الملك فاروق فى بداية توليه الحكم بدأ فاروق مرحلة جديدة في حياته، ومما يذكر أن أكاديمية وولوتش لم تقبله طالبا أساسيا فيها، لكنها سمحت له بزيارتها كعون له في دراساته.. وتم الاتفاق علي أن يبقي الوضع علي ما هو عليه حتي تمضي سنتان ثم ينتظم بالدراسة بها، ووافق وزير الحربية البريطاني علي أن يسمح بصفة خاصة لبعض أساتذة الأكاديمية بأن يعطوا الأمير دروسا خاصة كي يتمكن من اجتياز امتحانات الرياضيات والكيمياء والطبيعة، كما تولي رئيس مدربي الرياضة البدنية في الأكاديمية تدريبه، وحضر أستاذان من جامعة لندن ليدرسا له اللغة الإنجليزية والتاريخ، أيضا تولي أستاذ فرنسي تعليمه الآداب الفرنسية، وانقسم برنامج دراسته إلي قسمين، قسم اجتماعي يتعلق بالثقافة العامة ودراسة الأوساط الاجتماعية ومعرفة أوضاعها وأساليبها، وقسم دراسي لدخول الأكاديمية، ويضم البرنامج رحلات إلي أوربا في الإجازات. انتهزت لندن الفرصة لكي تشعر الأمير بالاهتمام، فيدعوه الملك البريطاني لمأدبة خاصة في قصره، تحضرها الملكة ودوق جلوستر، ويشيد بهذا اللقاء في برقية يرسلها إلي فؤاد ويثني فيها علي ولي العهد، ومن المصادفات أن يكون الأخير هو النائب عن والده في تشييع جنازة الملك جورج الخامس في 82يناير 6391، وكانت المناسبة الرسمية الوحيدة التي ظهر فيها أثناء وجوده علي أرض بريطانيا، والتقي فاروق بإدوارد أمير ويلز وصارا صديقين، وكانا يذهبان معا لمشاهدة مباريات كرة القدم في نهاية الأسبوع، وبذلك نلمس أن الخطة التي وضعتها السياسة البريطانية قد نفذت، وتمكنت من أن تحتضن ولي العهد وتؤثر فيه وتجعله يذوب في المجتمع الإنجليزي ليصبح لديه الانتماء لهذا الوطن، وبالتالي يصبح سهل الانقياد، سلسا في اتباع المشورة البريطانية.. وبدأ فاروق الممارسة العملية للرحلة العلمية، ومما لا شك فيه أنه كان يتمتع بقدر معقول من الذكاء، وقد شهد أعداؤه فيما بعد بذلك، وهو يعطي انطباعا بأن مظهره لا يتناسب مع سنه حتي لقد وصفته صحيفة »التايمز« بأنه يبدو أكبر من سنه بخمس سنوات، وربما أرجع هذا إلي طبيعته من ناحية، ولتلك العناية الخاصة بالغذاء من ناحية أخري، وعندما وطئت قدماه بريطانيا خالجه شعور طبيعي، فقد أحس بأن العصفور الذي أغلق عليه القفص طويلا.. قد انفتح له بابه، وانطلق منه، ومن هنا حرص علي ألا يعود إليه ثانيا، وغمرته الرغبة في ضرورة تعويض ما فاته والنزول إلي هذا المجتمع الجديد والاحتكاك بعناصره والاستفادة من تجاربه، وكان من الممكن أن يحقق ذاته في إطار البرنامج التعليمي الذي أعد له، لكن واجهته عقبتان، العقبة الأولي السلوك الذي اتبعه واتسم باللامبالاة مما أبعده إلي حد كبير عن الهدف الأساسي للرحلة، والعقبة الثانية أنه لم يستمر إلا ستة أشهر أو ما يزيد قليلا واضطر للعودة إلي مصر. فاروق يتحرر من القيود ومنذ اللحظة الأولي وجد فاروق الترحاب من زملائه الإنجليز، فأحبوه إذ وجدوا فيه مميزات