هل ممكن.. مهما بلغت من العمر.. أن تستغني عن احتياجك لأمك...؟ هل ممكن أن تمر الأيام.. وتبهت صورتها الحلوة من الذاكرة وإن ظل تأثيرها يمدك بأسباب القوة والحكمة في كل مراحل حياتك؟.. الإجابة.. العكس تماما.. كلما امتد بنا العمر.. نعرف مقدار الاحتياج والعطش للتي هي فقط أحبتنا أكثر من نفسها وحياتها وسعادتها. وفي لحظات الشك والإحباط والإحساس بأن الكل قد باعوك.. يا ريتشارد يأتي طيفها.. ليقوي ظهري ويشد من أزري ويذكرني بالمرأة التي أحببت أن أكونها.. قوية مقاتلة.. مؤمنة.. ذات عزة وكرامة وكبرياء لاينال منه شئ كيف وأنا إبنة رحمها.. التي غذت فيه إحساسها.. بأن انتماءها.. لعالم النساء لهو فخر يغار منه أعتي الرجال.. فقط لو عرفتم!! كلما مرت السنون أحسست كم كانت تلك الإنسانة السابقة لعصرها بثقافتها وإحساسها الجميل.. بأن انتسابها لعالم (النساء) حتي لو كن في الشرق الظالم.. القاهر للجنس الذي يخشي قوته وتأثيره.. شيء يدعو للفخر والاعتزاز.. فهي كانت الاستثناء المبهر في أوائل النصف الأول من القرن العشرين.. التي رباها أبوها المتعلم.. المتحضر العادل .. القوي.. رغم أن الله قد رزقه بنصف دستة من البنات كان يري فيهن النعمة والهبة والهدية الربانية عكس كل اتجاهات المجتمع الذكوري الذي كان يري فيهن مصيبة ومحنة وهو قدرهم. هدية الله سبحانه في مخلوقات ملائكية: هن الصحبة والونس والشريكة والحبيبة ورفيقة الأيام الحلوة والمرة معا.. كان يري فيهن مخلوقات.. انسانية حباهن الله بكل الخصال الإنسانية المتوافرة في الذكور.. ثم أضاف إليهن خصوصية تجعل لهن (درجة) علي الرجال.. ليس في المسئولية المالية.. فقط.. إنما في المسئولية العاطفية والقدرة علي التحمل.. كل أنواع الضغوط والظروف بزيادة خاصية الأمومة (الشعور) الذي تفوق علي كل أنواع المشاعر الجميلة والإيجابية التي ممكن أن تخطر علي بال أي إنسان. من تلك الزاوية وقد عرف بفطرته أن المجتمع الشرقي بدائي المشاعر ونواقصه المتخلفة.. سوف يتكاتف لكي يسحب من بناته كل إحساسه لديهن بالإحساس الجميل بالذات وقدرتهن علي التحقق واكتسابهن قيم التقدير والاحترام.. أسوة بأقل أو أكثر الرجال.. تميزا ونجاحا وتحققا لذلك.. كما قالت لي أمي.. وكنت أراها.. غير كل الأمهات ولدت عام23... وتوفيت عام 28 عن عمر يناهر 95 سنة بالتمام والكمال.. واثقة من نفسها.. إحساس رائع أن لا أحد يتميز عنها أو يتفوق.. أو يتكسب حقوقا عليها. لمجرد أنه رجل وأنها امرأة. لم أكن أعرف من أي نبع كريم جاءتها تلك الثقة وذلك الإحساس الغريب علي أمهات جيلنا.. الذي أصبح هو الآخر في نهاية العمر.. يهاجم استقلال النساء.. وكانت الإجابة علي عكس ماتوقعت.. إنه الأب الذي هاداه.. الله لهن.. أب .. نهل من الثقافة فوق التعلم.. من كل المنابع الشرقية والغربية وآمن بها.. ورأي