الصناعات اليدوية هي جزء من التاريخ والحضارة لأي شعب.. ومصر من أكثر دول العالم التي عرفت الحرف اليدوية منذ عهد الفراعنة، إلا أن التطور التكنولوجي ودخول عصر الماكينات وكذلك عدم الاهتمام بهذه الصناعات أو العاملين فيها أدي إلي تدهور الكثير منها حتي شارفت علي الاندثار. وفي الوقت الذي غاب فيه اهتمام الدولة لدينا بهذه الصناعات نجد بعض الدول العربية خصصت في حكوماتها وزارات للصناعات التقليدية مثل تونس والمغرب.. التفاصيل في سياق التحقيق التالي.. بدأت صناعة الصدف في مصر في العصر القبطي حوالي 200 ميلادية وكانت تسمي وقتذاك بناء البلح لعدم وجود معدات واستخدام النخيل بدلا منها. وفي عام 600 أو 700 بدأ ظهور صناعة السيوف والخناجر من الصدف، لتصنع من البوص ومن الشكل الدائري للخنجر والسلاح إلي أن وصلنا إلي العصر الحالي. في الأربعينات من القرن التاسع عشر عاشت المشربيات فترة من الازدهار استمرت حتي أوائل القرن العشرين. لذلك فكانت كل الآثار والمساجد معتمدة علي الشغل اليدوي التي يدخل فيها الصدف. فقد جاء إلينا ذلك الفن من كربلاء في العراق، بعد أن قاموا بقتل معظم من يعملون به لأنه كان هناك من يتربص بهم ويريد أن يمحو تلك المهنة والثقافة في ذلك الوقت. ولم يهرب منهم إلا عدد قليل جاء إلي مصر وبدأ يعلم بعضا من أولادهم هذه المهنة، فكان ذلك وقت ازدهارها، من 1848 إلي منتصف القرن العشرين. فأصبحت صناعة الصدف إحدي الصناعات اليدوية الموروثة التي يقبل عليها المصريون والعرب والسياح.
إلا أن الآن ربما اختلف الوضع قليلا، يقول أيمن السيسي، أحد أهم صانعي وبائعي الصناعات الخزفية في مصر والذي توارثها عن عائلته منذ عام 1904، إن مهنته تعاني حزمة من المشاكل التي قد تعصف بها بل وقد تؤدي إلي اندثارها في مستقبلا. الظروف الأمنية المضطربة تأتي في مقدمة اختفاء السياحة الموسمية في العشرة أو الاثني عشر عاما الماضية، وهي مشكلة كبيرة بالنسبة إلينا. فطالما تعودنا أن تكون السياحة في مصر بالنسبة للأجانب منذ بداية سبتمبر حتي مارس وأبريل والعرب من شهر مايو حتي أغسطس وسبتمبر مما يعني أن السنة كلها بها رواج سياحي. ولكن في السنوات القليلة الماضية لم تعد منتظمة ولم يعد هناك ما يسمي بالموسم السياحي. فطالما كانت له زبائن في أمريكا، استراليا، كندا واسبانيا، ألا أنهم لا يزدادون الآن بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة في مصر. فحادث الأقصر في نهاية التسعينات، تفجيرات شرم الشيخ، القنبلة التي تم تفجيرها في حي الأزهر، ضرب النار في الموسكي من ثلاث أو أربع سنوات، كل ذلك أدي إلي تطفيش السياح والهروب من مصر، بل واختيار دول أخري لقضاء أجازاتهم فيها تجنبا للمخاطر الأمنية وهو مستمر الآن لعشرة أو خمسة عشر عاما. فمثلا اعتاد الأمريكان منذ سنوات عديدة علي طلب بعض الأعمال الفنية للاحتفال بأعياد الكريسماس وهو ما توقف منذ حرب الخليج الأولي عندما غزا صدام الكويت في بدايات التسعينات مرورا بحرب الخليج الثانية.
أضاف أن عدد من يعملون بتصنيع الصدف آخذ في النقصان بل والي اندثار، فكان يعمل مع والده خمسة صبيان، أما هو فيعمل معه واحد فقط. فتلك المهنة تحتاج إلي صبر كبير جدا وتعايش مع المهنة من نوع خاص . تصميم الأرابيسك لم يكن تصميما جماليا فقط بل كان يعد فلترا أو منقيا للهواء من الأتربة كان يصنع في السابق من خشب الصندل الذي يطلق روائح جيدة في المكان. والشباك المخمس الذي يوضع فيه القلة لشرب الماء كانت توضع في المشربية علي هيئة شباك كانت تحافظ علي برودة القلة والمشرفية التي كانت تطل علي الحرملك والسلاملك. الحاج، علي حمامة، أشهر صناع الأرابيسك في مصر، يري أن ثورة يوليو ومفهوم الانتيكات والتحف خاصة بالبشوات مسئول عن جزء كبير مما نعيشه حاليا. أكد أن عدم اهتمام الدولة بالفنان ساعد علي عزوفهم عن العمل بتلك المهن بشكل كبير في مقابل التوظيف في الحكومة الذي يعطي صاحبه مميزات أهمها المعاش.
