في العدد الماضي من »آخر ساعة« كنا قد أجرينا تحقيقا عن الحريق الذي التهم أشجار الحياة من نخيل وزيتون في المراقي بواحة سيوة ومن أجل القيام بذلك قطعنا آلاف الكيلو مترات في صحراء قاحلة وطقس غير مستقر وجو متقلب. وكان هذا واجبنا تجاه أهلنا في الصحراء الغربية أن نأتي إليهم ونقدم لهم يد العون في هذه المأساة التي اهتزت لها مشاعر المصريين كافة.. وبعد الانتهاء مباشرة من أداء واجب العزاء في هذا الحادث الأليم.. دعانا مضيفنا الذي نراه لأول مرة لحضور حفل عرس وموكب أفراح.. ووجدنا أنفسنا لا نرفض الدعوة بل ونقبل عليها وكأننا كنا نتوقعها، إذن في الأمر شيء غير عادي علي الإطلاق لأن الانتقال من حالة الشجن ومشاعر الألم إلي حالة السعادة وأحاسيس الفرح أمر صعب جدا.. لكن الرفض الذي لم يأت علي بالنا كان وراءه الفضول الصحفي وأحاسيسنا بأننا سنفوت علي أنفسنا فرصة تسجيل لحظة من عمر الناس في مكان له جماله وجاذبيته وخصوصيته وعاداته وتقاليده. فنحن في سيوة الساحرة وكنز الكنوز والواحة التي لاتبوح بأسرارها إلا للرمال والكثبان لتدفنها بين تلابيبها وتقبض عليها في أحضانها. فمنذ الوصول إلي الواحة القابعة في صحرائنا الغربية والتي تقع علي بعد 56 كم فقط من الحدود المصرية الليبية.. بدأنا نشعر أننا في مكان مختلف بكل المقاييس فمن أجل الوصول إليها قطعنا طريقا طويلا يخترق صحراء منبسطة ليس فيها حياة علي امتداد الأفق. هذه الواحة الخلابة والجوهرة المصونة في بحر الرمال.. كان لابد من إزاحة بعض ذرات الرمال عنها لنري جانبا من روعتها وسحرها. عند وصولنا إلي واحة سيوة التي تبعد 71 كم عن المراقي (إحدي واحاتها).. لفت نظرنا مناظر أشجار النخيل الباسقة التي تعانق الجبال في شموخها بعد مسافات من الكيلومترات قطعناها من السهول.. وفورا ظهرت لنا مدينة شالي القديمة وأمامها كان يقع مطعم ضيفنا الذي وقف أمامه في انتظارنا وقد مررنا عليه مرتين لنجد من يلوح لنا بأن المكان هاهنا.. إنه الشيخ محمود عمر الذي حدثه زميلنا العزيز خالد جمال ليساعدنا في أداء مهمتنا التي كنا قد انتهينا منها بالفعل ولكن كان يجب أن نستريح خاصة سائقنا عم عبدالحميد الذي لولاه ماكنا قد استطعنا القيام بمهمتنا الشاقة وبمجرد جلوسنا في واحته الصغيرة التي بها مطعم و4 غرف سياحية وجدناه يقول لنا هلم بنا لنذهب لحفل عرس قريب له.. فوجدنا الجميع يركب السيارات والموتوسيكلات وبعد بضع دقائق وصلنا للمكان المنشود.. وجدت من يرفع ستارا ويتكلم باللغة السيوية (الأمازيغية) لتأخذني سيدة وتخترق بي جموعا من الأطفال والنساء منتشرة في فناء واسع لتصل بي إلي درجات سلم يؤدي إلي منزل فسيح به غرف عديدة يجلس فيها نسوة وأمامهن أطباق أو صوان من الطعام.. ووجدتني أسلم علي أم العروسة وأبارك لها وقد دعتني إلي تناول طعام العرس الذي يبدو أنه عبارة عن لحوم وأرز فقط ولكنني اعتذرت لإحساسي بالحرج لأنني لست من أهل العروس وفضلت انتظار صاحبة الفرح في الخارج حيث توجد كوشة الأصدقاء هكذا كتب عليها وبها خطوط إضاءة ضعيفة