الروس يعيدون الآن طرح السؤال التقليدي: أيهما أكثر أهمية, وأيهما أولا:' رغيف الخبز' أم' الديمقراطية'؟! هذا السؤال طرح قبل أقل من عام في دول' الربيع العربي. , فاختارت شعوبها الديمقراطية التي يفترض أن تأتي بالحريات والنزاهة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون اللازمين لكي يحصل كل فرد بالفعل علي رغيف الخبز الذي يريده. ولكن مهلا, فالإجابة لا تكون دائما كذلك في كل الحالات, فهناك من يري أن الكفاح من أجل الديمقراطية لا يجب أن يأتي علي جثث الآدميين, ولا يمكن أن يقوده الجائعون. المسألة محيرة بالفعل, وتبدو أقرب إلي سؤال' البيضة والدجاجة' وأيهما أولا, ففي ليبيا, اختار الشعب الديمقراطية والحرية دون أن تكون هناك معاناة كبيرة في عصر القذافي من أزمات الاقتصاد والبطالة, ولكن مصر وتونس واليمن وسوريا لم تكن كذلك, فقد اختارت شعوب هذه الدول طريق الديمقراطية أولا, وبطريقة تبدو انتحارية, انطلاقا من قناعتها بأنه لم يعد ممكنا أن يهان المرء أكثر من ذلك' قمعا' و'رغيفا' معا! ولكن حالة روسيا التي نحن بصددها تشير إلي أن الديمقراطية علي الطراز الغربي لا تبدو خيارا جوهريا وملحا في دول تتمتع باقتصاديات قوية وتنعم شعوبها بمستويات معيشة مرتفعة نسبيا, والشيء نفسه ينطبق علي دول أخري مثل الصين وفنزويلا ودول البترول في منطقة الخليج العربي, إذ لا يمكن حتي الآن وصف ما تشهده هذه الدول من أصوات واحتجاجات متقطعة للمطالبة بالديمقراطية والحريات بأنها' ثورات' شعبية من أجل الديمقراطية. ففي دولة مثل روسيا, يبلغ متوسط دخل الفرد فيها نحو16 ألف دولار سنويا حسب إحصائيات عام2010, وتحولت منذ عقدين فقط من عصر البحث عن بقايا الطعام في صناديق القمامة إلي عصر يوصف فيه السائح الروسي في شتي دول العالم بأنه من أكثر السائحين إنفاقا, وفي دولة تبلغ نسبة البطالة فيها10% فقط, ويعيش فيها13% فقط من إجمالي سكانها تحت خط الفقر, وفي دولة أصبحت خلال سنوات قليلة تطبق اقتصاد السوق بحذافيره بل وبفساده- بعد التخلي عن المباديء الشيوعية, وفي دولة تعتبر من أكبر دول العالم إنتاجا وتصديرا للبترول, وفي دولة أصبحت منذ سنوات قليلة واحدة من دول مجموعة العشرين أو ما يطلق عليه وصف الاقتصاديات الصاعدةEmergingEconomies مهمتها الأساسية إنقاذ أغنياء العالم التقليديين من الأزمة المالية العالمية, في ظل هذه المعطيات, في دولة كهذه, يصعب تماما تخيل وجود مبررات قوية لاندلاع' ثورة'. المتابع للشأن الروسي يدرك أن هذه الأرقام بالفعل ثبطت كثيرا من همة أي معارض روسي لتصعيد أي حركات معارضة أو احتجاجية علي مدار السنوات العشر الماضية علي الأقل, بدليل أن المظاهرات التي كانت تنظمها المعارضة الروسية في شوارع العاصمة الروسية موسكو منذ عام2000 وإلي الآن لم يكن يشارك فيها سوي العشرات, وبعض هذه الاحتجاجات وقادتها اختفوا عن الأنظار بمرور الوقت ودخلوا طي النسيان, وعلي رأسهم بطل الشطرنج الروسي الشهير جاري كاسباروف الذي اعترف أكثر من مرة بأن المعارضة في روسيا ضعيفة جدا ومشتتة بصورة لا تمكنها من إحداث أي تغيير في مواجهة بطل الجودو وعميل ال'كيه.جي.بي.' السابق فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الحالي المرشح للرئاسة والرئيس الحالي ديميتري ميدفيديف. أما علي صعيد الانتقادات والضغوط الدولية, فروسيا تعرف جيدا كيف ترد, وبوتين وميدفيديف ليسا بشار الأسد أو القذافي لكل يقال لهما' ارحلا' فيرحلا, فلدي الدب الروسي ملفات دولية تستطيع أن ترفع بها في وجه القوي الغربية بما فيها الولاياتالمتحدة لتجعلها تغض الطرف عما يجري في روسيا, بداية من ملف مجموعة العشرين, ومرورا بملفات سوريا وإيران وأفغانستان, ونهاية بالدرع الصاروخية والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي, وتعنت موسكو في أي ملف من هذه الملفات كفيل بإصابة الأمريكيين والأوروبيين معا بصداع سياسي وعسكري يصعب الشفاء منه بسهولة! ولعلنا