أن بناته هن أحق بالاهتمام من ذلك المنطلق.. أكثر من الولد اليتيم الذي جاء بعد 6 بنات. كان يعرف أن المجتمع سوف يسانده في أخطائه.. قبل حسناته وسوف يكفل له كل أسباب التفوق.. والعكس سوف يحدث للبنات. ففعل كل ما استطاع حتي يبث الثقة ويحقن شرايين العقل والقلب بالفخر.. بالأنوثة.. وانتمائهن لعالم تاء التأنيث.. العجيب بمفرداته التي تلون (الحياة كلها وليس عالم الرجال) بأجمل المشاعر والألوان والبهجة والفرحة والعيلة والأولاد..و البيت.. يعني امرأة. أسرة يعني امرأة وخيالها وواقعيتها.. ولملمتها لأعضائها في الوقت الذي يطفش فيه الرجال تحت أي نزوة أو أي أنانية. من هذا النبع الرائع الحكيم.. عاشت أمي .. وتميزت وكان تأثيرها علينا رغم قصر مدة يقظتها ووعيها قبل أن يصيبها المرض في مقتل وهي لم تبلغ الأربعين. كأنها مثل أبيها الذي توفي في الأربعينيات.. قد شعرت أن الحياة قصيرة فعمدت أن تحفزنا وترشدنا إلي المهم في الحياة قبل أن يخطفها الموت فجأة.. وفي ذمتها 6 أطفال. ❊❊❊ عندما أقابل أي إنسان خاصة في عيد الأم أجدني مندفعة أعدد مآثر الغالية ذات العمر القصير في الحياة الطويل في الأثر الإيجابي علي حياتنا. كعكس النساء في الشرق.. كانت تري أن العقل هو ميزان الحياة.. وهو الذي يفرق بين أبناء العوام وأبناء الطبقات المتوسطة والعليا إن فهموا.. أن المال.. لا يخلق وعيا.. إنما يخلق فقط قدرة علي التملك والاقتناء وشراء البني آدمين.. القابلين للشراء ابتداء من زواج المصلحة إلي شراء الذمم والضمير.. لذلك ركزت علي تلك النقطة بالذات.. كانت تصر علي تعدد منابع الثقافة المختلفة وتدفعنا دفعا إلي إدراك جمال الكلمة.. وروعة الصورة ومتعة العين والأذن والإحساس والعقل في الفيلم السينمائي.. الذي يؤثر فوريا أكثر ماكانت تأخذه الكتب سنوات للوصول لنفس التقدم. كيف ياأمي قد عرفت ذلك.. مع أنك لم تعملي يوما وكنت ربة المنزل المتفرغة لنصف دستة من الأطفال.. والإجابة لأنها تربت صح علي يد رجل صح.. بجانب (جدة) كانت تقليدية ولكن كان القرآن معلمها فكانوا توليفة أسرية متميزة. وكان لابد أن تكون النتيجة علي هذا الشكل الرائع الذي وصل إلينا. وجعلنا نحن الآخرين.. مخلوقات خاصة بمعني خصوصية تقدير العقل والفكر وتنوير الفنون.. وفهم أولويات الحياة ولم يكن المال.. هو من تلك الأولويات.. إلا فيما يحمي كرامتك.. ويصونك من سؤال اللئيم أما الأشياء الأخري.. التي يسهل استغناؤهم عنها لا تقتني إلا بإعمال العقل والاحتماء بمنابع القيم الجميلة وإدراك أن الدنيا... قادرة علي احتواء الجميع باختلافاتهم الفكرية والعقائدية وقبلها الشخصية.. وإن بؤرة الشر والأنانية التي يتربي فيها كثير منا سوف تحيلنا جميعا إلي مستنقع الغم واليأس والتعاسة.. كانت تلك الكلمات المضيئة التي مازالت تضئ قلبي حتي اليوم هي حصاد