تشبه زينة رمضان عندنا.. المهم جلست علي الارض التي فرشت ببلاستيك.. لأتحدث مع بعض المدعوات وكان البرد القارس هو خيط البداية ثم سألتهن عن الملابس الجميلة التي يرتدينها.. فاتضح أنها يتم تفصيلها بعد شراء أقمشة الدانتيل والجبير وغيرها من السوق ليتم حياكتها لهن عند خياطات في الأعياد والمناسبات كما لاحظت أن الفتيات قبل سن البلوغ يظهرن بشعرهن علي هيئة ضفائر أو جدائل.. أما التي علي وشك الزواج فترتدي الحجاب وليس النقاب في حين أن المرأة حديثة الزواج فهي الأجمل وسط الجميع حيث ترتدي ثوبا أبيض رائع الجمال وعلي جانبيه قطعة سوداء وتغطي شعرها بالترقعت وهي عبارة عن طرحة سوداء مطرزة بالحرير الأحمر لموتيفات التعروست ينسيوان (أي العروسة السيوية) وأيضا بالخرز وخرج النجف الأبيض ولها شراشيب من خيوط الصوف ذات الألوان المبهجة.. واتضح أن لهذه الترقعت أنواعا عديدة تلبس حسب المناسبة كما يقوم بتطريزها عدد من النسوة المتخصصات في التطريز بالحرير أو الخرز أو الصوف ويصل تكلفة الترقعت إلي 005 جنيه ومن التقاليد أن المرأة حديثة الزواج تضعها علي رأسها وكتفيها في حفلات الزواج.. وسألت أنصاف التي تجلس بجواري ونحن نسند بظهرنا علي الحائط عن تعليمها.. فقالت أخذت ثانية إعدادي ودلوقتي أنا أستعد للزواج وأتعلم شغل البيت أما الرجل فيتم رفض الزواج به إذا عرف عنه أنه يتناول المخدرات أو يسرق لكن الفقر ليس عيبا علي الإطلاق فهو يقدم مهرا يتراوح مابين 6 إلي 7 آلاف جنيه يأخذها أهل العروس لشراء كردان من الذهب لها وهي لابد أن يجهزها أهلها فيحضرون لها الملابس لجميع المناسبات وأدوات المطبخ وعلي العريس شراء حجرة النوم وفرش البيت من الحصر. وأثناء كلامي مع أنصاف جاءت مجموعة من النسوة ليتعرفن علي ويسلمن بعد سؤالها باللغة السيوية عني.. ولم أشاهد فتاة واحدة تغني.. فالجميع في انتظار قدوم العروس من عند الكوافيرة بعد تجهيزها أما فستان الزفاف فيتم تأجيره بحوالي 08 جنيها، وقطع السكون فجأة دخول العروس علينا من الخلف ولاحظت أن جميع النساء حديثات الزواج يغطين وجوههن بالترقعت لأنه دخل رجلان بصحبتها وهما يمسكان بيديها ويرفعان لها ذيل الفستان.. فاتضخ أن زمزم (العروس) ليس لها أخوات بنات وهذان الشابان هما شقيقاها وأنها صعدت سريعا درجات سلم بيتها لرؤية جدتها القعيدة والسلام علي السيدات الكبيرات اللاتي يجلسن فيه قبل ذهابها إلي الكوشة حيث التفت حولها النساء والأطفال والكل يحاول مساعدتها في توضيب نفسها ورأيت من يصعد لتحيتها ومصافحتها باليد فلم أر أحدا من المعازيم يقبل العروس. وفي الضوء الخافت ووسط هدوء الحاضرين.. علا الصياح قبل أن أصل لتحيتها بعد أن جاءت لي سيدة خصيصا لتأخذني إليها.. واكتشفت أن هناك من يلقي بالحلويات من البسكويت والشيكولاتة من أعلي البيت ومن الشرفات فوق رؤوس الحاضرين ولذلك يرفع الجميع يده لكي يحصل علي بعضها وبعدها بدأوا في تناولها وسمعت ضرب نار فوق رؤوسنا، فقالت لي أنصاف لاتخافي هذا بارود وحمدت ربنا أنه لم يكن رصاص ! ورأيت