وأضاف : عدم وجود إعفاءات ضريبية علي المواد الخام التي يتم استيرادها من الخارج جعل من هذه المهنة عبئا ماديا ثقيلا جدا علي أصحابها. ثم تكلم عن مشكلته الرئيسية في إيجاد فنانين صغار من الصبية كما كان في السابق، فالجيل الجديد ليس لديه الصبر الكافي للتعلم فسرعة الحياة من حوله والعولمة وهذا شيء عالمي. للأسف إذا مات حرفي لدي الآن لا أستطيع تعويضه، والمتعلمون الجدد قد يقضون فترة قصيرة ثم يصابون بالملل. فعصر الإليكترونيات والريموت كنترول قلل كثيرا من قدرات الإنسان الجسمانية بشكل عام. قتل كثيرا من قيم هذه المهن اليدوية الفنية التي تتطلب شهورا وسنين في بعض الأحيان من أجل إنجاز قطعة فنية صغيرة ، فلم يعد هذا عصر الاتقان. يدعو الحاج حمامة إلي إنشاء جهة أو وزارة كبيرة من أجل البحث في حلول لمشاكل الصناعات التقليدية في مصر.، بدلا من الفنون التي اندثرت مثل فن النحاس الفرعوني والتي أغلق علي أثرها 270 ورشة. ووضع قيودا علي الاستيراد من الصين كدول كثيرة كتركيا والبرازيل التي تحاول الحفاظ علي صناعتها، فعندما قدم هو وزملاؤه في المهنة، شكاوي إلي الحكومة كل ما فعلته هو أن أخذوا علي كل تمثال جنيها لصالح المتاحف الإسلامية ولكن لم يلغوه أو يحدوا منه. فيجب أن تكون للصناعات التقليدية نسبة في أي تبادل تجاري بيننا وبين أي دولة، فاذا كان التبادل التجاري بيننا وبين أسبانيا بمائة مليون فمن المهم أن يكون خمسة في المائة للصناعات التقليدية من إجبار الدول علي شراء الصناعة التقليدية.
السجاد اليدوي في الحرانية جاء رمسيس ويصا واصف إلي الحرانية عام 1952 ، كان رئيس قسم عمارة ويدرس في الفنون الجميلة فلمس كيف أن المناهج التعليمية تفرض علي من يتعلم رأيا وذوقا ومزاجا معينا مفروضا من المجتمع وكان علي دراية ووعي بأن الناس لها ميول أخري فنية مفروضة عليهم، فالناس تعيش داخل قوالب معينة ولكن فنيا ما هي إمكانياتك الحقيقية لا يوجد اهتمام بذلك. فقد كبر الإنسان دون الالتفات إلي مواهبه الحقيقية دون أن يجد جذوره أو نفسه. هو ليس مصنعا أو حرفة بمعني الكلمة، بل مدرسة تربي فنانين، تبدأ معهم وهم أطفال صغار إيمانا منها ومن قبلها والدها بأن بداخل كل إنسان فنانا وأن الطفل في البداية مليء بملكات الإبداع وابتكار ليس لها حدود لا يعي أنها موجودة بداخله ولا البيئة من حوله تعطي لها أهمية كبيرة. كل ما تفعله هو احتضان هؤلاء الأطفال في البداية ونشرح لهم التكنيك نفسه وتقنيات الحرفة ونترك كل طفل بإمكانياته موجودة فيه طبيعية أن يعبر عن ذاته فيها مع منعه من رسم موديل من أجل نسجه بل يمسك الصوف والخيوط وينسج أفكاره بشكل فوري، فلا يوجد تصميم وتنفيذ.، كلها شيء واحد وبالتالي فهي عملية بطيئة جدا تأخذ أجيالا في مقدمتها عمر الشخص نفسه، اذا أحب ما يفعله وجذبه ما يفعلون وأشبعت رغباته كفنان. لذلك فعندما جاء هنا في الخمسينيات لم يكن يوجد في القري حتي القريبة من المدينة أي مدارس قد يوجد كتاب ولكن ليس تعليما في القري. فبالنسبة لهؤلاء الأطفال حياتهم لا تتغير أو تنمو ولا ينتبه أحد إلي أن يعطي لهم أحد مستقبلا أفضل، يعيشون في جهل وفقر وبلهارسيا. فقال إن هؤلاء الأطفال مظلومون يمتلئون بالطاقات ولكن دون تنمية. لذلك فبالنسبة له كفكرة فنية وتربوية. أكد أنه لو استطاع اقامة مشروع كهذا يتيح الفرصة