عمر.. أمي القصير.. هي التي جعلتني المرأة والأم والزوجة والصديقة والقريبة والزميلة والجارة. التي أنا عليها اليوم ولو كان فيّ أي شئ نبيل أو شريف أو متحضر فهو منك ياأمي.. في وقت.. كانت معظم الأمهات.. يكسرن في بناتهن أي إحساس بالتميز.. وكان لهن العذر. فهن تربين علي أن البنات يجب أن يكن جميلات وغبيات حتي يستطعن أن يعشن في عالم الذكورة.. الذي لايري.. إلا.. جسدا.. وإثارة وقهرا وطاعة .. لذلك أشكرك ياأمي في عيدك.. ❊❊❊ لا أعرف كيف كان يمكن أن تتصرف أمي.. التي كانت لا تقبل أن يعاملنا أحد بمجرد الاستهانة لمجرد أننا بنات ولسنا صبيانا.. وتدافع عنا بشراسة (أم) تحمي الصغار.. من الوحوش الضارية.. كيف سيكون تصرفها.. إذا عاشت في عصر.. انتهاك عرض سميرة ابراهيم.. وتكاتل كل قوة الشر.. لعدم محاسبة الجاني.. هل كانت ستنزل الشارع وتصرخ بعز صوتها وتقول .. يسقط الظلم والتواطؤ.. والغباء السياسي؟ أم كانت ستحشد الجماهير.. النساء قبل الرجال وتشد الرحال إلي بيت سميرة وتقول لها.. لا تحزني فإن الله معنا ولكن الله يحب (عبده) الذي يسعي .. كانت سوف تؤلب العالم ضد من ظلموها.. كانت سوف تكتب لكل منظمات حقوق الانسان ومنظمات حماية المرأة.. تنقض الحكم.. وتمشي في الشوارع تكلم طوب الأرض.. لتفهمهم أن (عقليات نظام مبارك) مازالت تحكم وتفهمهم أن الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه يرفع قيم الرجولة ويؤصلها في نفوس الناس، أما الكذب والمكابرة ومحاولة طمس الحقائق حتي لا تقولوا: إن المدنيين قد انتصروا علي العسكر.. وهي كلمة غريبة. كأن الجريمة لاتخرج من رحم .. البيادة. كأن هتك عرض الثائرات مسموح. أما لو كانت ابنة الفريق فلان واللواء العلان لانقلبت الدنيا وأقيمت عليها الحروب. وكان هذا هو درسك الأول يا أمي. عندما تحكمين علي شيء. رديه : إلي .. أصله. وأسألي نفسك لو كانت بنتي وابني أو نفسي في نفس الوضع؟ سوف يكون هذا حكمي.. هو هذا الذي ألقيه جزافا علي الآخرين.. وكانت ستقول لي: عندما يهاجمني اليأس من إصرار الظالم والمجرم والقاتل والسارق ومنتهكي الأعراض علي الاستمرار في غيه. كانت تقول ألم تقرئي قرآن الله؟ إن الله يمد للظالم في ظلمه.. وهذا جزء من عقابه حتي يغرق أكثر وأكثر في خطاياه. ويمد لهم في العمر ومع ذلك لا يتوبون ولا يدركون حجم الخطر الذي يتهددهم. ثم يأخذهم بغتة .. أخذ عزيز مقتدر. ثم تذكري دعوة المظلوم.. تطلع لسابع سماء ويجيبها الرحمن. وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين. فإلي المفتخر بحكم محكمة عسكرية تعرفينها. قبل أن يعرفها.. نحن ننتظر في سعينا لإظهار الحق حتي آخر نفس.. نحن ننتظر .. انتقام السماء. إلي المجرم.. أهديك حياتك المقبلة إلي كل مجرم وليس منتهكي عرض سميرة. عرضكم هو الذي انتهك.. وإن مد الله في