مايشبه الالعاب النارية خارج الفناء الذي تجلس فيه العروس والمعازيم وعرفت أن هذا سلك ألمونيوم ولوف جاف يتم إحراقها وإلقاؤها في الهواء فتعمل هذه الأنوار الجميلة.. وكنت قد اكتفيت من الفرح بسبب الصقيع الذي خيم علي المكان رغم أن الجميع كان يرتدي ملابس أعتقد أنها خفيفة وأنا ألبس دولابي الشتوي كله!! فاتصلت بزملائي ليخرجوا من عند بيت العريس قبل نهاية الفرح.. لنكمل سهرتنا لبعد منتصف الليل عند مضيفنا الشيخ محمود لكن مع أخيه الأصغر يوسف عمر محمد الذي يتولي حاليا إدارة المكان بعد أن توسع فيه وألحق به عددا من أشجار النخيل ونباتات الزينة وقعدة سيوية وخيمة بدوية وراكية نار يقعد حولها السائحون للتدفئة وسماع الموسيقي الهادئة وأحيانا شي اللحوم وتقدم فيها الأكلات السيوية ومن أشهرها أبو مردن وهي عبارة عن جدي مدفون أو فراخ مدفونة داخل برميل . وملحق بهذا المكان أربع غرف لاستقبال السائحين الذين يأتون إليه ويعد لهم يوسف برنامجا كاملا لزيارة الأماكن الأثرية والسياحية بسيوة وإذا أرادوا عمل سفاري يقوم بتجهيز ذلك لهم وأهم شئ عنده أن يشعر السائح أو الضيف بأنه في بيته وعلي راحته وأن المكان نظيف بعد رحلة سفر شاقة علي طريق لا تتوافر فيه الخدمات حتي يعود لبلاده كرسول يدعو لزيارة المكان مرة أخري.. وجاء محمود محمد مادي وهو طباخ ومنظم رحلات سفاري ليتابع الحديث معنا حيث قال: إنه ليس هناك تسويق لسيوة سوي للمجموعات الكبيرة، فالدعاية لها غير كافية، مما يضطره أن ينزل للإسكندرية والقاهرة للقيام بذلك.. مؤكدا أن سيوة يجهلها المصريون رغم وجودها علي الخريطة وفي كتب الجغرافيا والتاريخ. ويطالب بأن يتحول المطار الحربي إلي مدني لأنه أيام السادات كانت هناك رحلة طيران كل أسبوعين (يوم الثلاثاء) مضيفا أن قرية جعفر السياحية يأتي لها زوار مهمون تهبط بهم طائرات خاصة في هذا المطار.. مشيرا إلي أن السياحة لديهم مواسم في إجازة نصف العام ورأس السنة والكريسماس حيث يأتي إليهم الأجانب المقيمون في مصر وبعض المصريين الذين يعشقون الطبيعة والعيشة والثقافة السيوية. وعن رحلات السفاري التي ينظمها من خلال الشركات التي تحضر مجموعات سياحية خاصة من بريطانيا يقول محمود أنها قد تستغرق يوما أو أربعة أيام أو حتي 51 يوما.. وهم يذهبون إلي العرج والبحرين وبحر الرمال الأعظم والصحراء البيضاء التي نحتت عوامل التعرية للصخور بها لتأخذ أشكالا مثل الجمل والنخلة والحصان والكتكوت. وأوضح أن الانجليزي أحسن سائح في السفاري لأنه عند الغروب يأخذ مرتبة وبطانية و يذهب في أي مكان في الصحراء لكي ينام.. وعن المخاطر التي تهدد السائحين في السفاري ابتسم محمود قائلا إن الثعالب تحوم حول المخيم عند شمها لرائحة الطعام ومن كثرة تعودها علي رؤية السائحين تأتي إليهم دون خوف منهم ليطعموها ويأخذوا لها صورة كما أن هذه الثعالب تعمل جوا بهيجا في ليل الصحراء البيضاء. ويؤكد محمود أنهم يحرصون علي الابتعاد عن الجبال والمياه في الصيف.. أما الشتاء فلا خوف من أي حيوانات زاحفة لأنها في