القبطي الكبير الدكتور الأنبا يوحنا قلتة (نائب البطريرك الكاثوليكي) يؤمن بأن الإنسانية كادت أن تصبح أسرة واحدة، والأجيال القادمة ستسخر من الانقسام والفروق العرقية والدينية، لأن الماضي لم يكن أكثر قداسة من الحاضر، والذي لن يكون أكثر فضيلة من المستقبل، لكن مستقبل البشرية لن يفلت زمامه من يد خالقه، ولا من أهل التقي والورع والإيمان، فالإنسان خليفة الله علي الأرض. وفي حواره ل "دين.. ودنيا" يتناول أهمية التفكير في حياتنا اليومية، ويثير غريزة الجوع إلي الفهم، والمحبة التي أصبحت في نظره مجرد شعار يعيش علي سطح القيم!!! • هل تري أن الجيل الماضي كان أكثر تدينا من الحاضر، وبأن الإنسانية تتقدم علي المستوي العلمي أكثر من المستوي الأخلاقي؟ - تاريخ الإنسان أثبت بما لايدع مجالا للشك أن المسيرة الإنسانية تتقدم وتسرع الخطي نحو توحدها وترابطها، وتكاد تصبح أسرة واحدة، ولك أن تتخيل العالم بعد ألف سنة "مثلا"، أنا علي يقين بأن الأجيال المتتابعة ستسخر من أجيال مضت انقسم فيها الإنسان إلي أبيض وأسود، وإلي إنسان يظن أنه يمتلك الحق ويحتقر إنسانا يظن أنه لم يمتلك الحق مثله!! أضحوكة الأجيال القادمة ستصبح هذه الفروق والخلافات العرقية والدينية والجنسية "أضحوكة" الأجيال القادمة، ولست أقصد أن الإنسانية قد تصبح دولة واحدة، أو ستدين بدين واحد، أو أن الثراء سيعم كافة أنحاء الأرض، وقد تكون هذه الأمور الخيالية أحلاما لجيلنا، وقد تصبح واقعا للأجيال القادمة، لكن ما أقصده أن الإنسانية تمضي إلي توحدها، وترتقي إلي سمو الجنس البشري شئنا أم أبينا، لأن الخالق تبارك وتعالي لم يتخل يوما عن الأسرة البشرية، ولأن مصيرها وقدرها في يده وحده، ودعك مما تراه من شوائب مزعجة مقلقة! دع عنك القول بأن الإنسانية تتقدم علي المستوي العلمي، ولا تتقدم علي المستوي الأخلاقي، ففي أي عصر من العصور كانت البشرية أقل إثما وأقل خطيئة من عصرنا، بل وقل لي في أي عصر كان عدد القديسين والأولياء والزهاد والنساك أكثر من عصرنا، لكل عصر قديسوه، ولكل عصر خطاؤوه، ولكل عصر رجاله ونساؤه، وآثامه وكبائره.. ونضاله وإبداعه! الله سميع بصير • معني كلامك أن الماضي لن يكون أكثر فضيلة من المستقبل؟ - الماضي لم يكن أكثر قداسة من الحاضر، ولن يكون أكثر فضيلة من المستقبل، إن الله سبحانه وتعالي ملء السمع والبصر، والأديان (كل الأديان) تعيش نهضة ويقظة وحماسا، سقطت قيم روحية كثيرة وقامت علي أنقاضها قيم روحية جديدة، إن أخطر ما يخيف الباحثين أن مصير البشرية أضحي بصورة أقوي بين البشر الذين امتلكوا طاقات فجرها العلم، وأسلحة اخترعها العقل، وينسي هؤلاء الباحثون والدارسون إن طاقات الخوف والدمار والفناء ولدت معها طاقات الحرية والبناء والعدل، ومع ذلك كله ينسي كل هؤلاء أن مستقبل البشرية لن يفلت زمامه من يد خالقه، ولم يفلت زمامه بعد من أهل التقي والورع والإيمان، فالإنسان خليفة الله علي الأرض. بالروح.. أم بالمادة؟ • لكننا لانستطيع أن نغفل أهمية المادة ودورها.. وسياق كلام قداستك يركز فقط علي الروحانيات.. أليس كذلك؟ - حركة التاريخ تدفعها طاقات الروح والعقل، ولا تسيرها طاقات المادة، إن مسيرة الإنسانية ليست مسيرة آلية يحركها الاقتصاد أو تدير دفتها السياسة أو يسيطر عليها المال ولا الجنس (كما صورها بعض مفكري القرن الثامن عشر)، لقد سقطت هذه النظرية سقوطا ذريعا، وكان لسقوطها دوي هائل سمعه الغرب والشرق، فحركة التاريخ تحركها الروح، ويحركها الإيمان بالله، ويحركها الإيمان بالإنسان خليفة وصورة لخالقه، فكل الأديان حملها الإنسان إلي أخيه الإنسان، والثورات التي أحرقت عصورا وغيرت مجري التاريخ فجرها الإنسان، والعلوم التي قلبت مسيرة الحياة اكتشفها الإنسان، كل الفضائل، وكل الحكمة، وكل ألوان الفكر الراقي، ذلك كله الذي غير أعماق الإنسان، حمله الإنسان إلي الإنسان، بل وكل القوانين والدساتير من خبرة وفكر الإنسان، وكل الشرائع الإلهية التي أوحت بها السماء مشاعل نور وحق وهدي، حملتها السماء لبشر إلي الإنسان لإسعاده. أكاذيب وافتراءات "أرسطو" • الفيلسوف "أرسطو" ذكر أن الله خلق الكون والوجود وأمده بقوانين صارمة، ثم أدار ظهره للكون وللوجود وللإنسان.. ما ردك علي هذه الأكاذيب! - أتظن أن الله بعيد عن مسيرة الزمن، وعما يلده الزمن بعيد عن الإنسان، وعما يفعله الإنسان، أو تظن أن الله بعيد عن الرسالات والعلوم والفضائل والقوانين والحكمة وكل ألوان الفنون والآداب، وعن كل مايمس حياة الإنسان من قريب أو يمسها من بعيد، أو تظن كما ظن "أرسطو" أن الله خلق الكون والوجود وأمده بقوانين صارمة ثم أدار ظهره للكون وللوجود وللإنسان، أم تظن أن هذه اللوحة الرائعة التي أبدعتها يد الخالق الفنان الأعظم لم تزل في حفظ ورعاية مبدعها؟! أي عقل يقبل أن الفجر والبحر والزهر والطير، والربيع والصيف والخريف والشتاء تلك أمور أهملها الله أو نسيها أو تناساها أو احتقرها أو نفض رعايته عنها، أي عقل يقبل أن الله ليس موجودا في قلب معركة الإنسان، وفي خضم بحار العصور المتلاطمة، وفي أعماق المحيطات والفضاء، بل وفي أعماق كل إنسان، وفي وجدان كل حياة! أي عقل يقبل أن لوحة رائعة تبدو عند غروب الشمس وقد نثرت أشعتها الذهبية ألوانا وألحانا من الجمال والرقة والشفافية، بسطتها في كرم متدفق لا ينضب معينه فوق القري والتلال والصحاري والبحار، وتوجت بها رؤوس الجبال وهامات النخيل ووجه الصبايا والغصون.. أي عقل يقبل أنها خلت من لمسة إلهية لا تفارقها رعاية أنامل إلهية تمدها بهذا التوهج الأزلي، وبهذه البهجة الخالدة المتجددة؟! • ولكن هل استوعب الإنسان هذا الإعجاز الإلهي كله (كما يجب)؟! - لو عرفنا الله سبحانه (كله) لأصبحنا آلهة مثله، إن الله أكبر من طاقة المعرفة، وأكبر من طاقة استيعابنا، إن شعلة مقدسة هي الحياة شعلة ضئيلة، لكن قداستها في أنها تعطي بعض الضوء ليكتشف الإنسان أن هناك حياة أوفر وأكمل، ولكن الغالبية من البشر لايدخلون كثيرا إلي أعماقهم ليلمسوا قداسة الحياة، إنهم لايحيون بل يقتلون أوقاتهم كسالي، سعداء بالمجهول.. سعداء لايحسون بالشقاء الذي يحيط بهم، يكتفون بظلال يتخللها أشعة تبرق من حين إلي حين، يخشون النور القوي، يهربون من الدرب الطويل، يقتلون أفضل ما في أنفسهم حين يستسلمون للنوم في حراسة الماضي ولأحلامهم الموروثة، وكأنهم آثروا الموت في راحة عن الحياة في بحث عن الحقيقة! الطريق إلي الله • هل أنت متفائل.. أم متشائم في مستقبل إقبال البشرية علي التدين ومعرفة الطريق إلي الله؟ - تمضي مسيرة الإنسانية في المجال الروحي تتقدم، وتبحث، وتدافع عن قيمها ومبادئها، ويسقط الضحايا، وتكتشف روعة (الله الواحد) الذي لا تسعه السموات والأرض، وتود الإنسانية أن تقتحم سر هذا (الإله الواحد)، وتتكشف لها سبل وأسرار، ولو كان العقل وحده في مسيرة الروح هو المقتحم وهو الباحث لظلت شكوك كثيرة غامضة حول العلاقة بين الإنسان وبين الخالق، بين السماء والأرض، ولكن الخالق (حاشي له) أن يبخل بنوره علي الإنسان خليفته في مسيرة هذه الحياة، فقد أمده الخالق بنور الوحي، وبإشعاع الكتب المقدسة، وبتوهج حياة رواد الطريق الروحي، فكان ذلك الإنسان عونا علي اكتشاف أسرار "عالم الله"! وفي ظني أن مسيرة الإنسانية ماضية إلي التقدم لا إلي التقهقر، لا مجال للتشاؤم عندي، بل إني لأري أنوارا باهرة تغمر حياة البشر، وتقودهم إلي مزيد من المعرفة عن عالم الله. الإنسانية أسرة واحدة فلا ينتهي الشوط، ولم تصل بعد إلي كل ما ينبغي أن تصل إليه، وتقودهم إلي مزيد من التوحد والامتزاج، لأن الإنسانية أولا وأخيرا أسرة واحدة هي أسرة الله، وما نراه هنا أو هناك من ظلال قاتمة في العلاقات بين البشر، وما نراه هنا أو هناك من اندفاع حول المادية واندفاع إلي رفض الروح وقيامها، أغلب الظن أن تلك أمور عارضة، بل تلك أمور خبرتها الإنسانية في تاريخها قليلة، وبرغم تلك العوائق فقد سقطت أمور باطلة كثيرة، وسقطت أضاليل بدت في حينها قوية مسيطرة، ولكن صمدت حقائق هي الجوهر! الإنسانية ماضية إذن في البحث عن الله، وعن عالم الله، لن تشبع من هذه المعرفة، ولن تمل من هذا السعي، ولن يثنيها أمر عن المضي قدما، فالذي يتذوق ماء الحياة الحقيقية حياة الله، والذي يلمح في أعماقه رؤي روحية، لن يتوقف عن الجهاد، بل إن ظمأه يشتد إلي هذا الماء، وإن جوعه ليقوي إلي طعام الروح، ولن يرتوي الإنسان إلا باتحاده الكامل في خالقه، كما لا يرتاح النهر إلا في أحضان البحر الكبير! الحب بكل لغات العالم • هل تعتقد أن غياب الحب وراء كل هذه الأمراض التي أصابت المجتمع المصري اليوم؟ - المحبة.. الحب.. ألفاظ جوفاء في عصر يعيش علي سطح القيم وبلا دخول إلي عمق الأشياء، أو إلي عمق الأحداث، أو إلي عمق الكلمات، كأنها ألفاظ فلسفية جاءتنا من حوار أفلاطون أو معادلة أرسطو أو شعر ابن أبي ربيعة! ليس الحب نظرية القديسين والزهاد والمتصوفين والعشاق المجانين، إنها الحقيقة العملية التي لا غني عنها في كل العلوم، وفي كل تقدم، وفي كل نهضة، وفي كل أسرة، وفي كل مجال عمل.. أنت تحب إنسانا معناه أن تحبه كما هو، لأنه هو "ذاته" نقبله بطبيعته، بما فيه من مزايا وعيوب، بماضيه بحاضره بمستقبله، بقدراته المحدودة أو العكس، بما فيه من إزعاج أو عون وعطاء! سر وجود الملحدين • بعد الأدلة القاطعة علي وجود الله تعالي.. لماذا يوجد ملحدون في العالم؟ - خلق الله الإنسان في حال من النقاء، وسواه في أحسن تقويم، ثم حدث شيء ما كما قال (جان بول سارتر) وهو ملحد: إن حدثا ما قلب كيان الإنسان، ولا ندري ما هو؟، وتعلمنا الأديان كافة أن الله خلق الإنسان حرا له عقل وإرادة، ووضع قانونا لكل شيء، فليس في الكون صدفة أو حظ، بل كل خلق لما يسر له، الإنسان استخدم حريته وابتعد عن خالقه، فأصيب بخلل في كيانه الإنساني وفقد توازنه العقلي والروحي وتحول إلي حزمة غرائز، لكن الله لم يدعه في سقطته، فلله سكن في أعماق الإنسان أقرب إليه من حبل الوريد، وفي المسيحية (ملكوت الله في داخلكم)، فالخير والشر في أعماقنا وعلينا أن نختار، فالملحد اختار طريقه ويتحمل مسئوليته الشخصية! والملاحظة الهامة في هذا السياق أن جميع الملحدين بلا استثناء لا يقولون إن الله غير موجود، بل يقولون نحن غير مقتنعين بالأديان، ولا يوجد دليل واحد عندهم علي عدم وجود الله!