الشاب الشرقي من مرح ولطف وقوة وفطنة، فألفوا صحبته، وانتظم معهم في تلك التدريبات الرياضية بأنواعها، واشترك معهم في بعض المباريات، وأحيانا أظهر فيها تفوقا، واهتم بالاسكواش وكان بطلها عبدالفتاح عمرو، فأعجب به، وسيكون لهذا الإعجاب أثره في التاريخ المصري، وتحرر فاروق من القيود، ونزل إلي الشارع واستخدم الأوتوبيس والمترو والقطارات، واستعمل الدراجة، وانتقل بين المسارح ودور السينما، وارتاد محلات الكتب واشتري منها الكتب المستعملة، وكان يذهب إلي لندن مرتين في الأسبوع مع سائق لوري تعرف عليه، وبذلك اختلط بالناس وعايشهم وحرص وسعي ليكون بينهم، وقد أثر فيه هذا بعد عودته. لكن كان هناك الجانب السيئ لهذا المجتمع الغربي المفتوح، وهو ما يتصل بالمغامرات النسائية، حيث أغراه حديث زملائه عنها، فجذبوه إليهم وأخذوه معهم بعد أن اصطنعوا القصص ليتمكنوا من التغيب عن دروسهم والإفلات من الصول الإنجليزي المشرف عليهم.. والسؤال الذي يطرح نفسه ما موقف أفراد البعثة التي صاحبته؟.. من الواضح أن الشخصين الرئيسيين كانا أحمد حسنين وعزيز المصري، وكلاهما علي طرفي نقيض في كل شيء.. الأول له من الدهاء والمناورة والمهارة ما يعطيه مؤهلات التفوق علي الثاني الرجل العسكري الصلب وصاحب الأخلاق القويمة، وانقاد فاروق لأحمد حسنين وأعرض عن عزيز المصري، وهذا أمر طبيعي لا يلام عليه الأمير الصغير بقدر ما يلقي التبعة علي رجل البلاط الذي خطط وبدقة ليستحوذ علي قلب ولي العهد حتي يحقق أطماعه مستقبلا، وكان عزيز المصري يدرك أبعاد تخطيط مرافقه، ومع هذا تحكم في بداية الأمر، ومضي يباشر عمله، فعندما يجد فاروق منحنيا يضربه علي ركبتيه ويذكره بأنه سيكون القائد الأعلي للجيش. وأمام التسيب الذي وجده الأمير فسدت الخطة، فقد كان أحمد حسنين يصحبه إلي الأماكن الخاصة ليلا، وقد قدم عبدالفتاح عمرو وكان يعمل في مكتب محام خدماته في هذا الشأن، مما جعل عزيز المصري يسجل هذه الأحداث في تقارير لفؤاد، ولم يتمكن من وقف هذا التيار، حيث احتال غريمه وضم ولي العهد نهائيا، ومضي يعمل من وراء ستار وبعيدا عن أعين المراقبة، وسلك كل الطرق، وكللت جهوده بالنجاح.. ويروي عزيز المصري تلك الأساليب التي اتبعت لتمويهه وكان يكتشفها.. وقد رأي مواجهة أحمد حسنين بهذه الأفعال حيث إنها لا ترتكب في حق الأمير فقط، وإنما في حق مصر التي تنتظره ليجلس علي عرشها، لكنه لم يجد أذنا مصغية وإنما تلقي دفاعا تمثل في كلمات لا يقبلها إنسان ملتزم. فشل خطة التعليم ولم يقتصر الصدام حول الأسلوب الأخلاقي وحده، ولكن شمل طريقة التفكير ذاتها، فقد حدث أن تشاجرا معا حين قادهما الحديث إلي أحمد عرابي وسعد زغلول، وكان عزيز المصري يريد أن يلقن فاروق أنهما وطنيان، أما أحمد حسنين فلا يجذب نظره إلا أن الأول أراد خلع توفيق، والثاني هو عدو أبيه، وعلي هذا فشلت خطة التربية والتعليم التي وضعها الرجل العسكري مما اضطره إلي أن ينسحب