ظل الحمار المصري رمزًا للجلد والتحمل، رغم المشقة والمهام التي يتكبدها ليل نهار، يزامله في تلك المصاعب البغال والخيول متواضعة الأصل، وبالطبع ليست العربية المدللة التي يقبل علي شرائها واقتنائها علية القوم وكبار الشخصيات. وطبقًا لآخر تقرير أصدرته منظمة الفاو عن الفصيلة الخيلية قدرت أعدادها بأكثر من ثلاثة ملايين موزعة علي كافة المحافظات وتعمل في ظروف قاسية للغاية كعربات الحنطور ونقل أحمال القمامة ومصانع الطوب الأحمر بحلوان إضافة للأعمال الزراعية فتتعرض لضربات الشمس والإجهاد والجفاف مما يعرض أسرة كبيرة لخطر فقدان مصدر رزقها الأول فحمار أو حصان واحد يعول أسرة بأكملها ويوفر لها قوت يومها. هنا يبرز اسم »مستشفي بروك الخيري» أول جمعية خيرية لعلاج الحمير بالمجان، وهي صرح من أقدم مستشفيات العالم أسس لرفاهيتها وإنقاذها. بقلب حي السيدة زينب، يقف مبني مستشفي بروك شامخا كأنه يمد يد العون لكل زواره من الباعة الجائلين والعربجية الذين لايمتلكون من حطام الدنيا سوي عربة كارو متهالكة وحمار أو حصان يساعده في مهام عمله بل وشريكه بالفرح والحزن، لوحة رخامية عتيقة تنشر زخات القرن الماضي وشاهدة علي كفاح »مدام دورثي بروك» لحماية الحمير والخيول ومداواة جروحها، تلك الإنجليزية زوجة أحد جنرالات الجيش التي هالها ما كابدته خيول بلادها عقب الحرب العالمية الأولي وبعد أن أصبحت هياكل عظمية وحط بها الرحال لتباع بمصر وتتبدل أحوالها من ترف سلاح الفرسان الإنجليزي إلي غبار وفقر الشوارع المصرية لتسارع مدام بروك وتحزم حقائبها إلي لندن عازمة علي إنقاذ تلك الأرواح فبمنتصف الثلاثينيات كتبت خطابا مؤثرا لصحيفة الموريننج بوست والتي أصبحت فيما بعد »الديلي تليجراف» لتحكي عن معاناة خيول بلادها لتثير الهمم الإنجليزية وتتلقي تبرعات ضخمة تكون نواة للمستشفي الحالية المسماة باسم عائلة زوجها »بروك» . وبعد ثورة يوليو انتشرت فكرة الاهتمام بالحيوانات وعلاجها لتتوسع المستشفي ويصبح لها عدة فروع كان أولها بالإسكندرية بأوائل الستينيات ثم بالأقصر في 1966وتلاها بعد ذلك مستشفيات أسوان والمنصورة ناهيك عن القوافل المتنقلة التي تجوب النجوع والقري البعيدة عن تلك المستشفيات فتقوم بدور التوعية وتقديم العلاج المجاني. للوهلة الأولي لدخولك المستشفي الذي اختار رأسي حصان وحمار صحيحين مذيلة بتوقيع بروك ذي اللون البرتقالي حتي تري طابورا طويلا من ملاك الخيول وأصحاب الحناطير جاءوا للمستشفي مصطحبين معهم حيواناتهم للعلاج والتطعيم ضد الأمراض الصيفية المختلفة التي تهاجمهم بضراوة مستغلة حرارة الجو وسخونته، أطباء يجوبون يمينا ويسارا يعاونهم السياس الذين يرتدون زيا رماديا موحدا ليشعروك بمدي جديتهم بالعمل وتفانيهم، فالمستشفي يضم عنبرين كبيرين مقسمين إلي حظائر مستقلة تكفي لإيواء أكثر من 22 مريضا وليس هذا فحسب فبعد رحلة العلاج يتم نقلها إلي حظائر النقاهة لإتمام تعافيهم وتماثلهم للشفاء إضافة إلي غرفة