تصوركم أنه انتصار للشر علي الخير.. لحين. فلسوف يطاردكم حكم الناس وقبلها حكم ضميركم وانتم أعلم بما فعلتموه. أنتم كل الذين اشتركوا في تلك الجريمة الصريحة وكل الجرائم الأخري التي طواها النسيان بعدما دفنتم ضحاياكم .. في صحاري مصر. وهم المفقودون من أيام الثورة ولم يعثر عليهم حتي اليوم. ومعهم المختفون في أقبية أمن الدولة.. وعندما تفضحوا ربما علي جريمة لم ترتكبوها ومع ذلك يحكم عليكم.. وقتها سوف تعرفون أنه القصاص العادل لسميرة وأمثالها. وربما يصدر ضدكم حكم السماء. وتعيشون وسط ضحاياكم ولكن بوعي وعقلية الإنسان الذي ينال عقابه. سوف تتذكرون .. إن الله اعطاكم قرصة التوبة والاعتراف بالذنب. واحتمال حكم بسيط كان يمكن أن يرحمكم.. من حكم السماء وتذكروا .. اسماء الله الحسني فمنها .. المنتقم .. الجبار.. العادل.. ❊❊❊ إذن .. أركع لك يا أمي امتنانا. فلقد انقذتني وأنت بعيدة جسديا.. ولكنك ساكنة الروح والقلب.. والعقل. من صدمة تلتها صدمات. من قدرة هؤلاء علي الظلم وانكاره. هذا الذي سوف يوصلهم إلي مصير المخلوع كل ظالم.. وكل مخلوع.. سوف يأتون إلي الله صارخين .. لإعطائهم.. فرصة لنصلح أمر سميرة وإخوانها. لنطبطب علي جراح أمهات الشهداء. لنتوب ونتعجب .. علي الغدر بالثورة. لنعيد للفقراء حقوقهم السليبة ومعيشتهم التي تصعب علي الكافر. تصوروا لم تحصلوا حتي الكفار .. والكفار ليس بالدين فقط. إنما الكافرون بالحق والصواب والعدل والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية. سوف تبكون وتتضرعون لفرصة في لحظة.. لا ينفع فيها .. لا مال ولا بنون.. ولا سلطة ومجلس عسكري ولا مواد دستورية علي عينك يا تاجر. ولا مادة 28.. تحصن النية في التزوير. ولا عدم محاسبة نظام مبارك. ولا محاولة تهريب رجال مبارك.. من مقصلة المحاسبة والقوانين سيئة السمعة. ولا الكيل بمكيالين ولا رمي بلاويكم علي الثوار .. ولا قتلهم ولا اغتيال مشجعي الأهلي... ولا الإصرار علي الظلم ولا الاتفاق مع الأمريكان والإسرائيليين.. ولا التآمر ضد الفلسطينيين. لن يشفع لكم أحد.. وسوف تكونون مثل الذين ذكروا في قرآننا الكريم.. أنتم من لاينظر إليكم الله يوم القيامة... ذلك هو انتقام السماء. لمن أهدر حق سميرة والثورة والثوار في هذا.. يا أمي .. يكفيني لانتشالي من اليأس ويغزو الأمل والتفاؤل والطمأنينة. صدري وقلبي المشتاق إليك.. بشدة.. بلهفة .. طفلة.. واحتياج مراهقة.. وحيرة زوجة.. وخوف أم.. ❊❊❊ من أجلك يا أمي .. أكتب كل عيد.. من أجل ضحكة حلوه.. وضمة أمومية. ونصيحة غالية.. ترشدني حتي آخر العمر. أهدي إليك كلماتي. وأدفع عمري كله.. حتي أضمك وأري وجهك مرة واحدة. بعيدا عن أحلامي. ولكن اليوم أتذكرك وأقوي. وأصرخ في سميرة.. أنت أشرف من الذي تصور أنه.. هتك عرضك. عرضه هو .. الذي أصبح من اليوم مستباح.