قدرة علي سند الأبناء الأشقياء! ولأن أبناء الطبقة الشعبية الفقيرة لايملكون بديلا عن إيواء آبائهم الذين تزوجوا معهم في نفس الحجرة التي تعيش فيها العشيرة كلها، فهم يدفعون بأهلهم العجائز لسوق العمل، ويتركونهم ليواجهوا مصيرا مجهولا ربما انتهي بهم إلي الموت المعلن علي قارعة الطريق في الهواء الطلق تحت قبة السماء الفسيحة التي ترحب بالروح المتعبة لهؤلاء التعساء! وبالنظر إلي حظ السعداء من المسنين في الغرب نجد أنهم علي أولويات العمل الاجتماعي والحكومي في أوروبا وأمريكا فدور المسنين مفتوحة للفقراء قبل القادرين وفقا لدراسات دقيقة لصحيفة الحالة الاجتماعية والمادية للمسن سيدة كانت أم رجلا، كما تتم دراسة الحالة الصحية لهم لتحديد مستوي الخدمة المطلوبة وكثافتها حسب قدراتهم البدنية والعقلية، ففي ألمانيا مثلا قطاع من المقعدين المسنين الذين لايبرحون الفراش نتيجة العجز التام عن الحركة: bed ridden وهؤلاء يبقون في منازلهم وتقوم جمعيات خاصة بالعناية الكاملة بهم داخل بيوتهم، أما دور المسنين فيلتحق بها الأقل عجزا من الذين يتحركون بمساعدة، أو علي كرسي متحرك، ويتسني لهم التمتع بمرافق يصحبهم في الرحلات والحفلات التي تقيمها الدار كما يعينهم في تفاصيل الحياة اليومية. ويحصل المسنون الأوروبيون والأمريكان علي الرعاية النفسية والبدنية من خلال متخصصين في طب المسنين وهو تخصص صار موجودا للقادرين فقط (بالطبع في مصر) والطبيب المتخصص فيه يؤقلم المسنين علي ظروفهم الصحية والنفسية المغايرة لحياتهم السابقة، والمصحوبة الآن بما يطلق عليه اكتئاب الشيخوخة الذي ينحر القلب ويشق الروح ويشتت العقل والذاكرة فيفضي إلي الخرف الأليم فيقوم الطبيب بأقلمتهم علي المرحلة العصيبة من العمر المتقدم. ونعود إلي بؤساء مصر من المسنين الفقراء الذين يجبرون علي التسول والعمل من أجل إعالة أسرهم وأنفسهم.. قال أحدهم بما تبقي له من عقل وحكمة هذا المثل التعيس: (يا شايل همك وهم غيرك حتموت وأنت واقف علي حيلك)!! ... هذا يا سادة إن بقي في (الحيل) رمق يحمل الجسد للوقوف! ❊❊❊ مؤثرات صوتية إرهابية : طراخ طاخ طيخ!!! رقعت هذا الكلمات والصفعات و(قرص) الآذان علي (خد) وقفا وسحنة طفل بريء لايزيد عمره علي 8 أعوام! كان واحد (هلف) غليظ القلب والقسمات يجره من يده ويكاد يسحله كالذبيحة وهو يردد بصوت جهوري بشع: (حتفوتنا صلاة التراويح يا بهيم)!! والواضح أنه والد الطفل المقهور، الذي أوصد قلبه وعقله عن دعوة أبيه الغبي إلي ذكر الله بالصلاة في أطهر شهور العام وأكثرها إشراقا بالإيمان.. تجاهل الأب الغاشم قول الله تعالي: (ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) صدق الله العظيم وقوله تعالي: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.. صدق الله العظيم.