العمليات المجهزة كأنها واحة ومنتجع استشفائي. وعلي مقربة من خلية النحل تلك يقف الدكتور عماد ناعوم نائب مدير جمعية بروك ومدير الإدارة الطبية يتابع عن كثب سير العلاج يعطي تعليماته للسياس والأطباء بحزم لتوفير مزيد من الراحة للخيول المريضة ، يقترب من أصحابها يتحدث معهم بحميمية فقد استطاع كسب صداقاتهم علي مدار أكثر من عشرين عاما قضاها بين جنبات »بروك». يقول ناعوم: »نشأت فكرة مستشفي علاج الخيول علي يد مدام »دورثي بروك»عقب زيارتها مصر في 1930 فوجدت الخيول الإنجليزية والأسترالية التي شاركت بالحرب العالمية الأولي تعاني الأمرين بشوارع القاهرة لتقرر إنقاذها واستطاعت جمع تبرعات لإنشاء مستشفاها وخلال الثلاث سنوات الأولي قامت بإنقاذ 5 آلاف حصان وكان معظمها طاعنا بالسن فقررت إعدامها بشكل رحيم وظلت »دورثي» تعمل بكافة طاقتها لإنقاذ الخيول والحمير علي السواء لتصبح معشوقة »ملاك الحمير» من عربجية وفلاحين، وعندما قررت الرحيل لبلادها مرة أخري تصدوا لها وأثنوها عن فكرتها لتعيش آخر أيامها بينهم وتدفن بمقابر الإنجليز القريبة من المستشفي كأنها أقسمت أن تظل روحها هائمة بالمكان ومخلدة لكفاحها». ويضيف، وقد شهد المستشفي زيارات لسياسيين بارزين من جميع أنحاء العالم أهمها زيارة الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا وزوج الأميرة الراحلة ديانا الذي زارها مرتين في التسعينيات وآخرها 2006 وكذا زوجته الحالية »كاميلا» التي تم اختيارها رئيسا شرفيا لمستشفي بروك بلندنوالقاهرة إضافة إلي الزيارات الدورية للكثير من سفراء الدول الأوربية ومدارس هولندا وإنجلترا وغيرها وذلك يؤكد مدي السمعة الطيبة ل»بروك الخيري» الذي يزوره أكثر من عشر حالات يوميا. وعن أقسام المستشفي يقول: يعمل بالمستشفي 170طبيبا وعاملاً وموظفاً وسايساً تتنوع وظائفهم مابين العلاج ومتابعة النقاهة إضافة إلي التنظيف وغيرها وهناك منشآت بيطرية مناسبة والتخدير وغرف للإنعاش وأربع عيادات متنقلة. أما الدكتوة إيمان رفقي مدير عيادة القاهرة فقالت: يجد الحصان أو البغل أو الحمار المتابعة الدورية والإشراف الطبي الكامل فلدينا طاقم طبي علي أعلي مستوي إضافة إلي التطعيمات المجانية ضد الأمراض التي تهاجمهم كالتيتانوس والحشرات المختلفة وتأتي الخيول إلي العيادة الخارجية حيث تعالج الحالات البسيطة، أما إذا احتاج العلاج لفترة أطول تحجز الخيول في القسم الداخلي الذي يضم 20 »بوكس» للإقامة وإن استلزم الأمر إجراء عملية جراحية فالمستشفي مجهز بغرفة للعمليات والعناية المركزة. وحول تمويل المستشفي قالت: التمويل قائم علي التبرعات من داخل مصر وخارجها، وإن كانت التبرعات من داخل مصر نسبتها ضعيفة جدا نظرا لعدم وجود ثقافة التبرع لعلاج الحيوانات لذا فإننا نعمل علي تنظيم قوافل توعوية للأطفال والكبار الذين يتعاملون مع هذه الحيوانات ليشعروا بأهمية الاعتناء بها فمبجرد مهاجمة أي مرض وعدم علاجه يجعل الحيوان واهنا ويعرضه للموت