حالة بيات.. ثم دخلت علينا في المطعم سيدة لتقول السلام عليكم.. فناداها يوسف مرجريتا تعالي فقالت إنها مخلصة وعايزة تنام.. فاستأذنها يوسف أن تبقي معنا للحظات ومن خلال سرد قصتها اتضح أنها ألمانية كانت تعيش في برلين وتزوجت مواطنا مصريا جاء بها لمصر عام 9891 وقد أسلمت وتعلمت اللغة العربية الفصحي ووقعت في حب بلدنا وبقيت فيها وتعيش لوحدها حاليا في مرسي مطروح لأنها بتحبها مش عارفة ليه ولكنها ترتحل من مكان لآخر في مصر، فقد ذهبت لأبوسمبل والأقصر وأسوان التي تعشق رؤية النيل فيها وأنها كانت في الخارج لزيارة أصدقاء لها جاءوا من ألمانيا ونازلين في فندق النخيل وهي تأتي لسيوة سنويا منذ خمس سنوات لتبقي لمدة أسبوع ثم تعود لمرسي مطروح. وأخذت مارجريتا في حالة نشوة تحدثنا عن جولاتها في كل أرجاء وربوع مصر.. فقد ذهبت إلي طنطا وزفتي والإسكندرية التي تحب النزول في فندق رمسيس بها حيث كتب فيه نجيب محفوظ الذي قرأت له العديد من قصصه والتي كتب إحداها بداخله ومثلتها شادية كبطلة في أحد الأفلام.. كما أنها تحب سيناء خاصة دهب، أما الغردقة فهي لاتهواها بسبب منظر الروس وهم سكرانين فهي ترفض عدم الاحتشام،، وفي القاهرة دائما ماتنزل في فندق بميدان الحسين لأنها تحب مشاهدة كلٍ من الأزهر والحسين المكتظ بالبشر وغير النظيف (زي بعضه كما قالت). واحزنها أن يفوز كل من حزب العدالة والنور ونجد أن تمثيل المرأة بهما لايزيد عن 5.2٪ فقط كما عدت كراسيهن في البرلمان! وذلك بعد الثورة العظيمة! وعند هذا الحد انتهي يومنا الأول في سيوة عن منتصف الليل.. وفي صباح اليوم التالي استيقظت مع أذان الفجر وبعد الصلاة خرجت من الغرفة في الساعة السابعة لأجد باب المطعم مفتوحا ولا أحد من العاملين به.. فذهبت أتجول في المدينة لتجذبني رائحة الخبز في الفرن والطعمية لأسير في اتجاهما لأجد أن الفرن لا يقف عليه طابور ولكن كل من يدفع يأخذ أرغفته ويمشي وأمامه مطعم يبيع الفول والطعمية والبطاطس المقلية.. فطلبت من البائع إعطائي طعمية ساخنة فقال لي انتظري خدي مابالطاسة.. وأثناء تجهيزها حدثني بأنه جاء منذ 22 عاما من المنيا بحثا عن مورد رزق لم يجده في بلده وبالفعل عمل ل 9 سنوات في مطعم ثم ذهب لبلده لمدة عامين ليعود ويفتح مطعما خاصا به وهكذا أصبحت سيوة هي بلده التي ولد فيها أولاده وتربوا، فهي آمنة وهادئة بالنسبة له.. وفي السوق لفت نظري عدم وجود سيدات فيه وأن الرجل هو الذي يقوم بالتسوق لأسرته وأن هناك سيدة أو اثنتين فقط تقومان ببيع الخضر والفاكهة.. وأجمل مارأيته في السوق القرع العسلي الذي يباع بالشقة والطماطم الكريز الخالية من المبيدات ذات المذاق الجميل. وكان لابد أن نزور بعض الأماكن السياحية قبل مغادرتنا لسيوه، فخرجنا إلي قرية شالي القديمة التي كانت مسكونة حتي عام 6291 ولكنها ذابت بعد نزول الأمطار لمدة 3 أيام متواصلة مما نتج عنها انهيار البيوت المبنية من مادة الكارشيف الطين المخلوط بالملح وأن البيوت الجديدة ملاصقة لهذه المدينة التاريخية.. وقد أخذنا بعض الصور