بوتين وميدفيدف وتبادل الأدوار يوما بعد يوم تزداد سرعة العاصفة الشعبية التي هبت علي روسيا لتقتلع جذور الفساد والوحشية من أركان النظام.. فبعد الصمت والاستسلام، انتفض الروس محاولين تحرير أنفسهم من أغلال بوتين وقبضته الحديدية التي تكبلوا بها 8 سنوات... رافضين الخضوع له مجدداً محتجين علي أوضاعهم، حالمين بدولة من دونه، بعدالة.. بحرية.. بديمقراطية. فمنذ إعلان نتائج انتخابات البرلمان الروسي (الدوما) التي شهدت انتهاكات وتزويرا لصالح حزب وحدة روسيا الحاكم بزعامة بوتين، ومن قبلها التعديلات الدستورية لتمديد فترة الحكم لتصل إلي فترتين مدة كل منهما 6 سنوات بدلا من 4 جعلت الروس يفقدون ما تبقي من صبرهم وهو ما يمكن أن ينذر بثورة. استيقظ الشارع الروسي وصاح بأعلي صوته "ثورة.. ثورة"، ليتصدي ويقف جداراً مانعاً للأخير حتي لا يصل للكرملين ويمكث به 12 سنة أخري، بعد إتيانه بديمتري ميدفيديف رئيساً للبلاد كمحلل يمهد له الطريق ليظل في السلطة حتي 2024. في تطور مفاجئ، يشبه ما جري في الربيع العربي، وبعد سنوات من اللامبالاة والبعد عن السياسة، انطلقت دعوات الاحتجاج عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث نظم عدد من النشطاء الروس مظاهرات حاشدة عمت موسكو وكبريات المدن الروسية، من خلال دعوات أطلقوها علي "الفيس بوك" للخروج احتجاجاً علي التلاعب وتزوير الانتخابات البرلمانية التي جرت في الرابع من هذا الشهر، ويطالبون بإعادتها، حيث تم إنشاء صفحة باسم "التظاهر ضد فساد الانتخابات الروسية" رافعين شعار "الشعب يشعر أن الحزب الحاكم سرق منه صوته" و"يطالبون بإسقاط الفساد" و"انتخابات نزيهة في بلد حر" و"الحرية للسجناء السياسيين" و"روسيا من دون بوتين". وكانت أعداد كبيرة من الروس المقيمين في الخارج أعربوا عن استعدادهم للقيام بمظاهرات مماثلة في باريس وعدة ولايات أمريكية منها ميشيجان ومدينة مونرو إحدي مدن ولاية أوهايو اللتان نظمتا تظاهرة باسم "تجمع ميشيجان لانتخابات روسية نزيهة" بجانب البلدان التي تضم جاليات روسية حول العالم منددين بما أسموه "الخدعة الانتخابية"، التي يري المحتجون أن التزوير والفساد شابها علي نطاق واسع. وما أثار هذا الغضب الشديد هو الغش في الانتخابات المتجسد في شخص رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، الرجل الذي يمسك بزمام الأمور في روسيا منذ عام 2000. وبدورها قالت المعارضة الروسية إن هذه الانتخابات ستدخل التاريخ كأكثر الانتخابات "فضائحية"، فيما نشر ناخبون عدة فيديوهات ومشاهد علي الشبكات الاجتماعية ونشرتها وكالة فرانس 24 تظهر أعمال الغش في الانتخابات. فهناك تسجيل وجود بعض الأقلام المستخدمة للكتابة علي بطاقات الاقتراع تحتوي علي حبر قابل للمسح. بينما يظهر فيديو آخر مسئولا في مكتب للتصويت وهو يزوّر بطاقات اقتراع. وحسب وسائل الإعلام الروسية، فقد أكد رئيس اللجنة الانتخابية في موسكو صحة هذا الفيديو وأعلن عن فتح تحقيق في الأمر. كما يظهر