لاأعتقد أن أحدا أحب أباه مثلما أحببت والدي . كنت أراه مثاليا رائعا متفتحا مثقفا عقلانيا وفوق كل ذلك حنونا ذا قلب مرهف يشعر بكل من حوله يقرؤنا من عيوننا. كنت وأخوتي كالكتاب المفتوح أمامه. كان أول من يرصد فرحنا وأول من يلتقط آلامنا . تعودت منذ صغري اللجوء إليه أحكي له كل تفاصيل حياتي. كان الأقرب إليَّ رغم علاقتي الطيبة بأمي التي كنت أراها أعظم أم متفانية حنونا لاتدخر وسعا لإسعادنا. قلبها قبل بيتها مقصد للجميع من الأهل والأصدقاء والجيران . رغم كل ماتتمتع به من صفات رائعة إلا أن أبي كان الأقرب إلي وربما كنت أيضا الأقرب إليه عن بقية إخوتي. كنت أثق في رجاحة عقله وحكمته ويعجبني رأيه الذي يعكس خبرة وثقافة .كان واسع الصدر يستمع إلي كصديق حميم وكان يمتلك قدرة كبيرة إلي الإقناع والتوجيه والنصح دون أن يشعرني بذلك حتي عندما أرتكب خطأ ما أو أتصرف بعكس ما كان يتوقع مني لم يكن يلجأ أبدا للتوبيخ أو اللوم أو حتي عتاب كان أسلوبه رزينا هادئا يصل لهدفه دون ضجيج أو عصبية أو انفعال مبالغ فيه. كانت تكفي نظرة من عينه حتي أعرف كم أنا مخطئة . وقتها كنت أشعر بالخجل أريد أن تبتلعني الأرض حتي أهرب من تلك النظرة ومع ذلك لم يكن يتوقف كثيرا عند كلمات الاعتذار لم تكن تشغله كثيرا كان كل همه أن يعلمني ألا أفعل مايسيء إليَّ يوما أويدفعني للخجل من نفسي . كان يريدني واثقة قوية. وكنت أحاول جاهدة أن أكون كما يريد . وظل هو في عيني كما كان دائما مثار فخر وإعجاب حتي ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه صورة أخري لأبي مغايرة عن تلك المرسومة في ذهني. وللأسف جاء الاكتشاف متأخرا. قبل شهور قليلة من رحيله. بينما كنت منهارة بفعل صدمة مرضه يتمزق قلبي وأنا أراه يتألم ويفزعني شبح الموت الذي بدا قريبا جدا منه. كنت بنصف عقل ونصف وعي وحطام قلب لم أفق من حالتي تلك إلا علي صدمة أقوي. عندما اعترف أبي لي أنه متزوج من أخري وأنه أنجب طفلة منها أوصاني أن أودها وأن أعطيها كل حقوقها، لم تتوقف المفاجأة عند ذلك فقد علمت منه أيضا أنه تزوج من ثالثة إلا أنه طلقها بعد شهور قليلة لطمعها وجشعها. بعدما صدمني رحل أبي قبل أن يجيبني عن أسئلة كثيرة عذبتني لماذا خان أمي فهي لاتستحق منه ذلك كانت علاقتهما مثار حسد للجميع ماالذي إرتكبته حتي يفعل ذلك؟ وكيف نجح في خداعنا كل تلك السنوات الثلاث التي تزوجها فيها كما أخبرني؟ تذكرت غيابه الكثير بحجة العمل وسهره حتي فترات طويلة ليلا لماذا أخفي عنا؟ لماذا خان أمي؟ ماتت الإجابات بعد رحيل من يمتلك وحده سرها. صدمتي في أبي جعلتني أرفض الزواج لسنوات طويلة لكن بعد إلحاح وافقت علي شاب رآه الجميع مناسبا ورأيته مقبولا لا أعرف كيف أقنعوني به وكيف قبلت الزواج منه. وأعترف أن زوجي يفعل مافي وسعه لإسعادي لكنني أفتقد لتلك السعادة لا أشعر بها بل علي العكس كثيرا ما أجد نفسي أسيرة لدوامة من الحزن. ما فعله أبي جعلني أفقد الثقة في الجميع في نفسي وفي أهلي وبالطبع في زوجي. أشعر أن يوما سيأتي لأكتشف فيه حقيقة غير تلك التي يبدو عليها . أكاد أصرخ في وجهه بأن يكف عن الكذب وأن ينزع القناع عن نفسه لأري حقيقته. تموت الصرخة داخلي وإن كان يقرؤها مرارا في عيني. أعرف أنه تحملني كثيرا لكني عاجزة عن الخروج من دوامة الشك ؟ لصاحبة هذه الرسالة أقول: أقدر وقع الصدمة المؤلمة عليك والتي زادها بالطبع رحيل والدك قبل أن تواجهيه وتناقشيه مثلما كان يفعل دائما معك فربما لو حدث ذلك لخفف عنك قليلا. وقد تتفهمين موقفه أو تلتمسين له العذر أو حتي ترفضين مبرره أوتعلنين له عن غضبك وصدمتك. إلا أن الأمر لم يعد بيدك وليس أمامك سوي أن تطلبي له الرحمة تذكري دائما أنه كان أبا حنونا معطاء. صحيح أنه أساء لنفسه ولوالدتك ولكن ليس لأنه تزوج من أخري بل لأنه أخفي أمر زواجه فبدا علي قدر كبير من الازدواجية نالت من تقديركم له وهزت من مكانته في نفوسكم. وأعود وأقول إنه ليس أمامك سوي طلب الرحمة له وفي نفس الوقت عليك أن تنتبهي ولاتعاقبي زوجك بجريرة أبيك فليس ذنبه أن يدفع ثمن لخطأ لم يرتكبه لاتدعي صدمتك بوالدك يحول حياتك إلي جحيم. قدر من الثقة وأيضا قدر من التفاؤل ضروريان لاستمرار الحياة رغم كل ماتواجهنا من صدمات فيها.