تقول كتب التاريخ إن الأكراد هم أكثر من دفع فاتورة العنف في الشرق الأوسط علي مدار المائة عام الماضية، وذلك حتي إضعاف السلطة المركزية في كل من العراق عام 2003، بفعل الغزو الأمريكي والإطاحة بنظام صدام حسين، وفي سوريا مع اندلاع الحرب الأهلية في 2011. الأكراد كانوا أيضاً المنسيين في اتفاقيات التقسيم الخاصة بالشرق الأوسط، إذ لم يأت ذكر دولة لهم في اتفاقية لوزان الموقعة يوم الرابع والعشرين من يوليو عام 1924، وهو ما تم تفسيره بالتنوع اللغوي والديني للمجتمع الكردي، مما يجعل عملية تماسكه في كيان واحد صعبة، إضافة لطبعه العشائري حيث يسكن أغلبهم سفوح الجبال في سورياوالعراق، والحديث هنا عن البلدان العربية، فقط، التي يتواجدون فيها. ورغم عدم تماسكهم في كيان موحد، لم يكن الأكراد استثناءً في هذا العصر الذي اتسم بالأفكار القومية البدائية، ومن المؤكد أنه تم دعوة وفد منهم لحضور مؤتمر فرساي بفرنسا عام 1919، وقدم هذا الوفد مذكرة دافع فيها عن إنشاء دولة كردية مستقلة. تركيا الحديثة الوريثة للإمبراطورية العثمانية كانت ومازالت ترفض بشدة وجود أي كيان كردي، وتراجع الفرنسيون والإنجليز، القوي الاستعمارية القديمة للشرق الأوسط، عن حسابات إنشاء دولة للأكراد، حيث تم فصل الأكراد من كلا جانبي الحدود التي كان يتم ترسيمها، وبعد حصول سورياوالعراق علي استقلالهما عاني الأكراد من القمع والاضطهاد كما فعلت وما زالت تفعل تركيا، وكان الأكراد ضحايا للقوميتين العربية والتركية لدرجة حرمانهم من التسمية بأسمائهم، ففي تركيا كان يُطلق عليهم "أتراك الجبال"، وفي سورياوالعراق عاني الأكراد من ويلات تطرف القوميين العرب بعد الحرب العالمية الثانية. وفي سورياوالعراق تم العبث بديموجرافية البلدين من خلال تعريب أسماء الأكراد قسرًا وبزرع سكان عرب في مناطقهم لإجبارهم علي الخروج من ديارهم، وفي العراق بلغ الأمر القيام بعمليات عسكرية علي نطاق واسع دشنت بداية لتطهير عرقي ضد الأكراد، وكانت أشهر المذابح ضد الأكراد مجزرة بلدة حلبجة التي قصفها نظام صدام حسين بأسلحة كيماوية عام 1988 بذريعة التعاون مع إيران في حرب الثماني سنوات بين طهرانوبغداد. يعود العرق الكردي لأصول مختلطة مابين الهنود والأوروبيين، يدين غالبيتهم بالإسلام علي مذهب أهل السنة، ويستوطنون نصف مليون كم مربع علي الأراضي التركية المتاخمة للحدود مع كل من العراقوسورياوإيران، وتتراوح أعدادهم إجمالا، في البلدان سالفة الذكر، ما بين 25 و 35 مليون نسمة، ويتواجد العدد الأكبر منهم في تركيا (من 12 إلي 15مليونا)، ثم إيران (5 ملايين)، ثم العراق (6 ملايين ونصف مليون) وأخيرا سوريا (2مليون)، وغالبا ما يعيشون في مناطق جبلية وكهوف ويغلب علي عاداتهم الطابع القبلي. وعقب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولي وبدء انهيار الإمبراطورية العثمانية، قامت تلك الأخيرة بتوقيع اتفاقية "سيفر" عام 