لقطة من الفيلم يشبه أحمد عيد أفلامه، فهي بسيطة ومتواضعة ولكنها تحمل قيمة وعمقا، ولذلك فهو من بين كثيرين استطاع أن يحافظ علي المسافة بينه وبين جمهوره، فهو لم يتراجع عن البطولة والنجاح مثل أحمد آدم وأحمد رزق، وطلعت زكريا، وعمرو عبد الجليل، ولم يقفز للصفوف الأولي ويحقق ضربات متتالية في شباك التذاكر مثل أحمد حلمي، أو أحمد مكي! إنه حالة متفردة يصعُب القياس عليها، ويمكن أن تحصي من بين أفلامه مجموعة تحسب له، مثل فيلم ثقافي وليلة سقوط بغداد، وأنا مش معاهم، بالإضافة لعدد آخر من الأفلام لعب فيها أدواراً مُساعدة ولكن وجوده فيها كان مؤثرا وملموسا، وفي أحدث أفلامه" حظ سعيد" الذي كتب له السيناريو أشرف توفيق وأخرجه طارق عبدالمعطي، يُقدم أحمد عيد علي مغامرة سينمائية متكاملة الأركان، فهو أول فيلم تدور أحداثه كاملة أثناء الأيام الأولي للثورة، ويقفز بنا سنوات للأمام ليقدم تصورا ساخرا علي مايمكن أن تنتهي إليه الأمور في هذه الثورة المُلغزة، التي تترنح بين النجاح والفشل، ولم تصل بعد إلي بر الأمان!كما يقدم شخصية ربما لايفضلها نجوم هذه الأيام، حيث تفتقد كل عناصر البطولة، فهو مواطن مصري لم ينل إلا قسطا محدودا من التعليم، يعمل في مجال بيع الآثار المقلدة في نزلة السمان، زبون دائم علي قسم الشرطة، حيث ينال بعض الصفعات والركلات والقفزات، من ضابط القسم وأمين الشرطة، دون أن يعترض أو يجد غضاضة في ذلك! كل مايؤرق "سعيد" ويزعجه أن يعثر علي شقة، تتيح له فرصة الحياة مثل بقية خلق الله، مع زوجته "مي كساب"، التي عقد قرانه عليها، منذ سنوات ولكن زواجهما لم يتحول إلي علاقة كاملة مستقرة، نظرا لعدم توفر الشقة، ولسعيد شقيق أكبر لايهمه في الحياة إلا الاستمتاع بزوجته ومعاشرتها، أما شقيقته الصغري وفاء "غرام سعد" فهي الوحيدة في الأسرة التي وصلت إلي مرحلة التعليم الجامعي، ولذلك فهي تبدو أكثر وعياً وإستيعابا لما يحدث علي أرض الواقع، بل أنها أكثر من شقيقها جرأة في الحق، وكانت ضمن من خرجوا في مظاهرات من أجل إسقاط النظام مع الأيام الأولي لثورة يناير! وبعد اندلاع الثورة لم ينضم سعيد لشباب الميدان، ولم يلتحق بحزب الكنبة، ولاحزب إحنا آسفين ياريس، ولكنه تحول مثل نسبة كبيرة من الشعب المصري، إلي مواطن مش فاهم! وليس له موقف محدد، فهو لايعارض ولايؤيد، وكل ما يهمه من الموضوع هو مصلحته الشخصية، الضيقة جدا، التي يقيسها بوقف حاله نظراً لضرب السياحة، وهو لايشغل نفسه، إن كانت الوزارة تسقط أم تستمر، فهي أشياء لاتعنيه، وعندما تطلب منه والدته أن يذهب لميدان التحرير ولايعود إلا وفي يده شقيقته وفاء، يجد أنها مهمة شاقة، ويتعجب عندما يجد الميدان يعج بالبشر يمثلون كل الأعمار وكل الاتجاهات، ويلتقي بالشاب الثائر"أحمد صفوت" وهو مثل ملايين من شباب مصر لم يكن لديه مانع من الاستشهاد في سبيل نجاح الثورة التي رفعت شعار عيش حرية عدالة اجتماعية، ورغم إعجاب سعيد بالشاب الثائر، إلا أنه لم يكن لديه أي استعداد أن يحذو حذوه ويقلده، وينضم إلي صفوف المتظاهرين، كل ماكان يعنيه أن يخرج مسرعا من الميدان مصطحبا وفاء شقيقته الصغري ويعود الي منزله آمنا، ولكن وفاء ترفض ترك مكانها، فيعود إلي حارته بدونها ويجلس علي المقهي ليتابع الأحداث في التليفزيون ويستمع للأكاذيب التي يرددها الإعلام المصري، من أن شباب الميدان ماهم إلا مجموعة من البلطجية المأجورين الذين يسعون إلي خراب مصر تنفيذا لأجندات خارجية، وغيرها من الأكاذيب المُضللة، ولكن أكثر ما أزعجه عندما ظهر طلعت زكريا في أحد البرامج ليؤكد أنه ذهب للميدان ووجد، الشباب يتعاطون المخدرات ويمارسون الجنس الجماعي، فيعود مرة أخري للميدان وداخله تصميم علي إجبار شقيقته علي العودة ولو بالقوة، ولكنه يفشل المرة تلو الأخري، ويفشل أيضا في استيعاب وجود تيارات سياسية مختلفة، ولكنها تتفق علي حتمية إسقاط النظام الفاسد الذي جثم علي صدورنا ثلاثين سنة! ويعيدنا الفيلم إلي ذكريات الثمانية عشر يوما الأولي من الثورة، بكل ماحملته من أحداث، ولكننا بدلا من أن نتابع الجموع الغفيرة مثل كتل من البشر بلاتفاصيل، ندخل الي قلب الحدث من خلال شخصيات الفيلم، الذي حرص علي نظرته الساخرة، وخاصة في وجود مواطن مصري "سعيد"مغيب تماما، يري المشهد عن قرب ومع ذلك لايفهم ولايستوعب مايحدث ويظل يردد مثل غيره، هم العيال بتوع التحرير عايزين إيه بالظبط؟ ولأن زن النساء له قوة السحر، يستجيب سعيد لرغبة زوجته مع ايقاف التنفيذ "مي كساب" علي تحقيق بعض المكاسب السريعة، وينضم إلي رجل أعمال من الحزب الوطني يحشد الناس للذهاب لميدان مصطفي محمود، لإعلان تأييدهم لمبارك والهتاف ضد بتوع التحرير، مقابل مبلغ من المال، ويذهب سعيد مع عشرات غيره ويحمل صور مبارك ويردد الهتافات، ولكنه يشعر ببعض الضيق، وكأن ضميره يؤنبه علي هذا، ولكن الموقف يتعقد عندما يتم شحن جمهور ميدان مصطفي محمود، لمواجهة شباب التحرير، والتراشق معهم، ويكتشف أن دوره انتهي وأن هناك جيشا من البلطجية تم تجهيزهم لمواجهة الثوار، وهنا يدرك مدي الجرم الذي اقترفه في حق شقيقته وفاء، وصديقه الثائر"أحمد صفوت" وآلاف غيرهما من الذين خرجوا من أجل المطالبة بالحرية، لحظة وعي يصرخ فيها علي طريقة نور الشريف في فيلم سواق الأوتوبيس "ياولاد الكلب " يقصد الفلول والمواطنين الشرفاء، وهم مجموعات لاعلاقة لهم بالشرف ولكنهم في الحقيقة مجموعة من البلطجية المأجورين، الذين يدفع بهم في كل مظاهرة لمواجهة الثوار والصدام معهم! ولأن أحداث الثورة لم تنته بعد، وقد مر عام وعدة أشهر ولم نتحرك للأمام في طريق تحقيق أهداف الثورة التي مات من أجلها الآلاف! فإن سيناريو الفيلم يلجأ لتعليًه سقف السخرية، ويقفز بنا ثلاثين عاما للمستقبل، بعد زواج سعيد وإنجابه لثلاثة شباب يمثلون التيارات السياسية المختلفة إخواني وسلفي وليبرالي "حمزاوي"، بينما لاتزال محاكمة حسني مبارك شغالة ولم يتم حسمها و"سعيد" وقد أصبح كهلاً مُتهالكاً يتابع علي شاشة التليفزيون "المخلوع" وهو محمول علي سريره إلي قاعة المحكمة! السيناريست أشرف توفيق أضاع فرصة تقديم فيلم كوميدي تتوافر له كل عناصر النجاح، من أجل أن يقدم بعض المشاهد التقليدية الضعيفة التي دارت بين الشقيق الأكبر وزوجته الشرسة "بدرية طلبة"، أما اختيار ليلي جمال لأداء دور الأم فقد أفقد الشخصية فرصة التعاطف معها تماما، حيث لاتجيد إلا الصراخ والولولة، التي تحسبها كوميديا، أما مي كساب فهي اختيار جيد، لأن الشخصية تتوافق مع موقفها الحقيقي من الثورة فقد كانت ضمن حزب الكنبة "ولاتزال" ولم يحدث لها بعد مرور عام كامل أي نوع من الوعيَ أو حتي مراجعة النفس، وبعد أن زاد وزنها بشكل ملحوظ أجدها وقد خسرت نفسها كمطربة وممثلة أيضاً! الوجه الجديد "غرام سعد" التي لعبت دور وفاء شقيقة سعيد، ينتظرها مستقبل ولكنها في حاجة إلي توجيه، ورعاية وتدريب صوتي، ويدخل أحمد صفوت الي عالم السينما بعد نجاحه في مسلسلات التليفزيون وقد أدي شخصية الشاب الثوري بسلاسة ووعي فلم يزايد أو يبالغ فأضفي علي الشخصية بعداً إنسانياً، ويبقي أحمد عيد نقطة مضيئة في الفيلم بأسلوبه الذي يجمع بين الشجن والسخرية ولايميل إلي التهريج أو المبالغة لانتزاع الضحكات، وتباين أسلوب المخرج طارق عبد المعطي فلم يقدم أي ملمح إبداعي في كثير من المشاهد وخاصة داخل شقة أسرة سعيد، ولكنه في مشاهد الميدان قدم مزجاً مقبولاً بين المشاهد الوثائقية من أحداث الثورة وبين المشاهد الروائية لشخصيات الفيلم داخل الخيام وأثناء الاشتباك والكر والفر بين الثوار ورجال الشرطة، ثم عند نزول الجيش بمدرعاته ودباباته للمرة الأولي للميدان، أو في أحداث موقعة الجمل! لدرجة أنك يمكن أن تعتقد أن هناك مخرجين للفيلم وليس شخصاً واحداً، وعلي كل الأحوال فقد أثار فيلم "حظ سعيد" داخل النفس ذكريات الماضي القريب الذي عايشناه وتابعناه أثناء أجمل 18 يوما في تاريخنا المعاصر!