مما يعني فقدان مصدر رزقهم كما قمنا بتفعيل منظومة الرائدات الريفيات للتعاون معنا في التوعية ولدينا 144رائدة تعمل مع فرق الجمعية لنشر رسائل الرفق بالحيوان. وعن أوجه التعاون مع كليات الطب البيطري قالت: تعمل الجمعية مع كافة المؤسسات الحكومية وكليات الطب البيطري ويتم تنظيم قوافل العلاج سويا إضافة لتدريب طلبة تلك الكليات بالمستشفي وتعيين المتميزين منهم. وبعد التحدث مع رفقي صاحبتنا إلي غرفة كبيرة تسمي »البيطار» وهي أشبه بغرفة »البادي كير» يتم فيها »قص وتقليم» حوافر الخيول منعا لإصابتها بتآكل الحوافر والذي يجعلها صيدا سهلا للأمراض المختلفة كما يتم تركيب »حدوة» مرقمة ليسهل التعرف علي تاريخه المرضي بعد خروجه من المستشفي. يقف علاء زكي أحد السياس الذين يقومون بتلك العملية يمسك مقصا كبيرا يقترب من الحصان بحنو ويربت علي وجهه فسرعان ما يشعر بسكينة واطمئنان فهناك علاقة صداقة بينه وبين الخيول بحسب قوله حتي أنه يطلق عليها أسماء مختلفة ويدونها بكراسته، يهتم بإطعامها طوال اليوم واستحمامها لتنشأ علاقة متينة تجعله يرفض الخروج من المستشفي عندما يأتي المالك لاصطحابه مرة أخري. يقول: »تستقبل الاسطبلات يوميا الكثير من الخيول والحمير المريضة التي تتباين أمراضها فالحصان الأشد مرضا يتم عزله باسطبل تمهيدا لإعدامه بطريقة رحيمة أما الباقي فيتم الاهتمام به لحين استرداد عافيته لينتقل بعدها إلي »سانديار» وهي غرفة شديدة الاتساع مغطاة بالرمل لاسترخاء الحيوان وعلاج بعض إعاقات القدم وضبط خطواتها أثناء السير ويتم رشها وتبريدها بالماء في أوقات القيظ». وبعد جولتنا بالمستشفي وأثناء مغادرتنا لاحظنا تدفق جامعي القمامة والروبابيكيا بدوابهم بعد انتهاء جولتهم وعملهم اليومي وأغلبهم أطفال لم يتعدوا الخامسة عشرة، يفتقرون لثقافة الرفق بالحيوان فخيولهم تعاني من الإجهاد والجفاف لتتلقفهم أيدي العمال والسياس فيقومون برش أجسامها بالمياه الباردة ثم نقلها لاسطبلات النقاهة المزودة بالطعام من كُسب وأعلاف لحين استجماع قوتها والراحة لمواصلة الأعمال الشاقة. يقول محمود أحد جامعي القمامة وهو طفل لم يكمل عامه العاشر: نبدأ عملنا منذ الساعات الأولي في الصباح حتي آخر النهار وتحديدا بمنطقة السيدة زينب يصاحبني »إخناتون» وهو الاسم الذي أطلقته علي الحصان الجار للعربة وبالرغم من تدليلي له وتزويده بالماء إلا أن حرارة الجو وسخونة الرصيف تجعله يتعرض للإجهاد سريعا فأحرص علي زيارة المستشفي يوما تلو الآخر للاطمئنان علي صحته فهو عائل البيت ورب أسرتنا خاصة بعد وفاة والدي. أما رجب الأسيوطي وهو أحد الخيالة العاملين بمنطقة الأهرامات فقال بعد ثورة يناير وتوقف السياحة حرصت إدارة »بروك» بتزويد خيولنا بالطعام والكُسب بعد التوقف التام للسياحة وتعرض بيوتنا للخراب لكنها مدت يد العون لنا ولم تأبه للشائعات التي أطلقها علينا البعض وإلي الآن فإن إدارة المستشفي لا تبخل علينا بالأدوية أو الاهتمام الكافي.