1920 مع دول الحلفاء المنتصرة في الحرب، وكان ضمن نصوصها استقلال الكثير من البلدان عن النفوذ العثماني (منها بلاد الحجاز وأرمينيا وكردستان العراق) والسماح للأكراد بإنشاء وطن مستقل لهم يكون مركزه غرب منطقة الأناضول وإقليم الموصل بالعراق، غير أن تولي مصطفي كمال أتاتورك زمام الأمور في تركيا ونجاحه عسكريا في استرداد الكثير من الأراضي التركية من قبضة قوات الحلفاء، أجبرهم علي الجلوس والتفاوض معه ومن ثم توقيع معاهدة جديدة في "لويزان" بسويسرا وذلك عام 1923، حيث ألغت بنود تلك الاتفاقية بنود اتفاقية "سيفر"، وتم الاعتراف بتركيا كوريث شرعي للإمبراطورية العثمانية المنهارة، كما تمكنت تركيا بموجب تلك الاتفاقية من ضم مساحات كبيرة من أراض كانت تابعة لسوريا في الأساس، ومنذ ذلك الوقت تعتبر كل من تركياوالعراقوإيران، الأكراد بمثابة خطر انفصالي يهدد وحدة أراضيهم. ربما كان من المهم هذه المقدمة التاريخية قبل محاورة كفاح محمود كريم المستشار الإعلامي لمسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق. الرئيس مسعود البارزاني لم يستمع لصوت الحكومة المركزية في بغداد أو الدول العربية أو تركياوإيران وأصر علي إجراء استفتاء الانفصال عن العراق.. ما الذي يجعلكم لا تعيشون مع العرب في نظام فيدرالي؟ الموضوع لا علاقة له بالعرب كقومية وكشريك لنا في الأرض بقدر تعلق الأمر بالنظام الحاكم في الدولة التي نتشارك فيها، وللأسف الشديد فشلت بغداد عبر كل الأنظمة التي حكمتها، منذ تأسيس المملكة العراقية في مطلع عشرينيات القرن الماضي، وحتي إسقاط نظامها السياسي المتمثل بنظام الحزب الواحد والقائد الأوحد صدام حسين، والتي حاولت إبادة القومية الكردية، وحرقت بالنابالم والأسلحة الكيماوية والطائرات أكثر من نصف مليون كردستاني خلال أكثر من ثمانين عاما، وأكرر للأسف حتي النظام الأخير الذي كنا جزءا حيويا منه وشاركنا في تأسيسه بعد إسقاط نظام صدام حسين، حيث فشل خلال أكثر من عشر سنوات في إقناع رجل الشارع في كردستان بأنه حريص عليه، وفي أول خلاف استخدم وسائل لم تختلف في نتائجها عن تلك التي استخدمت من قبل الأنظمة السابقة، حيث أوقف حصة الإقليم من الموازنة السنوية وهي 17٪ منها، منذ بداية 2014م وهذا يعني ضرب حصار مطبق علي شعب تعداده أكثر من ستة ملايين نسمة، إضافة إلي إيقاف صرف مرتبات الموظفين والعسكريين في الإقليم وهم بحدود المليون وأربعمائة ألف منذ مطلع 2014 وحتي اليوم، بما تسبب في أزمة مالية حادة أدت إلي توقف كل برامج التنمية ورفعت معدلات الفقر التي كانت قد اقتربت من الصفر! لقد أدركت سلطات الإقليم التنفيذية والتشريعية بأنه لا مفر من الذهاب إلي الاستفتاء حول تقرير المصير والاستقلال الذي يعتبر هدفا ساميا ونبيلا لأي شعب من شعوب العالم، بعد أن فشلت كل صيغ العلاقة مع بغداد. البعض يري في تحرككم نحو الاستقلال بالتزامن مع انتهاء الولاياتالمتحدة من إنشاء قاعدة عسكرية في المناطق الخاضعة لسيطرتكم بمثابة ضوء أخضر لإعلان دولتكم.. هل هذا صحيح؟ لا علاقة لموضوع الاستقلال بأي شيء من هذا القبيل، لأن شعب كردستان يناضل بقيادة حركة التحرر التي قادها منذ أربعينيات القرن الماضي الزعيم مصطفي البارزاني والتي تمخضت عن ثورات وانتفاضات عديدة تكللت بانتصار انتفاضة الربيع عام 1991م والتي أنتجت ما سمي في حينها الملاذ الآمن بقرار من مجلس الأمن الدولي، واستقلت كردستان ذاتيا عن بغداد وذهبت إلي انتخابات عامة أسست بموجبها أول برلمان كردستاني منتخب مباشرة وبإشراف مراقبين من الأممالمتحدة والاتحاد الأوربي ومنظمات حقوق الإنسان، ثم تم تشكيل أول حكومة إقليمية مستقلة تماما عن بغداد في 1992م. لقد كنا حريصين علي وحدة العراق أكثر من كل الذين حكموا بغداد سابقا ولاحقا، وتخلينا عن امتيازات الاستقلال حينما سقط نظام صدام حسين وذهبنا إلي بغداد لتأسيس دولة اتحادية تعددية ديمقراطية يشترك فيها العرب والأكراد وبقية المكونات باستحقاقاتهم كاملة، لكنهم كما قلت لك فشلوا في استيعاب أو إدراك تأسيس دولة المواطنة، فأسسوا من جديد نظام الحزب الواحد تحت يافطة الأغلبية تارة والمحاصصة تارة أخري، ومن ثم الاستحواذ علي كل مراكز القرار السياسي والعسكري والمالي. في سوريا أعلن الأكراد من جانب واحد حكماً فيدرالياً في مناطقهم وينظمون انتخابات محلية في الشمال.. هل ثمة تنسيق فيما بينكم وهل هذا مقدمة لاستقلالهم التام ثم اندماجمهم معكم في دولة واحدة لا سيما وأن حدودكم مشتركة؟ في بيان لرئاسة الإقليم حول موضوع الفيدرالية في سوريا وخاصة للأكراد، أعلنت رئاسة الإقليم دعمها لخيارات الشعب الكردي هناك ومساندتها له بما يحقق أهداف الشعب وتثبيت حقوقه دستوريا وقانونيا، ولكن هذا لا يعني أن هناك سيناريوهات لتأسيس دولة بين إقليم كردستان وفيدرالية سوريا الكردية، حيث يؤكد الخطاب الكردستاني الرسمي علي خيارات الكرد في أجزاء كوردستان الأخري ويحترم ظروفهم وطبيعة العلاقة من شركائهم هناك، دون أي تدخل في شؤونهم مع مراعاة دعمهم وتأييدهم دوما. هل تعتقد أن تركيا ستقف مكتوفة الأيدي بينما الشعب الكردي يكسب أرضاً جديدة كل يوم.. وهل أنتم مستعدون للتصادم معها؟ الأتراك أدركوا تماما بعد نجاح إقليم كردستان وازدهاره، بأنهم جيران لإقليم إيجابي ومسالم وأرض معطاء وبيئة نموذجية للاستثمار، ولذلك قال الرئيس بارزاني رئيس إقليم كردستان بأنهم فهموا قضية الأكراد هنا وأدركوا بأنه من المفيد أن يكونوا أصدقاء، ولذلك تري هنا في كردستان عشرات المليارات من الدولارات التي تستثمرها الشركات التركية إضافة إلي الاتفاقيات المهمة في قطاع الطاقة التي تدر أرباحا كبيرة لتركيا، ولذلك فإنه وإن كانت غير مرتاحة من قيام دولة كردية إلي الجنوب منها كما يري بعض الخبراء والمراقبين إلا أنها لن تعاديها أو تكون عثرة في طريق تطورها، ولأجل ذلك تمتع تركيا اليوم بعلاقات متينة ومهمة مع الإقليم بما يخدم مصالحها ومصالح شعبها وشعب الإقليم أيضا. ولكن إيران أيضا كانت وما زالت من الدول التي ترفض بلغة تهديد ووعيد حديث الأكراد عن الانفصال حتي لا تنتقل إلي أراضيها عدوي الانفصال؟ أزعم أن لغة المعاداة واستخدام العنف لقمع الشعوب لم تعد اليوم سلوكا محترما أو مقبولا كما كان في سابق الأيام، بل وتطورت وسائل العلاقات بين الدول الأكثر عداوة في العالم، وأصبح الاقتصاد ومصالحه يتجاوز ثقافة المعاداة، وبذلك انفتح إقليم كردستان علي جميع دول الجوار وخاصة إيرانوتركيا وأقام معهما منظومة من المصالح الاقتصادية والاستثمارية التي تدر مليارات الدولارات لشعوبهم بدلا من العلاقات المتوترة والتي لا تنتج إلا الخسائر في المال والفرص والتطور بكل أنواعه. إيران دولة إقليمية مهمة مثلها مثل تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر، ويتمتع الإقليم بعلاقات ممتازة معهم جميعا، وما زيارات رئيس الإقليم والحكومة إلي كل من إيران والسعودية وتركيا ومصر إلا تأكيداً علي إيجابية إقليم كردستان وأهميته في معادلات التوازن في الشرق الأوسط. هناك من يقول إن الغرب الآن ورغم مطالبه لكم بتأجيل الاستفتاء، يريد بشكل غير معلن إصلاح الخطأ الذي اقترفه بحقكم حينما تجاهل مطلبكم بإنشاء دولة في مؤتمر باريس 1919 ومعاهدة لوزان 1923.. فهل لك أن تشرح ذلك؟ - لقد اقترف الحلفاء في سايكس بيكو خطأ كبيرا بحق شعوب المنطقة عموما، حتي العرب كانوا من ضحايا تلك الاتفاقية التي أهدرت حق شعب كردستان بإنشاء دولته وإقرار حقوقه الإنسانية، فتسببت كما قال أحد الدبلوماسيين الأمريكان في أثناء توقيع معاهدة لوزان بأنهم يوقعون علي بحور من الدماء بين شعوب المنطقة، وفعلا كانت بداية المأساة مع الفلسطينيين والأكراد الذين ما يزالون ينزفون دما ودموعا بسبب تلك الأخطاء الجسيمة بحقهم. المجتمع السياسي الأوربي والأمريكي خاصة والعالمي عامة أدرك تلك الحقائق ويعمل ببطء من أجل تعويض أو حل تلك الاشكاليات، ولكن بتقديري أثبت شعب كردستان بتصديه المتحضر والشجاع لأكبر حرب إرهابية يتعرض لها العالم اليوم مع منظمة ما يسمي بتنظيم داعش، وتحقيق الانتصارات الكبيرة عليها دونما الإضرار بالقيم العليا للإنسان، واستقبال أكثر من مليوني نازح جلهم من العرب الذين احتلت داعش مدنهم في غرب العراق رغم ضائقة الإقليم المالية وتوفير الأمن والسلام لهم، دفع العالم برمته الي إعادة النظر برؤيته ومواقفه من الأكراد ومطالبهم الحضارية التي يصرون عليها باستخدام الحوار والاستفتاء بدلا من العنف والدماء. ولذلك كان الجميع إيجابيا مع الرئيس بارزاني في جولاته عموما إلي أمريكا وأوربا والخليج العربي، واستقبل هناك استقبال زعماء الدول باحترام يليق بما قدمته قوات البيشمركة في قتالها البطولي وانتصاراتها الكبيرة التي حطمت أسطورة الرعب لداعش في العراقوسوريا وكردستان.