إلي أطفال القرية من أجل تعلم حرفة معينة لكن بطريقة أرقي أن يكون فنانا وليس حرفيا أو صانعا وبذلك أعطي له فرصة اكتشاف الفنان الذي في ذاته سواء بالألوان والأشكال. اعتدلت في جلستها سوزان ويصا واصف، ابنة وحفيدة رمسيس ويصا واصف لتؤكد أن الكثير تغير منذ أن انضمت إلي المشروع الذي بدأه أبوها في خمسينيات القرن الماضي. علي مدي 38 عاما حاولت أن تعلم مجموعة من كذا طفل كيف يستوحون أفكارا مما حولهم في الطبيعة وحياتهم اليومية، و كل إبداع يعكس شخصية الفنان. بل إن متاحف فنية في إنجلترا، الولاياتالمتحدة وفرنسا اقتنت خمسة أعمال من هؤلاء الفنانين. فجمال القرية، قيمة الوقت، فبالنسبة للفلاح أو القروي لا يوجد للوقت أهمية قصوي كوقت في حد ذاته، و لكن ما يهمه ما يفعله عكس المدينة التي لها قيم مختلفة ثم ذكرت المثل الذي عني بالانجليزية الوقت يساوي مالا أو الوقت من ذهب بل ويعني هراء بالنسبة لها. فعلي النقيض تماما فقيمة الإنسان نفسه وما حققه في الوقت أهم من الوقت نفسه. تواجه الآن عددا من المشاكل الناتجة عن اختلاف أسلوب الحياة، فهي الآن تعمل مع جيلين، الجيل الأول الذي بدأ معه والدي منذ عام 1952 و فنحن مرتبطون بهم، بصحتهم، بمستقبلهم، وعائلتهم. مما يجعلها مسئولية كبيرة.
فعندما حاولت أن تأتي بأحفادهم، فالجيل الجديد يعد ملوثا فهو ليس لديه استعداد لتقبل قيم أصيلة يكون له مستقبل من خلالها، بمعني أنه لا يريد أن يعطي وقتا أو مجهودا، لا يريد أن يفكر، يريدون أن يمتهنوا أي مهنة سهلة تأتي له بعائد ربح بسهولة شديدة، المهم ما سيقوم بتحصيله من أموال في الساعة.
فالخامات كانت تحصل عليها من الطبيعة، عن طريق زراعة نباتات الفوة التي تعطي الصبغة الحمراء والنيلة التي تعطي صبغة زرقاء وكانت منتشرة في مصر علي النيل. إلا أن الكيماويات التي ترش بها الأراضي الزراعية ساعدت علي اختفاء تلك النباتات بالإضافة إلي ضعف الطلب عليها أدي إلي عدم زراعتها واندثارها. وطن الطينة الذي كنت أستورده مقابل ألف جنيه ارتفع إلي عشرة آلاف، كما أن خصخصة المناجم لصالح مصانع الخزف والصيني أدي إلي صعوبة الحصول علي المواد الخام من سيناء وأسوان لصناعة الأكواب وصحون لذلك توقفنا عن إنتاجها.
ارتفاع سعر القطن الذي تنتجه الحكومة في السنوات القليلة الماضية، بالإضافة إلي قلته ورداءة جودته حتي أنه أصبح يقطع علي النول، لم يعد القطن المصري طويل التيلة منتشرا بل حل محله القطن الصيني. كما يواجه العديد من منتجي الأصواف البلدي مشكلات في توزيع الأصواف لديهم مما أدي إلي توقف العديد منهم عن العمل مما يجعل الحصول علي الأصواف للرسم عليها أمرا شاقا خاصة في الفترة التالية لثورة الخامس والعشرين من يناير. أكدت واصف أن أكثر ما أحزنها في السنوات الماضية هي الثقافة غير السمحة دينيا الدخيلة علي مصر والتي انتشرت بشكل كبير ومرعب التي مست الشبان وخاصة الذكور أكثر من غيرهم. فبالرغم من علاقتنا مع المجموعة المبنية علي الاحترام المتبادل والحب الا أنني لاحظت أن شابين من المجموعة التي تبنتها منذ أن كان عمرهم سبع سنوات لم يأتوا لتهنئتي بعيد القيامة كما كانوا معتادين من قبل. رغم أنهم أقلعوا في النهاية عن تلك الأفكار ألا أنها تعد من إحدي التغييرات التي لم تكن موجودة في الجيل القديم الذي تبناه أبي علي سبيل المثال.