تسجيل آخر طالبا يؤكد أنه استطاع التصويت عدة مرات في مكاتب تصويت مختلفة مقابل أجر. الشخص الذي صور الفيديو يؤكد أنه عرض عليه 96 يورو لكي يصوت 45 مرة لصالح روسياالمتحدة في مكاتب تصويت مختلفة. وتم العثور علي صناديق مليئة ببطاقات اقتراعٍ حتي قبل فتح باب التصويت. ونشرت الجريدة الرسمية الروسية نتائج الانتخابات، معلنة عن فوز الحزب الحاكم "روسيا الموحدة" 49.32٪ من الأصوات. وبهذا يكون حزب بوتين سيشغل غالبية مطلقة من 238 مقعداً من أصل 450 في مجلس الدوما، فيما أوردت منظمة "المراقب المواطن" غير الحكومية الروسية علي موقعها الإلكتروني أن النتيجة الحقيقية للحزب الحاكم تقل عن 30٪ من الأصوات أي أقل بعشرين نقطة عما أعلنته اللجنة الانتخابية الروسية في النتائج الأولية الرسمية. وتابعت المنظمة غير الحكومية أن المشاركة الفعلية تجاوزت نسبة 50٪ بقليل مقابل أكثر من 60٪ حسبما أعلن رسمياً. مما جعل عشرات الآلاف من الروس يخرجون في مظاهرات ضخمة لم تشهدها موسكو منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق يطالبون "روسيا من دون بوتين". واعتقال المئات وأكدت الشرطة أنها لن تسمح بأي "استفزاز". وحذر رئيس الوزراء بوتين . ويري المراقبون علي الانتخابات أن هذه الانتخابات تعتبر رسالة واضحة علي استياء الناخبين الروس من نظام بوتين. ووفقاً لتحليلات نتائج الانتخابات فإن الشعب الروسي قام بمعاقبة حزب "روسيا الموحدة" وبوتين معاً احتجاجًا علي فشل النظام الرأسمالي في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها أكثرية الشعب الروسي، ليقوموا وبشكل انتقامي بمنح ثقتهم للشيوعيين بنسبة 19.9٪. . فهناك حديث عن إمكانية سيطرة الشيوعيين وحلفائهم علي الحكم في روسيا كبديل لفشل النظام الرأسمالي الذي جاء فيه بوتين. فها هي الطبقة الوسطي تعلن العصيان علي بوتين، وفقاً لصحيفة الأندبندنت، مشيرة إلي أن هناك عدداً كبيراً من المتظاهرين ينتمون للفئة المتوسطة التي لم يكن لها علاقة كبيرة بالسياسة، إلا أن مقاطع الفيديو والشهادات المتداولة عن تزوير الانتخابات جعلتهم يفقدون ما تبقي من صبرهم وهو ما يمكن أن ينذر بثورة ضد ميدفيديف وبوتين. كما يري المحللون السياسيون أن بوتين ليس عرضة للخطر في الوقت الحالي وأن حزب "روسيا الموحدة" سيظل مسيطراً علي البرلمان الروسي بغالبية الأعضاء، فضلا عن كونه مرشحاً مفضلا من العيار الثقيل في انتخابات الرئاسة الروسية المقرر إجراؤها في مارس القادم. فيما قالت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن استعادة بوتين لمنصب الرئاسة يشير إلي استمرار الوحشية التي أصابت جميع أركان الحكومة الروسية والركود الاقتصادي، الذي حطم آمال الروسيين بأن بلادهم ربما تمضي قدماً ببطء تجاه أنظمة سياسية أكثر انفتاحاً. وفي نفس السياق، أعرب ميدفيديف عن ارتياحه للانتخابات "المنصفة والنزيهة والديمقراطية"، وأشار إلي أن مقاطع الفيديو المعروضة عن الخروقات والتزييف لا يمكن اعتبارها