تشهد البلاد في تلك الأيام العصيبة صراعا وحراكا سياسيا غاية في الأهمية والخطورة ذلك أنه سيحدد مصير الأمة لسنوات طويلة. والحقيقة أنني أشفق علي هذا الشعب الطيب المسالم الذي تبلغ نسبة الأمة بين أبنائه ما يفوق 40٪ من هذا (التوهان) الذي أفتونا فيه بداية من الاستفتاء علي الدستور في 19مارس من العام الماضي والذي تم فيه الاستفتاء علي دخول (الجنة أوالنار) وما صاحبه من جدل سياسي شديد علي مبدأ الدستور أولا أم البرلمان وكان لهم ما أرادوه بالفعل وهو انتخاب البرلمان أولا ليتحقق لهم أي التيارات الإسلامية الأكثر تنظيما والأقوي من حيث القدرات المادية والمالية نسبة الأغلبية الساحقة في البرلمان لكي يشرعوا ويقرروا كل ما يتفق مع توجهاتهم الشرعية والفكرية في ظل أغلبية قهرية خططوا لها منذ البداية ومازالوا..ثم أدخلونا في (توهان) آخر، الدستور أولا أم انتخابات الرئاسة وحتي لا يغضبوا أحدا قرروا أن يكون الدستور أولا وحتي تمضي الأمور بسلاسة وشرعية وطبقا لمخططاتهم وأهوائهم علي أساس أنهم سيسيطرون علي لجنة إعداد الدستور. وبالفعل قرروا أن يتم تشكيل الجمعية التأسيسية (مائة عضو) التي سيعهد إليها بإعداد الدستور علي أن يتم انتخاب 50٪ من أعضائها من أعضاء مجلسي الشعب والشوري المنتخبين طبقا للأوزان النسبية للأحزاب و50٪ من خارج مجلسي الشعب والشوري أي ال85مليون مواطن إجمالي مجموع الشعب المصري ضاربين بذلك عرض الحائط بكل أسس وقواعد إعداد الدساتير في معظم الدول الديمقراطية الراسخة وآراء أساطين وفقهاء القانون الدستوري المصريين المشهود لهم عالميا في هذا المجال وغير مكترثين بتاريخ وخبرة مصر في مجال إنشاء الدساتير اعتبارا من دستور 3291 والذي يعد من أفضل دساتير العالم ومرورا بدستور 4591 وانتهاء بدستور 1791 وهي الدساتير التي وضعها أئمة وفقهاء الدساتير المصريون في تلك الأوقات وحاول الحكام في بعض الحقب تعديل بعض من بنودها. ويؤكد أساتذة القانون وفقهاء الدساتير أنه من غير المعقول علميا ولا المقبول ديمقراطيا أن يقوم مجلس الشعب بإعداد الدستور المنوط به تنظيم عمل كافة مؤسسات الدولة بما فيها مجلس الشعب نفسه.. كما أن الدستور هو وثيقة (العقد الاجتماعي) لكافة أبناء هذا الوطن والذي ينبغي أن يظل لعقود طويلة وليس لفترات محددة كما ينص عليه الدستور بالنسبة لمجلس الشعب ورئاسة الجمهورية مع العلم بأن البرلمان الحالي مطعون عليه بعدم الدستورية ومن المتوقع أن يتم حله وإعادة انتخابه في وقت لاحق إذا ما أصدرت المحكمة الدستورية حكمها. ونحن لسنا ضد أن يحكم التيار الإسلامي أو غيره البلاد لفترة ما قد تطول أو تقصر ولكننا ضد إقامة نظام الدولة علي أساس الاحتكار أو التحكم أيا كان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو حتي عسكريا وإنما نطالب بضرورة إتاحة الفرصة أمام جميع التيارات الفكرية والعقائدية للمشاركة في حكم البلاد طبقا لمدي ثقة الجماهير فيه والحكم في ذلك في النهاية لصندوق الانتخابات طبقا للقواعد الديمقراطية السليمة التي يجب أن تحكمنا خلال المرحلة القادمة. لقد عشنا مراحل صعبة خلال الستين عاما الماضية ذاقت فيها الجماعات الإسلامية وغيرها مرارة القهر والظلم وانتهاك حقوق الإنسان ونرجو ألا تعود مثل هذه الأجواء مرة أخري تحت أي مسمي أو حكم أي فصيل وأن يتعايش كل أطراف وأطياف هذا المجتمع مع بعضهم البعض في خير ووئام وسلام في إطار دولة مدنية حديثة يحكمها القانون والدستور ويسودها