نجح كيميائي مصري في ابتكار خامة جديدة بديلة للأخشاب التقليدية، مكوناتها الرئيسية الرمال وألياف من المخلفات الزراعية، وفي الوقت ذاته تتفوق بمزايا كثيرة، فبخلاف أنها أكثر قوة ومتانة وتقاوم الماء والنار والبكتريا، تكلفتها أقل بكثير، ويكفي ما قاله الرجل الذي يقيم في ماليزيا منذ سنوات لإنجاز مشروعات كبري هناك: »إذا تم تطبيق هذه التقنية في مصر فلن يتجاوز سعر غرفة النوم المصنوعة من خشب (التيكو بورد) 400 جنيه». علي مدار أكثر من ثلاثة أشهر تواصلت »آخرساعة» عبر الإنترنت مع الكيميائي سعيد محمود (52 عاماً)، المقيم في العاصمة الماليزية كوالالمبور، وأخيراً نجحنا في مقابلته في القاهرة، خلال زيارة إلي موطنه تستغرق شهوراً قليلة، يواصل فيها أبحاثه، قبل أن يطير مُجدداً في جولة تشمل عدة دول كبري تقدِّر قيمته العلمية وتسعي للاستفادة من فكرته المبتكرة، التي تُعزز اقتصادات هذه الدول. كثيرون تابعوا وقرأوا أخباراً عن المبني الأكاديمي الضخم المخصص للدراسات الإسلامية في جامعة »أكسفورد»، الذي افتتحه الأمير تشارلز في إنجلترا مطلع العام الجاري، وتم تجهيزه بديكورات خشبية غاية في الروعة وبزخارف إسلامية ومُتيفات مستوحاة من التراث الماليزي، فقد تبرعت الحكومة الماليزية بمبلغ كبير لإنشاء هذا المبني، لكن ربما لا يعرف أحدٌ أن الخبير الذي قام بهذه المهمة كيميائي يحمل الجنسية المصرية، وأن هذا العمل الضخم بدأه والده في العام 2008 واستكمله سعيد محمود، ليتم افتتاحه وتكريم كل من ساهم في تشييده خلال يناير الماضي. ربما يسأل البعض: من هو والد الكيميائي سعيد محمود؟ الإجابة عن هذا السؤال حتماً ستعطي مجالاً أوسع للفهم، وترجمة وافية للأسباب الوراثية التي تحمل في داخلها جينات النبوغ والابتكار. إنه فنان العمارة المعروف محمود سعيد، الذي يقول ابنه عنه: »والدي هو أحد تلاميذ المعماري حسن فتحي، وقد قام بعمل عمارة الحرم المكي، وباب منبر الرسول (صلي الله عليه وسلم) في الروضة الشريفة بالحرم النبوي، وهذا شرف عظيم لنا كمصريين فهو من الفنانين المبدعين في مجال النجارة العربية علي مستوي العالم، والحمد لله ورثت عنه الخبرة، وكان بمنزلة نقطة تحول في حياتي، فقد كان مؤمناً بأن مصر هي أم الدنيا وستبقي هكذا بفضل سواعد أبنائها الأبرار». للوهلة الأولي التي تري فيها الكيميائي سعيد محمود، تدرك مدي بساطته، وحسه الفني المرهف. بعد لحظات من لقائي به في المجلة، وما أن تذوق الرشفة الأولي من قهوته بدأ حديثه عن بدايات رحلته في عشق الرمال يتسرب إلي مسامعي برفق. كنت مشدوهاً له وفخوراً بمصريته الطاغية: »والدي كان عنده مصنع ضخم للكونتر والأبلكاش، وكنت أنا مدير هذا المصنع. بعد فترة تم فتح باب الاستيراد في أعقاب اتفاقية (الجات) في التسعينيات، وكان المنتج المستورد أقل سعراً مما ننتجه في مصر، وللعلم تستورد مصر نحو 90٪ من الأخشاب، وبالتالي لم نقدر علي المنافسة وتم إغلاق المصنع». يتابع: مُذاك الوقت فكرت في الاستفادة من دراستي للكيمياء فأنا خريج المعهد العالي الكيميائي في القاهرة عام 1988، بجانب ما اكتسبته من خبرات في العمل مع والدي في المصنع، وقررت أن أوجد بدائل للأخشاب تدخل في صناعة الأثاث والمطابخ من المكونات المحلية. رحلة البحث كانت شاقة، وبدا انتظار النتائج أشبه بترقب حبات رمل تعبر بصعوبة خصر ساعة رملية، لكن سعيد لم ييأس، ومضي في طريقه: »بدأت التجارب علي الرمال، لأنها الأكثر وفرة في مصر، وموجودة في صور فيزيائية عِدة. استمر ذلك نحو 10 سنوات، إلي أن بدأت عام 2011 أول منتج تجريبي، وكان عبارة عن باب صنعته من المادة التي ابتكرتها، مقاوم للحريق وبعدها بدأت أطوِّر فكرتي إلي أن تم اختياري عام 2016 ضمن الستة المبتكرين في مصر، في مسابقة (القاهرة بتبتكر) التي تنظمها أكاديمية البحث العلمي بالمشاركة مع اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وشارك فيها قرابة الألف عالم وباحث، وفُزتُ ضمن فئة الباحث الحر». في هذه الأثناء، لم يكن سعيد متواجداً في القاهرة: »كنت في ماليزيا، حيث أعمل منذ العام 2005 كاستشاري لوزارة الثقافة الماليزية، لتنفيذ أعمال مبني الدراسات الإسلامية في جامعة (أكسفورد) في إنجلترا التي تعتبر واحدة من أعرق الجامعات الأوروبية، وحين أُبلغت