❊❊❊ بالرغم من وجود فنانين وحرفيين مهرة إلا أن طريقة العمل قد اختلفت، ففي السابق كانت توجد ورشة ومعلم يدرب الصبية أو الفنانين القادمين بل وكان يدفع بعض الأهالي إلي صاحب الورش حتي يقبلوا أبناءهم كصبيان فيها. أما الآن فالحسبة أصبحت مختلفة تماما، فبدلا من أن يذهب ليتعلم في ورشة أصبح يحسبها بما هو العائد خلال الساعة، ففي النهاية الأجور ضعيفة، مما يثبط أي شخص عمره عشرة أو خمسة عشر عاما أن يقبل الآن علي تلك المهن. فأربعون أو خمسون جنيها في اليوم لم تعد مغرية تماما بالنسبة له. فلم يعد يمثل شيئا أن يدقدق صينية بأربعين أو خمسين جنيها بل الأفضل أن يأخذ زبونا من مكان إلي مكان ويعمل في السمسرة مقابل أربعمائة أو خمسمائة جنيه في اليوم.
فالجو الثقافي والمناخ العام داخل خان الخليلي أفرز أنواعا من الأعمال كالسمسرة ومهن لا تمت إلي الصناعة اليدوية تماما. فلم يعد هناك ارتباط بالمكان كما كان في السابق، فمعظم المدارس التي كانت تعتمد في جزء كبير منها علي التمويل الأهلي في مقابل جزء بسيط حكومي وكانت تعلم الحرف اليدوية في الفيوم، القاهرة أو إسكندرية لم تعد موجودة. فحتي الطبقة المتعلمة، الواعية والتي تمتلك الإمكانات المادية لم تعد علي قدر من الوعي من أجل التبرع بمبني أو مدرسة أو أي عوامل تساعد علي الاستمرارية في متابعة هذا المشروع وهو ما يسمي بتنمية المجتمع. تصنيع الماركيتريه هوأحد التصميمات الخاصة بالموبيليا التي تعتمد علي وضع أشكال من الخشب علي سطح خشبي ويصمم بقشرة ألوان أو وردة فيعطي تصميما معينا، يظهرفي الغالب كأنه خشب مشقق. محمد إسماعيل، صاحب إحدي ورش تصنيع ماركتريه، يؤكد القلة الملحوظة جدا علي هذا الفن في العشر سنوات الأخيرة، فبعد أن كان هناك طلب دائم عليها بالكاد أصبح هناك طلبان في السنة يكون أغلبهم لأجانب. فالموضة كما يطلق عليها أصبحت للمودرن أو الحديث وهو ما يفضله أغلب الشباب حديثو الزواج الذين يجدونه مريحا. وهذا يهدد هذه الصناعة المتوارثة بالاندثار نهائيا، والكثير قام بتغيير النشاط ولكنه يجد صعوبة في المهنة التي قضي فيها عمره. أما حمدي الحسيني الذي توارث فن التكفيت وهو تطعيم الخشب بالفضة أكد قلة الطلب علي هذا الفن إلا من العرب والأجانب الذين علي استعداد دفع تكليف صناعة يدوية دقيقة تأخذ وقتا في الصناعة. فالمصريون خاصة أصبحوا يسترخصون فيطلبون نحاسا ومعدنا وتصديرا بدلا من الفضة التي ارتفعت اسعارها بشكل كبير مقارنة بالسابق، فمن يدفع خمسة عشر ألف جنيه في صينية. كما أنه لم يعد من السهولة ايجاد فنانين يمكن تعليمهم والاعتماد عليهم كما كان قبل ذلك. وتوقع قرب اندثار هذا الفن مع تداول الأعمال القديمة إلي سوق تصبح قطع انتيكة.
وعندما سألنا الحاج أيمن المصري، أحد تجار الموبيليا الكبار في دمياط عن نوعية الموبيليا التي ارتفع عليها الطلب في الفترة الأخيرة أكد وجود تغير في الذوق العام تجاه الموبيليا المودرن أو الحديثة في مقابل الموبيليا الكلاسيكية التي كانت تعتمد علي أنواع فنون كالتكفيت والماركترية. قلة الطلب يؤثر بالفعل علي جزء كبير من سوق الموبيليا ويفتح الباب أمام الاستيراد وخاصة من الصين. عندما جاءت ثورة يوليو أفرزت مناخا ثقافيا بأن كل الناس تريد أن تتعلم "فالتعليم كالماء والهواء" فأخذت هذا الشطر من السياسة وأصبح المجتمع منذ ذلك الوقت ينظر نظرة دونية إلي العمل اليدوي.