لها ولكننا لم نجد سائحين فيها وسألنا عن حمام كليوباترا فقالوا إنه يقع قريبا من هنا وعندما وصلنا إليه لم نجد سوي شاب يسقي الأرض وأبوكريم فألقينا عليهما السلام ودعانا الأخير لشرب الشاي فشكرناه ثم ذهبنا لرؤية معبد آمون من بعيد والذي لم نتعرف عليه لأن اللافتة الموجودة أمامه يعلوها الصدأ ومكتوبة بخط صغير. وغادرنا سيوة وكلنا أسف أن وقتنا لا يسمح لنأخذكم في جولة ثقافية وسياحية في آثارها التاريخية التي تتميز بها. فنحن في سيوة الساحرة وكنز الكنوز والواحة التي لاتبوح بأسرارها إلا للرمال والكثبان لتدفنها بين تلابيبها وتقبض عليها في أحضانها. فمنذ الوصول إلي الواحة القابعة في صحرائنا الغربية والتي تقع علي بعد 56 كم فقط من الحدود المصرية الليبية.. بدأنا نشعر أننا في مكان مختلف بكل المقاييس فمن أجل الوصول إليها قطعنا طريقا طويلا يخترق صحراء منبسطة ليس فيها حياة علي امتداد الأفق. هذه الواحة الخلابة والجوهرة المصونة في بحر الرمال.. كان لابد من إزاحة بعض ذرات الرمال عنها لنري جانبا من روعتها وسحرها. عند وصولنا إلي واحة سيوة التي تبعد 71 كم عن المراقي (إحدي واحاتها).. لفت نظرنا مناظر أشجار النخيل الباسقة التي تعانق الجبال في شموخها بعد مسافات من الكيلومترات قطعناها من السهول.. وفورا ظهرت لنا مدينة شالي القديمة وأمامها كان يقع مطعم ضيفنا الذي وقف أمامه في انتظارنا وقد مررنا عليه مرتين لنجد من يلوح لنا بأن المكان هاهنا.. إنه الشيخ محمود عمر الذي حدثه زميلنا العزيز خالد جمال ليساعدنا في أداء مهمتنا التي كنا قد انتهينا منها بالفعل ولكن كان يجب أن نستريح خاصة سائقنا عم عبدالحميد الذي لولاه ماكنا قد استطعنا القيام بمهمتنا الشاقة وبمجرد جلوسنا في واحته الصغيرة التي بها مطعم و4 غرف سياحية وجدناه يقول لنا هلم بنا لنذهب لحفل عرس قريب له.. فوجدنا الجميع يركب السيارات والموتوسيكلات وبعد بضع دقائق وصلنا للمكان المنشود.. وجدت من يرفع ستارا ويتكلم باللغة السيوية (الأمازيغية) لتأخذني سيدة وتخترق بي جموعا من الأطفال والنساء منتشرة في فناء واسع لتصل بي إلي درجات سلم يؤدي إلي منزل فسيح به غرف عديدة يجلس فيها نسوة وأمامهن أطباق أو صوان من الطعام.. ووجدتني أسلم علي أم العروسة وأبارك لها وقد دعتني إلي تناول طعام العرس الذي يبدو أنه عبارة عن لحوم وأرز فقط ولكنني اعتذرت لإحساسي بالحرج لأنني لست من أهل العروس وفضلت انتظار صاحبة الفرح في الخارج حيث توجد كوشة الأصدقاء هكذا كتب عليها وبها خطوط إضاءة ضعيفة تشبه زينة رمضان عندنا.. المهم جلست علي الارض التي فرشت ببلاستيك.. لأتحدث مع بعض المدعوات وكان البرد القارس هو خيط البداية ثم سألتهن عن الملابس الجميلة التي يرتدينها.. فاتضح أنها يتم تفصيلها بعد شراء أقمشة الدانتيل والجبير وغيرها من السوق ليتم حياكتها لهن عند خياطات في الأعياد والمناسبات كما لاحظت أن الفتيات قبل سن البلوغ يظهرن بشعرهن علي هيئة ضفائر أو جدائل.. أما التي علي وشك الزواج فترتدي الحجاب وليس