عندما تولي الخلافة أبو بكر الصديق، قال في أول خطبة له: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلي صلاتكم يرحمكم الله). وهذا يعني أن من حق الرعية محاسبة الحاكم إن حاد عن الطريق المستقيم.. ولكن من يقرأ صفحات التاريخ يري أن الكثير من الحكام لايطيقون النقد ولا يقبلونه، بل عندما تسود النظم الاستبدادية يكون مصير من يلقي النصيحة للحاكم .. مجرد النصيحة.. التعذيب أو الحبس أو الاضطهاد. ورغم معرفة الناس بهذه الحقيقة، إلا أن شجعان القلوب والعقول كانوا يتصدون للطغاة، ويحاولون إبداء النصيحة لهم. لأنهم لا ياخافون إلا الله، وإن من الواجب مجابهة الحاكم وإسداء النصح له. ومن هنا فقد توقفت طويلا أمام هذا المشهد من كتاب (والموعد الله) للأستاذ خالد محمد خالد. عندما دخل أبو مسلم الخولاني علي معاوية، وقال له : السلام عليك أيها الأجير، وعندما سمع من بعض أفراد الحاشية من يصحح له قوله وأن عليه أن يقول أيها الأمير.. لا أيها الأجير، كرر الرجل ما قاله : السلام عليك أيها الأجير! ثم يقول لمعاوية: إنما مثلك مثل أجير أؤتمن علي ماشية ليحسن رعيها، ويوفر ألبانها، وينمي الصغيرة ويسمن العجفاء، فإذا هو فعل، استحق أجره وزيادة، وإن هو لم يفعل نزل به عقاب مستخلفه ولم ينل أجرا. يا معاوية: إنك إن عدلت مع أهل الأرض جميعا ثم جرت علي رجل واحد، مال جورك بعدلك، يا معاوية: لاتحسبن الخلافة جمع المال وإغداقه، إنما الخلافة، العمل بالحق، والقول بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله. يا معاوية : إن الناس لايبالون بكدر الأنهار ما صفا النبع وطاب وإن مكان الخليفة من الناس مكان النبع الذي يرجون صفاءه. ويقول خالد محمد خالد: بمثل هذه الروح كانوا يتعاملون مع أولي الحكم والسلطان، يعظونهم ويجاوزون الموعظة إلي الزجر عندما تدعو للزجر دواعيه، وهم بهذا إنما يشاركون حقيقة في حمل كل تبعات الحكم الذي رفضوا مناصبه، فالحكم قد يكون محصورا في وظائفه ومناصبه من ناحية الشكل، أما من حيث الموضوع والمسئولية، فكل مشورة صادقة تقدم إليه، وكل نصيحة جادة تسدي إليه، وكل معارضة أمينة تتوخي تقويمه، كل أولئك يشكل مشاركة حقيقية وفعالة في حمل مسئولياته الثقال، يقول أبو مسلم الخولاني : لايصلح الناس إلا بإمام، ولا يصلح الإمام إلا بالناس. فهم إذن لاتغيب عنهم ضرورة أن يكون للناس إمام ورئيس دولة يحمل مع الآخرين تبعات السلطة الممنوحة له من الأمة ليحقق لها أسباب الحياة العادلة الصالحة الكريمة.