براهين قاطعة لتزييف الانتخابات، وهدفها الإثارة فقط. وأضاف أن لجنة الانتخابات المركزية تشير إلي ارتكاب أحزاب المعارضة خروقات مماثلة في العملية الانتخابية. فيما اتهم بوتين الولاياتالمتحدة بتدبير حركة الاحتجاج علي الانتخابات التشريعية الأخيرة، وشدد الرجل القوي في البلد علي أن حزبه كسب ما يكفي من المقاعد في الدوما للتصويت علي قوانين دون اللجوء إلي حلفاء برلمانيين محتملين. وذكر بوتين بأن هناك أجندة خارجية يعمل بها هؤلاء المتظاهرين بالإضافة إلي أموال تدفع لتمويل نشاطاتهم السياسية، فوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التي انتقدت سير الانتخابات، أعطت إشارة الانطلاق للاحتجاجات التي جرت علي عقب نتائج الانتخابات. وأكد أن المعارضين يتصرفون بدعم من واشنطن وبدأوا التحرك بشكل نشط بدعم من وزارة الخارجية الأمريكية. وبخلاف دعم الولاياتالمتحدة للمعارضة الروسية بحسب وصف بوتين، فإن الأخير وحزبه كانوا يتلقون الدعم من رجال الأعمال الذين ظلوا قريبين للسلطة حتي زج بهم في السجن أبرزهم ميخائيل خودوركوفسكي، الرئيس السابق لشركة يوكوس النفطية المحكوم عليه الآن بالسجن ثماني سنوات بعدما تجرأ علي مواجهة بوتين فتحول من رجل أعمال شديد الثراء إلي مسجون ثم أصبح معارضاً سياسياً. فكان تدخل خودوركوفسكي قطب النفط حسب ما يسميه البعض، في عالم السياسة بروسيا ودعمه للأحزاب الديمقراطية العامل الرئيسي للزج به في السجن. فالسياسيون الروس والمراقبون الأجانب يرون في خودوركوفسكي ضحية ثأر شخصي لبوتين، الذي يرمز في نظرهم إلي الانحراف نحو التسلط في البلاد، لأنه أزعجه باستقلاله المعلن وطموحاته السياسية. فخودوركوفسكي بذل المزيد من الجهد وقام بتمويل الحملات الانتخابية للقوي السياسية المشاركة في الانتخابات البرلمانية في عام 1999. ولم يكتف خودوركوفسكي بتمويل ممثلي اليمين، حيث حرص كذلك علي دعم "الحزب الشيوعي الروسي"، بل وكذلك الحزب الحاكم "الوحدة الروسية". وبدأ الخلاف بمطلع عام 2003 حين تحول لقاء في الكرملين بين حوالي 20 ثرياً والرئيس بوتين، إلي عاصفة. بعدما أصيب الأخير بذهول حين نما إلي علمه مع بدء الاستعدادات للانتخابات البرلمانية 2003 أن 226 نائباً، أي أكثر من نصف عدد نواب مجلس الدوما، النصاب القانوني اللازم لتحقيق الأغلبية الدستورية، أقسموا علي الولاء لخودوركوفسكي، بما يعني القدرة أيضا ليس فقط علي تغيير أو إعداد القانون المناسب بل وأيضا الدستور. فكان هناك محاولة انقلاب يدبرها خودوركوفسكي للإطاحة ببوتين ونظامه السياسي. وفي أكتوبر 2010 اعتقل خودوركوفسكي لدي نزوله من طائرة في سيبيريا بتهمة الاحتيال علي نطاق واسع والتهرب الضريبي وأودع السجن. والآن بعد أن أشعلت نتائج الانتخابات شرارة الاحتجاجات داخل روسيا وخارجها والتي تطالب برحيل بوتين من أجل إطفائها، هل سيخضع الرجل ذو القبضة الحديدية ويرحل ويحل النظام الاشتراكي الأزمات المتراكمة أم سنشهد ربيعا روسيا يدفع ثمنه الشعب هناك.