النقاب في حين أن المرأة حديثة الزواج فهي الأجمل وسط الجميع حيث ترتدي ثوبا أبيض رائع الجمال وعلي جانبيه قطعة سوداء وتغطي شعرها بالترقعت وهي عبارة عن طرحة سوداء مطرزة بالحرير الأحمر لموتيفات التعروست ينسيوان (أي العروسة السيوية) وأيضا بالخرز وخرج النجف الأبيض ولها شراشيب من خيوط الصوف ذات الألوان المبهجة.. واتضح أن لهذه الترقعت أنواعا عديدة تلبس حسب المناسبة كما يقوم بتطريزها عدد من النسوة المتخصصات في التطريز بالحرير أو الخرز أو الصوف ويصل تكلفة الترقعت إلي 005 جنيه ومن التقاليد أن المرأة حديثة الزواج تضعها علي رأسها وكتفيها في حفلات الزواج.. وسألت أنصاف التي تجلس بجواري ونحن نسند بظهرنا علي الحائط عن تعليمها.. فقالت أخذت ثانية إعدادي ودلوقتي أنا أستعد للزواج وأتعلم شغل البيت أما الرجل فيتم رفض الزواج به إذا عرف عنه أنه يتناول المخدرات أو يسرق لكن الفقر ليس عيبا علي الإطلاق فهو يقدم مهرا يتراوح مابين 6 إلي 7 آلاف جنيه يأخذها أهل العروس لشراء كردان من الذهب لها وهي لابد أن يجهزها أهلها فيحضرون لها الملابس لجميع المناسبات وأدوات المطبخ وعلي العريس شراء حجرة النوم وفرش البيت من الحصر. وأثناء كلامي مع أنصاف جاءت مجموعة من النسوة ليتعرفن علي ويسلمن بعد سؤالها باللغة السيوية عني.. ولم أشاهد فتاة واحدة تغني.. فالجميع في انتظار قدوم العروس من عند الكوافيرة بعد تجهيزها أما فستان الزفاف فيتم تأجيره بحوالي 08 جنيها، وقطع السكون فجأة دخول العروس علينا من الخلف ولاحظت أن جميع النساء حديثات الزواج يغطين وجوههن بالترقعت لأنه دخل رجلان بصحبتها وهما يمسكان بيديها ويرفعان لها ذيل الفستان.. فاتضخ أن زمزم (العروس) ليس لها أخوات بنات وهذان الشابان هما شقيقاها وأنها صعدت سريعا درجات سلم بيتها لرؤية جدتها القعيدة والسلام علي السيدات الكبيرات اللاتي يجلسن فيه قبل ذهابها إلي الكوشة حيث التفت حولها النساء والأطفال والكل يحاول مساعدتها في توضيب نفسها ورأيت من يصعد لتحيتها ومصافحتها باليد فلم أر أحدا من المعازيم يقبل العروس. وفي الضوء الخافت ووسط هدوء الحاضرين.. علا الصياح قبل أن أصل لتحيتها بعد أن جاءت لي سيدة خصيصا لتأخذني إليها.. واكتشفت أن هناك من يلقي بالحلويات من البسكويت والشيكولاتة من أعلي البيت ومن الشرفات فوق رؤوس الحاضرين ولذلك يرفع الجميع يده لكي يحصل علي بعضها وبعدها بدأوا في تناولها وسمعت ضرب نار فوق رؤوسنا، فقالت لي أنصاف لاتخافي هذا بارود وحمدت ربنا أنه لم يكن رصاص ! ورأيت مايشبه الالعاب النارية خارج الفناء الذي تجلس فيه العروس والمعازيم وعرفت أن هذا سلك ألمونيوم ولوف جاف يتم إحراقها وإلقاؤها في الهواء فتعمل هذه الأنوار الجميلة.. وكنت قد اكتفيت من الفرح بسبب الصقيع الذي خيم علي المكان رغم أن الجميع كان يرتدي ملابس أعتقد أنها خفيفة وأنا ألبس دولابي الشتوي كله!! فاتصلت بزملائي ليخرجوا من عند بيت العريس قبل نهاية الفرح.. لنكمل سهرتنا لبعد منتصف الليل عند مضيفنا الشيخ محمود لكن مع