نذكر عندما لعب الروس بورقة البترول والغاز في وجه الغرب عندما علقت أوروبا عضوية روسيا في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي بسبب أحداث حرب الشيشان قبل سنوات. ولهذا, لم يكن السيناتور الأمريكي' العجوز' جون ماكين موفقا علي الإطلاق عندما وصف ما يحدث في روسيا الآن بأنه' ربيع روسي' علي غرار الربيع العربي, ونسي ماكين أن ميدان التحرير الذي زاره بعد أسابيع من قيام ثورة25 يناير في مصر لم ينتفض إلا لعشرات الأسباب أولها يأس المصريين من أوضاعهم المزرية, بينما لا يمكن أن يتكرر التحرير في ميدان الكرملين لأن الوضع في روسيا ليس كذلك, والمبررات ليست كافية لقيام' ثورة'. فلعبة' الكراسي الموسيقية' التي يمارسها بوتين وميدفيديف بالفعل في قمة السلطة تستحق النقد والرفض والاستياء والغضب أيضا, وتزوير الانتخابات أمر لا يجب السكوت عنه, ولكن النظام الانتخابي الحر موجود, ويفترض أنه قادر علي العمل بصورة سليمة في حالة وجود أفراد أو قيادات أخري في صفوف المعارضة تستحق أن تحل محل الثنائي الحاكم, ولكن الروس لا يرون أمامهم سوي بوتين وميدفيديف, مع تحسن ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية. ولذلك يمكن القول إن الرغبة إلي الديمقراطية موجودة في روسيا بالفعل, والأصوات المطالبة بالحرية بدأت تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي علي نمط ما حدث في بلدان الربيع العربي, ولكنها ليست رغبة' متوحشة' بعد. أما روسيا بوتين فهي قوية بما يكفي لرد الصاع صاعين بعد انتقادات هيلاري كلينتون وجون ماكين, وبعد اعتراف مارك تونير المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بأن الولاياتالمتحدة قدمت للمنظمات غير الحكومية الروسية ونشطاء المجتمع المدني دعما قيمته تسعة ملايين دولار استعدادا للانتخابات الرئاسية المقبلة في مارس, وأغلب الظن أن الرد الروسي سيكون قريبا جدا, حتي لا تستمر هذه الانتقادات والضغوط قبل موعد انتخابات مارس, الأكثر أهمية بالنسبة لبوتين, الذي خسر حزبه' روسيا الموحدة' الكثير من الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالفعل. وبوتين اتهم هيلاري كلينتون صراحة قبل أيام بتمويل المظاهرات الأخيرة, بل والتخطيط لها, وأكد أنها هي التي أعطت إشارة البدء لانطلاقها, علي غرار ما حدث مع الربيع العربي, علي الرغم من اختلاف المواقف تماما. وكان حزب' روسيا الموحدة' قد حقق 238 مقعدا من أصل450 مقاعد البرلمان وسط اتهامات كثيرة للحزب بتزوير الانتخابات عبر ممارسة انتهاكات لم تشهدها انتخابات دول' الربيع العربي', مثل حشو الصناديق ببطاقات الاقتراع لصالح حزب بوتين, وتصويت الكثير من الناخبين أكثر من مرة, وشراء الأصوات, وحدوث انتهاكات عديدة في عملية الفرز, فضلا عن الانحياز الإعلامي والإداري العلني للحزب الحاكم, ومع ذلك, فالنتائج الانتخابية فيها ما يؤشر إلي أن الإطاحة ببوتين وميدفيديف أمر ممكن في انتخابات حرة ونزيهة, بشرط توافر البديل القوي. ولا ننسي أن البديل الوحيد القوي حتي الآن لجوقة بوتين هو الحزب الشيوعي' المتداعي' شعبيا وسياسيا والذي احتل المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية الماضية بحصوله علي92 مقعدا, فيما لم يحصل حزب' روسيا العادلة', وهو حزب يسار وسط سوي علي64 مقعدا, والحزب الليبرالي الديمقراطي القومي- علي56 مقعدا. ما تحتاجه روسيا بحق حاليا ليس ثورة شاملة, ولكنها تحتاج إلي وجود معارضة قوية بقيادات واعية قادرة علي محاربة الفساد المالي والسياسي, واجتذاب عقول المواطنين والإطاحة ببوتين وميدفيديف في أقرب انتخابات برلمانية ورئاسية. فإلي الآن, ما زالت هذه المعارضة القوية والفاعلة غير موجودة.. وما زال الشعب الروسي أيضا لا يعاني بما يكفي لدفعه إلي الانتفاض كما فعلت شعوب الربيع العربي. .. ولهذا, سيبقي الفارق بين روسيا وثورات الربيع العربي, هو نفس الفارق بين جمود الشتاء.. وحيوية الربيع.