قعدة بدوية "الأشياء القديمة صالحة لإثارة الدهشة".. يمكنك استحضار عبارة الروائي الجنوبي يحيي الطاهر عبد الله، وأنت تتابع وقائع القضاء العرفي (القعدة) في الشيخ زويد.. البداية وعد من الناشط السياسي محمد حمد بأننا سنشهد إحدي جلسات محاكمة عرفية مهمة متهم فيها أحد شباب القبائل.. المعلومات التي توصلنا إليها حول القضية قليلة.. وحتي يكون الأمر أكثر تشويقا سيكتفي حمد بأن يقول إنها (قعدة دم).. بينما يفضل الاحتفاظ بالتفاصيل حتي يُسمح لنا بالحضور. المكان: خيمة منعزلة نصل إليها بعد أن تتبعنا بسيارتنا سيارة حمد التي تحمل أرقاما مميزة حتي يتوقف فيشير إلينا بالبقاء في الخارج لحين التفاوض وأخذ الإذن بالموافقة علي دخولنا والجلوس بين القضاة.. يترجل حمد من سيارته، ليصعد تبة مرتفعة في طريقه إلي الخيمة التي نلمح بداخلها بعض الأشخاص ممن يجلسون بداخلها. لحظات قليلة ويمتلأ المكان بعشرات السيارات التي تركن في صفوف أسفل التبة، يخرج منها من يتجه مباشرة إلي الخيمة، وكل منهم يرمقنا بفضول.. انتظارنا سيطول لساعات، واتصالنا بمضيفنا سيسفر عن إرساله من يخبرنا بأن القرار بعدم دخولنا تم بموافقة الأغلبية التي رأت في وجودنا ما سيفضح أسرارا يفضلون عدم وصولها للصحافة! المعلومات التي سنحصل عليها حسب الرواية التي أخبرنا بها أحدهم تفيد بأن المتهم كان علي علاقة مع سيدة متزوجة، وتم ضبطه معها متلبسا.. تم قتل المرأة في الحال رغم أنها حبلي، بينما وصلت الغرامة الموقعة علي الشاب باتفاق القضاة إلي 25 مليون جنيه وهو المبلغ المتعارف عليه في مثل هذه القضايا وعادة ما يكون الحكم به في القعدة الأولي .. التفاوض حول المبلغ وصل إلي 5000 ألف، لتنفض "القعدة" الثانية، علي أن تستأنف الجلسات فيما بعد للتخفيف من المبلغ الذي من المتوقع أن يصل إلي 100 ألف جنيه لأن الشاب من أسرة فقيرة.. بمجرد انتهاء القعدة وانصراف الناس، سنواجه ابتسامة حمد وهو يعتذر بشدة علي عدم تمكنه من إقناع الموجودين في القعدة والسماح لنا بالحضور، وهو ما يجعله يصر علي أن يعوضنا في جلسة أخري فيصحبنا إلي منطقة أخري، لنشهد وقائع "قعدة" تتم خلالها عمليات بيع وشراء للسيارات. ونجدنا نجلس بين البدو بجوار الشيخ أبو زريعة الذي يخبرنا بأن الناس في البادية يتحاشون الذهاب إلي المحاكم الشرعية أو الرسمية ويركنون إلي القضاء العرفي لأنهم يرضون بحكمه،ولا يشفي صدورهم إلا الأحكام الصادرة من خلاله لما يتمتع به من سرعة في إجراءات وفض المنازعات والحسم في القضايا والتزام جميع الأطراف بالعقوبة التي يحددها كل قاض. ويقول: اختيار القاضي العرفي له العديد من الضوابط أبرزها العدل بين أطراف النزاع وحسن السير والسلوك والسمعة الطيبة بين سائر القبائل وأن يكون له هيبته بين أفراد قبيلته فضلا عن كونه صاحب الكلمة والرأي الصائب بين مشايخ القبائل.. ويبتسم: لا يشين القضاء العرفي عمليات التوريث التي تشكل إحدي الظواهر السلبية في المحاكم، اللهم إلا نادرا إذا ما توافرت الشروط السابقة في القاضي. ويضيف: يقدم الشاي علي راكية من النار كمشروب أساسي خلال الجلسة العرفية بحضور كافة أطراف النزاع والقبائل المتحالفة مع كل خصم ويقوم كل صاحب مشكلة بإحضار قاض عرفي للدفاع عنه. ويعد القاضي في هذه اللحظة بمثابة محام في القضاء المدني ولاتخضع سلطات القضاة العرفيين لسلطات مشايخ القبائل فهي تتمتع بالاستقلالية ونزاهة! وحول أقسام القضاء يقول أبو زريعة إن القضاء العرفي يضم عدة أقسام منها القاضي الأحمدي ويختص بقضايا حرمات البيوت في حالة التعدي عليها دون استئذان حيث إن للبدو عادات وتقاليد مهمة يجب الالتزام بها ودائما يكون الحكم فيها بعقاب رادع. والقاضي المسعودي يكون اختصاصه في نزاعات الحدائق والأراضي وأشجار النخيل والقاضي العقبي ويختص في قضايا النساء البدويات ويحميهن في حالات السب والقذف والضرب بما يضمن الحفاظ علي حقوق المرأة من التعدي عليها وقضايا الأحوال الشخصية وكل مايخص المرأة في البادية. أما قاضي السلالمي أو منقع الدم فهو الذي يختص بقضايا وجرائم القتل العمد والخطأ والضرب المبرح. وقاضي القطاعات ويكون اختصاصه في حالات فض النزاعات بين الأطراف علي حدود المناطق والقطاعات الخاصة بالقبائل، وقاضي المبشع ويختص في إثبات القضايا المتكررة من قبل الأطراف حيث يقوم بإثبات الحقيقة من خلال لحس النار للطرف المدعي في حقه. ويرسل صاحب الحق أوالشكوي دعواه إلي القاضي، الذي عادة ما يتم اختياره بناء علي سمعة حسنة يتمتع بها في القبيلة. والقاضي يحدد لنفسه مقابلا ماديا يطلق عليه (الرزقة) ويحصل عليه من طرفي النزاع وعادة ماتتم جلسات القضاء العرفي في البادية داخل الخيمة البدوية. ولا يشترط أن تكون الرزقة مبلغاً مالياً، فربما كان الطرفان لا يملكان مالاً فيرتضي القاضي وقتها بأي ضمانة يضعانها أمامه حتي ولوكانت عقال أحدهم أوعمامته، ثم يمثل الطرفان أمام القاضي، الذي يترك الفرصة للدفاع أن يعرض وجهات النظر المختلفة، بعدها يستمع القاضي إلي الشهود ثم يصدر حكمه في النهاية ويترك للطرفين مطلق الحرية أن يأخذا به أويعرضا قضيتهما علي مجلس عرفي آخر إذ إن هناك ثلاث درجات للتقاضي يلتزم بعدها الطرفان بأن يأخذا بأي حكم فيها، واذا رفض تنفيذ الحكم يكون مدانا. ورغم أن القانون العرفي ليس مدوناً، كما يقول الشيخ أبو زريعة فإن هناك ما يشبه الإجماع علي الأحكام التي يصدرها القضاء العرفي عموما علي سبيل المثال فإن الشائع في أحكام القضاة هناك هو دفع الدية حتي في جرائم القتل، التي تمثل حساسية شديدة هناك كما تفرض الدية في معظم القضايا هناك.