مناخ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومبادئ حقوق الإنسان.. وتشير الدلائل والمؤشرات إلي أن رصيد هذه التيارات من ثقة الشعب الذي أقبل علي انتخابهم قد بدأ في الهبوط والنقصان في ضوء معاملاتهم وتعاملاتهم السياسية والحياتية وأن ذلك سوف ينعكس عليهم في أقرب اختبار علي الثقة فيهم حيث يتهمهم البعض من خصومهم ومنافسيهم بأنهم (يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون) مشيرين في هنا الصدد إلي تصريحاتهم أثناء الإعداد لانتخابات مجلس الشعب أنهم لا يستهدفون ولا يسعون إلا للحصول علي 52٪ أو علي الأكثر 03٪ ثم تغيرت الأقوال لترتفع النسبة إلي 54٪ وفي النهاية حصلوا كما كانوا يهدفون ويخططون علي أكثر من 05٪ من إجمالي مقاعد البرلمان وأصبح لهم ولشركائهم السلفيين الأغلبية الساحقة والسيطرة علي البرلمان.. وبالتأكيد فإن ذلك هو نفس السياسة والتكتيك الذي سيتبعونه في تشكيل لجنة إعداد الدستور ثم يتوجهون بعد ذلك لانتخابات الرئاسة التي قالوا في البداية إنه لن يكون لهم مرشح إسلامي ثم بدأت التصريحات تتحول وفي النهاية سنفاجأ بالإعلان عن مرشحهم الرئاسي وبذلك يكونون قد أحكموا السيطرة كلية علي مقاليد الحكم والبلاد برلمانا ودستورا ورئيسا. والغريب في الأمر أننا ونحن منهمكون ومشغولون في الإعداد للدستور والتمهيد لانتخابات الرئاسة نفاجأ أيضا بتصعيد الحملة ضد حكومة الدكتور الجنزوري واتهامها بالفشل في إدارة شئون البلاد وحل مشاكل الجماهير بهدف إسقاطها وتشكيل حكومة يدعون أنها ستكون ائتلافية.. كيف ومع من؟ والأغلبية لهم في البرلمان وبدلا من أن يساعدوا هذه الحكومة (حكومة الإنقاذ الوطني) والتي ستنتهي مدتها عند انتخاب رئيس الجمهورية نهاية شهر يونيه القادم ويدعموها لحل المشاكل التي تواجهها البلاد وخاصة مشكلة الأمن حتي ينهض الاقتصاد وتتحقق التنمية الشاملة المنشودة ويعم الرخاء علي جميع أفراد المجتمع نجدهم علي العكس من ذلك يشنون عليها حربا شعواء ويتهمونها بالتقصير واختلاق المشاكل التي ترجع في الأساس إلي حالة الانفلات الأمني والتدهور الأخلاقي وهو ما يؤدي إلي كثرة المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات الفئوية وقطع الطرق وترويع المواطنين وهي الأسباب التي يمكن أن تشل حركة أقوي الحكومات والاقتصاديات في العالم. ويؤكد خبراء القانون وعلم النفس أن تزوير إرادة الناخبين أشد قسوة وأكثر جرما من تزوير الانتخابات نفسها وبالتالي فإنه ينبغي علي كل المسئولين والسياسيين والإعلاميين أن يقوموا بتوعية جماهير الناخبين وخاصة البسطاء الطيبين منهم بحقيقة ما هم مقدمون للتصويت عليه سواء كان استفتاء أو انتخابات برلمانية أو رئاسية بعيدا عن مفهوم (الجنة والنار) أو سيطرة وتحكم الأغلبية وخاصة بعد ثورة يناير التي أنارت العقول وأسقطت جدار الخوف لدي جموع المواطنين واتساع تأثير تكنولوجيا المعلومات علي توعية وتوسيع مدارك المواطنين بما يجري حولهم من أحداث وتطورات وخاصة تلك التي تشكل أسس ومفردات حاضرهم ومستقبلهم.. وهنا أود أن أشير إلي ما حدث بالنسبة للجنة إعداد الدستور (المطعون في شرعيتها) في اجتماعها يوم السبت الماضي لانتخاب أعضاء اللجنة من خارج أعضاء البرلمان وعددهم 3782 شخصية وقيام مجموعة من ممثلي الأحزاب الأخري الليبرالية بالانسحاب من الاجتماع وعدم التصويت يقينا منهم أن هناك رغبة من أحزاب الأغلبية في الاستحواذ علي صياغة الدستور.. مؤكدين أن الدستور لابد أن يكون توافقيا وبعيدا عن سيطرة أي فصيل سياسي.