يعتبر فيلم الصعود للهاوية هو أول فيلم سينمائي حقيقي يطرح قضايا الجاسوسية بأسلوب فني مشوق، وكان الفضل في هذا النجاح يرجع أولا إلي الكاتب صالح مرسي العاشق لهذا النوع من الأدب وثانيا إلي المخرج كمال الشيخ والسيناريست رأفت الميهي ويلي ذلك فريق الممثلين، وماتلا ذلك من أفلام لم تصادف نجاحا رغم أنها حاولت أن تسير علي نفس النهج .. فقد مني فيلم بئر الخيانة للمخرج علي عبدالخالق بفشل عظيم، وكذلك فيلم فخ الجواسيس للمخرج أشرف فهمي،غير أن فيلم إعدام ميت حقق بعض النجاح رغم أنه يعتمد علي حكاية مؤلفة أي نتاج إبداع المؤلف ولاتمت للواقع بصلة. نفس الحكاية تكررت مع أفلام نادية الجندي التي ألفها بشير الديك وأخرجها نادر جلال ولعبت بطولتها نادية الجندي فأفلام مثل مهمة في تل أبيب أو 84ساعة في اسرائيل محض خيال، وتنتمي للسينما التجارية، التي تقدم البطلة في صورة السوبرمان أي أنها قادرة علي فعل الأعاجيب واختراق عرين الأسد إسرائيل دون أن تصاب بأي ضرر، بل إن هذه الأفلام جعلت من اقتحام مقر الموساد أمراً شديد البساطة يقدر عليه أي شخص! وتقدر تقول إن هذه الأفلام لاتهتم مطلقا بتوثيق المعلومات، أي أنها لا تضم أي وقائع حقيقية ولكنها تقوم علي خيال محض، يقترب من الهذيان! أما أفلام مافيا، وابن العم فهي أيضا تنتمي لأفلام الجاسوسية، ولكنها تضم بعض المنطق والحرفة في الكتابة والإخراج وهو ما أدي إلي نجاحها التجاري والفني! أي أن الأعمال الفنية التي تتناول موضوعات الجاسوسية لابد أن تعتمد علي حرفة الكاتب وبالإضافة إلي الحرفة هناك أمر بالغ الصعوبة وهو الإيقاع، بمعني أن يسأل المؤلف نفسه من أي نقطه يجب أن أبدأ سرد الحكاية، وغالبا ما يختار نقطة ساخنة ليبدأ بها الحدث ليضمن سيطرته علي المشاهد طوال مدة عرض العمل! وتبدو المهمة أكثر تعقيدا عندما نكون بصدد مسلسل من ثلاثين حلقة أو أكثر، ولأن الكاتب صالح مرسي كان الأكثر موهبة واحترافا في هذا المجال فقد حقق نجاحاً كاسحاً مع مسلسلي دموع في عيون وقحة، ورأفت الهجان، والثاني له حكاية بعضنا يعرفها بينما يجهلها البعض الآخر ولامانع من ذكرها لأنها تصب في المعني الذي نريد طرحه، وهو نقطة البداية التي يختارها الكاتب لسرد القصة، وسمعنا عن خلاف حاد دار بين بطل المسلسل الأول عادل إمام وكل من المؤلف صالح مرسي والمخرج يحيي العلمي ،حيث رفض عادل إمام أن تبدأ الاحداث بوفاة شخصية رأفت الهجان ثم يصبح السيناريو كله فلاش باك لسرد ماتعرض له رأفت الهجان قبل أن يتم تدريبه في مصر ثم يسافر إلي إسرائيل ويتحول إلي مواطن متعصب لليهودية وتسير به الأحداث ليصبح من أهم الشخصيات وأقربها إلي رجال السياسة وصناع القرار في إسرائيل. وبعد إصرار عادل إمام علي رأيه،قرر المخرج استبداله بمحمود عبد العزيز الذي قدم ثلاثة أجزاء ناجحة من رأفت الهجان! أما مسلسل عابد كرمان المسلسل الذي نشاهده هذا العام فهو مأخوذ عن رواية لماهر عبد الحميد وضع لها السيناريو بشير الديك وأخرجه نادر جلال ويلعب بطولته تيم