من الميدان تاركا فاروق لرائده ولحارسه، اللذين تعاونا علي تشجيعه علي الانجراف مع التيار الأوربي، وبالتالي فلم يتمكن من استيعاب دروسه، وربما لو كانت الفترة قد امتدت به وفقا لما هو مقرر، لكان بريق تلك الحياة التي أغرته قد انطفأ، وأصبح يفرق بين الدراسة والتسلية، ولكن الظروف عاكسته وعاد إلي مصر. وفي أثناء غياب ولي العهد مرض فؤاد وساءت صحته وتدهورت، وأيقن الجميع قرب نهايته، وأبلغ فاروق تليفونيا بحالة أبيه، فواصل هو الآخر اتصاله للاطمئنان عليه، وتابع النشرات الطبية، هذا في الوقت الذي استقبل فيه فؤاد رئيس وزرائه وتحدث معه في أمرين: الأمر الأول أنه استعلم عما إذا كانت العلاقات مرضية مع دار المندوب السامي.. والأمر الثاني أنه يريد عودة فاروق، وأرسل رسالة شخصية إلي لامبسون بشأن استدعاء ابنه، وأوضح علي ماهر للمندوب السامي أن بقاء ولي العهد سيكون لأسابيع قليلة يعود بعدها، وقد صرح بذلك بعد أن عرض النقد السيئ الذي يوجه للحكومة البريطانية علي أساس أنها تمانع في عودة الأمير، وألحت نازلي في الاستعجال، وقرر رئيس الوزراء التنفيذ، وأعطيت التعليمات تليفونيا لرائد الأمير في هذا الشأن.. وأعرب فاروق عن رغبته في السفر إلي مصر علي وجه السرعة، وأعد للأمر عدته، وكتب لامبسون لحكومته للعمل علي تسهيل تلك الرحلة. المناداة بفاروق ملكا وفي 82أبريل 6391م لفظ فؤاد أنفاسه الأخيرة، وعقب الوفاة مباشرة اجتمع مجلس الوزراء لمدة عشر ساعات متوالية، وصدرت ثلاثة بيانات: البيان الأول المناداة بفاروق ملكا علي مصر، والبيان الثاني ممارسة مجلس الوزراء للسلطات الدستورية للملك لحين تشكيل مجلس وصاية، والبيان الثالث إعلان الحداد لمدة ثلاثة أشهر.. وتلقي فاروق نبأ موت أبيه بحزن وأسي، وهناك بعض الآراء التي تبين أنه لم يكن يحبه وإنما يخافه ويخشاه، ولكن من خلال دراسة شخصيته تري أنه تأثر به إلي حد كبير وكان مثله الأعلي، وفي هذا ما يدل علي حبه له، وتتابعت التعازي عليه سواء من ملك بريطانيا ومن هم دونه أم من زملائه، كما تلقي البرقيات من ملوك ورؤساء الدول وهو في بريطانيا، وتقرر أن يغادر لندن في 03 أبريل، وقبل المغادرة التقي بإدوارد الثامن وزوجته، وودعه دوق كنت موفدا من الملك وإيدن وزير الخارجية، وكانت حكومة مصر قد رفضت عرض الحكومة البريطانية في أن يعود الملك علي سفينة حربية، وعليه سافر علي الباخرة، »ميسروي أوف إنديا«، وقامت وزارة الحربية البريطانية بتخصيص مدمرتين لحراستها.. وبالطبع فإن مظاهر الحفاوة البريطانية كانت ملحوظة، حيث ستترك أثرها لدي الملك الجديد في علاقاته مع بريطانيا.. وأناب فاروق الأمير محمد علي ورئيس الوزراء في تشييع جنازة والده.. وفي الوقت نفسه أصدرت المحاكم أحكامها باسم الملك الجديد، كما دعي له في صلاة الجمعة بالمساجد، وتردد الدعاء في الكاتدرائيات، وصدرت طوابع البريد التي تحمل صورته.. واستغرقت رحلة العودة حوالي الأسبوع.