أخيه الأصغر يوسف عمر محمد الذي يتولي حاليا إدارة المكان بعد أن توسع فيه وألحق به عددا من أشجار النخيل ونباتات الزينة وقعدة سيوية وخيمة بدوية وراكية نار يقعد حولها السائحون للتدفئة وسماع الموسيقي الهادئة وأحيانا شي اللحوم وتقدم فيها الأكلات السيوية ومن أشهرها أبو مردن وهي عبارة عن جدي مدفون أو فراخ مدفونة داخل برميل . وملحق بهذا المكان أربع غرف لاستقبال السائحين الذين يأتون إليه ويعد لهم يوسف برنامجا كاملا لزيارة الأماكن الأثرية والسياحية بسيوة وإذا أرادوا عمل سفاري يقوم بتجهيز ذلك لهم وأهم شئ عنده أن يشعر السائح أو الضيف بأنه في بيته وعلي راحته وأن المكان نظيف بعد رحلة سفر شاقة علي طريق لا تتوافر فيه الخدمات حتي يعود لبلاده كرسول يدعو لزيارة المكان مرة أخري.. وجاء محمود محمد مادي وهو طباخ ومنظم رحلات سفاري ليتابع الحديث معنا حيث قال: إنه ليس هناك تسويق لسيوة سوي للمجموعات الكبيرة، فالدعاية لها غير كافية، مما يضطره أن ينزل للإسكندرية والقاهرة للقيام بذلك.. مؤكدا أن سيوة يجهلها المصريون رغم وجودها علي الخريطة وفي كتب الجغرافيا والتاريخ. ويطالب بأن يتحول المطار الحربي إلي مدني لأنه أيام السادات كانت هناك رحلة طيران كل أسبوعين (يوم الثلاثاء) مضيفا أن قرية جعفر السياحية يأتي لها زوار مهمون تهبط بهم طائرات خاصة في هذا المطار.. مشيرا إلي أن السياحة لديهم مواسم في إجازة نصف العام ورأس السنة والكريسماس حيث يأتي إليهم الأجانب المقيمون في مصر وبعض المصريين الذين يعشقون الطبيعة والعيشة والثقافة السيوية. وعن رحلات السفاري التي ينظمها من خلال الشركات التي تحضر مجموعات سياحية خاصة من بريطانيا يقول محمود أنها قد تستغرق يوما أو أربعة أيام أو حتي 51 يوما.. وهم يذهبون إلي العرج والبحرين وبحر الرمال الأعظم والصحراء البيضاء التي نحتت عوامل التعرية للصخور بها لتأخذ أشكالا مثل الجمل والنخلة والحصان والكتكوت. وأوضح أن الانجليزي أحسن سائح في السفاري لأنه عند الغروب يأخذ مرتبة وبطانية و يذهب في أي مكان في الصحراء لكي ينام.. وعن المخاطر التي تهدد السائحين في السفاري ابتسم محمود قائلا إن الثعالب تحوم حول المخيم عند شمها لرائحة الطعام ومن كثرة تعودها علي رؤية السائحين تأتي إليهم دون خوف منهم ليطعموها ويأخذوا لها صورة كما أن هذه الثعالب تعمل جوا بهيجا في ليل الصحراء البيضاء. ويؤكد محمود أنهم يحرصون علي الابتعاد عن الجبال والمياه في الصيف.. أما الشتاء فلا خوف من أي حيوانات زاحفة لأنها في حالة بيات.. ثم دخلت علينا في المطعم سيدة لتقول السلام عليكم.. فناداها يوسف مرجريتا تعالي فقالت إنها مخلصة وعايزة تنام.. فاستأذنها يوسف أن تبقي معنا للحظات ومن خلال سرد قصتها اتضح أنها ألمانية كانت تعيش في برلين وتزوجت مواطنا مصريا جاء بها لمصر عام 9891 وقد أسلمت وتعلمت اللغة العربية الفصحي ووقعت في حب بلدنا وبقيت فيها وتعيش لوحدها حاليا في مرسي مطروح لأنها بتحبها مش عارفة ليه ولكنها ترتحل من مكان لآخر في