يقول يونسكو: إنه لا وجود للحاضر لأنه إما يكون استرجاعا للماضي أو تطلعا للمستقبل. ومن ثم اللحظة الراهنة هشة، فانية، تتمرغ في التيه بين الأمس والغد.كان يلهث دوما وراء اللحظة قبل مواتها.. يسعي لترويض وحشيتها، يقتنصها، يبرز جمالها، يثبت روعتها وأيضا زوالها، فالزمن غريمه نازله بموهبة فذة.. هو المصور العبقري فاروق إبراهيم. عام مضي علي رحيله لم يفارقني قط حضوره كلما دلفت إلي أخبار اليوم، فأشعر بغصة تجتاح الروح، فروح المكان الذي أعتبره بيتي الثاني تنقصه تلك الطاقة المبدعة والحيوية الدافقة التي تميز بها المولع بتخليد الحاضر. لقد شيد جدارية شاهقة لعظماء النجوم في السياسة، الصحافة، الأدب والفن من خلال عدسة مرهفة، نادرة في الانتقاء للحظات الفريدة المكللة بالعمق والبهاء. فاروق إبراهيم هو ذاكرتنا الحلوة، هو ألق أمس مدبر تسرب في متاهة من يشوهون الجمال ويبتسرون الحياة فتبقي لنا زمن (الفيمتو) الإبداعي من الأبيض والأسود، الألوان النظرة اللفتة، لغة الجسد التي تركها لنا عاشق النجوم. هو النقيض لمن يسعون اليوم لتقويض الهوية المصرية، لطمس الذاكرة المكتظة بالرموز في كل مجالات العطاء الإنساني، هو أراد الخلود لكل ماهو جميل، ثمين، وهم من يطلقون علي أنفسهم التيارات الدينية يتلمظون لمحو ذاكرة وطن بأسره، بدلا من محو الأمية!! منذ بدايات ابن أخبار اليوم في أطر حجرة التصوير المظلمة حيث انطلق إلي كل ماهو مضيء في دنيانا فيبعث اللحظة المندثرة، لأم كلثوم، عبدالحليم، يوسف السباعي، محمد عبدالوهاب، نجيب محفوظ، إحسان عبدالقدوس، أحمد رجب، سعاد حسني، أحمد مظهر، ليلي علوي، الرؤساء، الزعماء والقائمة شاهقة. لقد بزغ فاروق إبراهيم في عصر العمالقة الذين كانوا ينقبون عن الموهبة أينما كانت وكيفما كانت، زمن مصطفي أمين وعلي أمين، قمم تتقن اقتفاء أثر الماس المطمور المتعطش للتوهج، والإبداع، كان جيل من العظماء يبحث عن كل ماهو حقيقي، يضعه في الصدارة، يكتشف أين تكمن العبقرية فيهبه الفرصة، لا كما حدث في مصر فيما بعد منظومة محاربة كل موهبة، كل شيء أصيل، إحباط كل إشراقة تصارع من أجل البزوغ فامتطي (المديوكر) المشهد العام في كل المجالات إلا قليلا، وهو المبرر الدميم لعدم التغيير، فعملوا علي إفقار وتفريغ الوطن من ثروته البشرية بحجة (مفيش حد) طبعا مادامت عملية اغتيال المواهب والكفاءات آلة جهنمية تسحق وتطفئ وميض كل نجم يسطع. فالعمالقة يتوقون إلي العمالقة، والأقزام يلهثون وراء الأقزام في كل المجالات، يبرزونهم. أما فيما مضي قبيل تلك السنوات النافقة، كانت تلك الأجيال ترنو لإعلاء مجد مصر، كانت وطنيتهم، وانتماؤهم يسبق (الأيجو) أو الأنا الذات، كانوا يحلمون بمصر مهيبة، تسكر العالم بكنوزها الإنسانية، والإبداعية، ويتحقق دوما الحلم، فتجاوزت موهبة فاروق إبراهيم أشهر المصورين في العالم مثل سيسيل بيتون. أما اليوم في كثير من الأحيان فالمجد للأكثر ضآلة وإظلاما، وهو بطبيعة الحال مجد زائف فان. إن الفن التشكيلي والكاميرا يلتقطان الروح فيتحقق التوغل في حقيقة النفس وأغوارها وهنا أذكر رواية (لوحة دوريان جراي) لأوسكار وايلد حيث تبرز تلك الرواية الاستثنائية كيف تظهر اللوحة التي تصور البطل كم الشرور التي تنهش روحه، فيظل شخصه يكتنز الجمال والحسن الأبدي أما اللوحة فتشيخ وتنضح بالبشاعة كلما مر الزمن وكلما تكاثرت جرائم البطل الذي يعقد تلك الصفقة مع الشيطان. يقول يونسكو: »إنه لا وجود للحاضر لأنه إما يكون استرجاعا للماضي أو تطلعا للمستقبل« ومن ثم اللحظة الراهنة هشة، فانية، تتمرغ في التيه بين الأمس والغد، فقط إذن الإبداع هو الذي يخلدها هو البحث عن الزمن المفقود. لقد صور فاروق إبراهيم كل نجمات مصر قبل هيمنة التيارات الدينية كانت ملابسهن تكشف عن بعض المفاتن ووهج الأنوثة الراقية ولم نشعر يوما بابتذال أو فجاجة أو رخص يستجدي، ولم تكن هناك تلك المظاهر والمزايدات التي تغلف أحيانا أنيميا الضمير والعفة الحقيقية، فمن الممكن التدثر بأطنان من القماش وتبقي لغة الجسد مراودة، تنثر الغواية. ويكفي اليوم ما تبثه فضائيات تسمح بها الدولة من إعلانات (بورنو) تخدش الحياء وأتعجب من وزارة الصحة وحماية المستهلك والقائمين علي الإعلام بالسماح لهذه (المسخرة) والتدليس والازدواجية ولا أعرف ما الذي يخدش الحياء أكثر هل ذراع مريم فخر الدين أم تلك البذاءات التجارية، عن تحول المواطن المصري إلي الرجل الأخضر (هالك) في مجال الفحولة!! بألفاظ أتعفف عن تكرارها وأتساءل هل شعر فاتن حمامة السافرة ينال من الفضيلة، النبل والرقي أم هذا العار المرئي والمسموع. وأخيرا أذكر المصور النابغ عندما التقط لي صوري التي يتم نشرها في آخر ساعة منذ سنتين، كنت في حالة جسدية ونفسية شديدة السوء، خضعت لجراحة لم يمض عليها سوي 15 يوما وبدأ في التقاط الصور فكانت البداية محبطة فبدوت منزوعة الروح، منهكة، بي حزن مقيم، مبعثرة الطاقة، ودهشت عندما قال لي شغلي أوبرا فأدرت (كارمن) ثم بافاروتي ولم تنجح المحاولة لاستعادة الحيوية، ولم ييأس وطلب مني أن أصرخ حتي تعود الروح المفقودة. قال: إصرخي علشان الصورة تطلع حلوة«.