حسن مع ريم البارودي وميرنا المهندس وعبدالرحمن أبو زهرة ومحمد وفيق وآخرون والمسلسل يختلف تماما عن كل ماسبق تقديمه في دراما الجاسوسية، فالكاتب هنا لم يبدأ الأحداث بنقطة ساخنة ، ولكنه قرر أن يسلك الطريق الأصعب ويبدأ التعريف بالشخصية الرئيسية ويسير معها في طريق مستقيم، لنستعرض حياة عابد كرمان الشاب العابث المستهتر الذي لايقيم وزنا أو اعتبارا لأي قيم، وهو يعيش في مزرعة يملكها مع والدته وخالته، ومع أول أزمة تقابله وهي احتياجه للسفر لفرنسا كي يلحق بحبيبته مضيفة الطيران الفرنسية، يجد أن الفلوس هي العقبة أمام تحقيق حلمه، وهنا يعرض عليه صديقه العجوز جاكوب أن يدله علي الوسيلة التي تمكنه من الحصول علي المال، ويهمس له بكلمة لها مفعول كلمة افتح ياسمسم ولكن الذي فتح ليس مغارة علي بابا ولكن خزينة ذكريات عابد، كلمة السر هي المصريين مستعدين يدفعون ثمن سفرك لفرنسا،مصر قلب العروبة رغم هزيمة يونيه التي وجعت قلبها وقلب كل عربي، كانت هي الكلمة الساحرة التي قلبت حياة عابد كرمان رأسا علي عقب، لنكتشف أن عابد ليس مواطنا إسرائيليا ولكنه من أصل عربي والده وشقيقه الأكبر قتلا أمام عينيه برصاص جنود إسرائيل ووالدته الفرنسية كادت تلقي نفس المصير،قبل أن يموت والده أوصاه أن يتذكر دائما أنه عربي، مهما طال به المقام في إسرائيل، كما أوصاه أن يخفي أصله حتي يستطيع العيش وسط الصهاينة وتحول عبدالله إلي عابد كرمان المواطن الإسرائيلي، ولكنه بعد أن وجد مصر تمد يدها له وتعرض المساعدة حتي هرول إليها، وتتغير حياة عابد تماما،حيث يسافر إلي باريس ويشارك واحداً من أبناء بلدته في عمل مصنع حلويات شرقية، ويحقق في وقت قياسي ثروة لابأس بها تجعله محط حسد وغيرة من الآخرين، ويتلقفه فريق كامل من رجال المخابرات المصرية، لتدريبه وإعادة تأهيله إنسانيا فهو إنسان عنيد وشديد الصلف والاعتداد بآرائه حتي لو كانت خاطئة، وهي صفات لاتليق بجاسوس فكان لابد من ترويضه وتدريبه علي الطاعة والصبر وعدم الاندفاع، وطبعا هذا استغرق سبع حلقات من أحداث المسلسل، لم يبرز فيها إلا البطل تيم حسن الذي يمتاز بقدرة هائلة علي الأداء الصامت مستخدما كل ملامح وجهه ونظرات عينيه، اللتين تتحولان من الشك والريبة إلي الاطمئنان والعكس، والدراما في مسلسل عابد كرمان تصاعدية أي أنها تنتقل من حالة الهدوء إلي الصخب والتوتر مع مرور الحدث وهذا يحتاج إلي مهارة وقدرة من الكاتب والمؤلف معا كما تحتاج إلي معايشة كاملة من البطل الذي يتحول من الداخل وليس من الخارج فقط، فأنت خلال العشر حلقات الأولي تشاهد عملية إعادة تكوين شخصية عابد كرمان الذي يضع قدميه علي بداية مشوار الألف ميل ليصبح بعد ذلك من أهم الشخصيات المميزة في المجتمع الإسرائيلي ويرتبط بصداقة مع وزير الدفاع الأسبق موشي ديان وعن طريق شبكة علاقاته ينجح في إمداد المخابرات المصرية بكم هائل من المعلومات التي يتم استخدامها في الإعداد لحرب أكتوبر مسلسل عابد كرمان يستحق المشاهدة رغم كثرة مسلسلات هذا العام!