مصر، فقد ذهبت لأبوسمبل والأقصر وأسوان التي تعشق رؤية النيل فيها وأنها كانت في الخارج لزيارة أصدقاء لها جاءوا من ألمانيا ونازلين في فندق النخيل وهي تأتي لسيوة سنويا منذ خمس سنوات لتبقي لمدة أسبوع ثم تعود لمرسي مطروح. وأخذت مارجريتا في حالة نشوة تحدثنا عن جولاتها في كل أرجاء وربوع مصر.. فقد ذهبت إلي طنطا وزفتي والإسكندرية التي تحب النزول في فندق رمسيس بها حيث كتب فيه نجيب محفوظ الذي قرأت له العديد من قصصه والتي كتب إحداها بداخله ومثلتها شادية كبطلة في أحد الأفلام.. كما أنها تحب سيناء خاصة دهب، أما الغردقة فهي لاتهواها بسبب منظر الروس وهم سكرانين فهي ترفض عدم الاحتشام،، وفي القاهرة دائما ماتنزل في فندق بميدان الحسين لأنها تحب مشاهدة كلٍ من الأزهر والحسين المكتظ بالبشر وغير النظيف (زي بعضه كما قالت). واحزنها أن يفوز كل من حزب العدالة والنور ونجد أن تمثيل المرأة بهما لايزيد عن 5.2٪ فقط كما عدت كراسيهن في البرلمان! وذلك بعد الثورة العظيمة! وعند هذا الحد انتهي يومنا الأول في سيوة عن منتصف الليل.. وفي صباح اليوم التالي استيقظت مع أذان الفجر وبعد الصلاة خرجت من الغرفة في الساعة السابعة لأجد باب المطعم مفتوحا ولا أحد من العاملين به.. فذهبت أتجول في المدينة لتجذبني رائحة الخبز في الفرن والطعمية لأسير في اتجاهما لأجد أن الفرن لا يقف عليه طابور ولكن كل من يدفع يأخذ أرغفته ويمشي وأمامه مطعم يبيع الفول والطعمية والبطاطس المقلية.. فطلبت من البائع إعطائي طعمية ساخنة فقال لي انتظري خدي مابالطاسة.. وأثناء تجهيزها حدثني بأنه جاء منذ 22 عاما من المنيا بحثا عن مورد رزق لم يجده في بلده وبالفعل عمل ل 9 سنوات في مطعم ثم ذهب لبلده لمدة عامين ليعود ويفتح مطعما خاصا به وهكذا أصبحت سيوة هي بلده التي ولد فيها أولاده وتربوا، فهي آمنة وهادئة بالنسبة له.. وفي السوق لفت نظري عدم وجود سيدات فيه وأن الرجل هو الذي يقوم بالتسوق لأسرته وأن هناك سيدة أو اثنتين فقط تقومان ببيع الخضر والفاكهة.. وأجمل مارأيته في السوق القرع العسلي الذي يباع بالشقة والطماطم الكريز الخالية من المبيدات ذات المذاق الجميل. وكان لابد أن نزور بعض الأماكن السياحية قبل مغادرتنا لسيوه، فخرجنا إلي قرية شالي القديمة التي كانت مسكونة حتي عام 6291 ولكنها ذابت بعد نزول الأمطار لمدة 3 أيام متواصلة مما نتج عنها انهيار البيوت المبنية من مادة الكارشيف الطين المخلوط بالملح وأن البيوت الجديدة ملاصقة لهذه المدينة التاريخية.. وقد أخذنا بعض الصور لها ولكننا لم نجد سائحين فيها وسألنا عن حمام كليوباترا فقالوا إنه يقع قريبا من هنا وعندما وصلنا إليه لم نجد سوي شاب يسقي الأرض وأبوكريم فألقينا عليهما السلام ودعانا الأخير لشرب الشاي فشكرناه ثم ذهبنا لرؤية معبد آمون من بعيد والذي لم نتعرف عليه لأن اللافتة الموجودة أمامه يعلوها الصدأ ومكتوبة بخط صغير. وغادرنا سيوة وكلنا أسف أن وقتنا لا يسمح لنأخذكم في جولة ثقافية وسياحية في آثارها التاريخية التي تتميز بها.