بفوزي في المسابقة المصرية، عُدت فوراً إلي القاهرة لاستلام الجائزة، وكم كنت سعيداً لتكريمي في بلدي علي الرغم من الشهرة الواسعة التي حظيت بها في الخارج». أما عن ابتكاره فيقول سعيد: »أطلقت علي ألواح الخشب التي ابتكرتها (تيكو بورد)، ومكوناته الأساسية محلية، حيث أستخدم الرمال المصرية وأحولها إلي سائل، وأستخدمها كمادة رابطة بنسبة 80٪، إلي جانب 20٪ من ألياف المخلفات الزراعية مثل قش الأرز وحطب القطن وورد النيل، من خلال تكنيك فني بسيط، وأنتج نوعين من هذا الخشب، نوع يتم تصنيعه من خلال الضغط داخل مكابس، وآخر من خلال إخضاعه لعملية (درفلة) لتحديد درجة سُمك اللوح الخشبي». ولهذا الخشب المبتكر مزايا عديدة تفوق الخشب التقليدي، فهو صديق للبيئة، حيث إن كل مكوناته من الطبيعة ومتاحة بوفرة في مصر، ومقاوم للبكتريا والسوس، ولا يحترق، وخضع المنتج لاختبارات مقاومة الحريق في المركز القومي لبحوث البناء (أبرز جهة في مصر والشرق الأوسط معنية بإجراء اختبارات مواد البناء)، وسجل نتائج مذهلة بتحمله درجة حرارة 1000 مئوية لمدة 85 دقيقة تحت النيران المتواصلة. لا تقتصر مزايا خشب »التيكو بورد» علي ذلك فحسب، فهو أيضاً مقاوم للماء، وسهل التشكيل في ماكينات النجارة العادية، حيث يمكن لأي نجَّار بسيط في ورشة التعامل معه، مثلما يتعامل مع الأخشاب العادية. ويوضح سعيد أن استخدامات هذا الخشب الجديد متنوعة: »يدخل في صناعة الأثاث المنزلي والمطابخ والأبواب والتجاليد الخاصة بحوائط المسارح والمؤسسات المختلفة المطلوب فيها مقاومة الحريق مثل أقسام الشرطة والمتاحف والمكتبات العامة والمتاجر الكبري، إلي جانب المستشفيات، خاصة أن هذا الخشب مقاوم للبكتريا وقادر علي امتصاص الإشعاعات». أما عن رحلته إلي إنجلترا للمشاركة في إنجاز مبني عملاق فلها قصة تستوجب إلقاء هالة ضوء عليها، حيث يقول سعيد إن الاستشاري العام، المصمم المعماري المصري العالمي عبدالواحد الوكيل، الحاصل علي (جائزة أغاخان في العمارة الإسلامية) هو الذي رشح اسمي لتنفيذ أعمال النجارة في جامعة أكسفورد داخل المبني الجديد المخصص للدراسات الإسلامية، والذي أنشئ بدعم مالي من الحكومة الماليزية. يتابع: »حزمة مؤهلات دفعت الوكيل إلي ترشيحي لهذه المهمة، أبرزها الخبرة الطويلة في هذا المجال، حيث إن هذه الأعمال كان مطلوباً تنفيذها بالفن الإسلامي ومصر متميزة تاريخياً في هذا الفن، ونمتلك الخبرات للقيام بمثل هذه الأعمال، وهو ما تعلمته من والدي، إلي جانب شق فني آخر وهو أن جميع الأبواب الخاصة بالمبني مقاومة للحريق، فوجدوا أنني أمتلك الخبرة في مجال الفن الإسلامي وأيضاً العلم في مجال المواد المقاومة للحريق، باستخدام الخشب الذي ابتكرته إلي جانب خامات أخري من خشب (المرباو) الماليزي وهو خشب صلب يعيش مئات السنين، بعد معالجتي له بتقنية مصرية ليكون مقاوماً للحريق أيضاً».. ويوضح سعيد: استغرق العمل في هذا المبني الأكاديمي العملاق نحو خمس سنوات باستخدام آلات الحفر علي الخشب إلي جانب الأشغال اليدوية التقليدية التي تم فيها المزج بين شكل زهرة ماليزية معروفة والنقوش الإسلامية، إلي أن افتتحه الأمير تشارلز - وهو راعي هذا المشروع قبل نحو شهرين وعبر عن انبهاره الشديد بما تم إنجازه في هذا المبني، في حضور رئيس وزراء ماليزيا، والأمير سلطان بن سلمان (أول رائد فضاء عربي). ويؤكد الكيميائي المصري العالمي، أنه يرحب بأي تعاون مع أي مؤسسة حكومية في مصر، للاستفادة من الخامة التي ابتكرها في إنجاز مشروعات قومية، مثل مدينة دمياط للأثاث التي يجري تنفيذها حالياً، خاصة أن الأزمة الكبيرة تتمثل في ارتفاع كلفة الأخشاب المستوردة، مؤكداً أن تعميم استخدام هذا الخشب الجديد سيعمل علي توفير نحو مليار ونصف المليار دولار تنفقها مصر سنوياً علي استيراد الألواح الخشبية من الخارج، ما من شأنه أن يوفر العملة الصعبة وكذلك خفض أسعار الموبيليا، والتيسير علي الشباب المقبل علي الزواج. يتابع: »أنا عاشق للرمال المصرية، وأجلس بالساعات أحياناً لتأمل شكل حبة الرمل تحت الميكروسكوب، لذا فكرت في أن تكون تكلفة البيت المصري أقل، خاصة في ظل ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، نتيجة تدهور أوضاع الاقتصاد المصري، ولذا أقول إن الخشب المبتكر يوفر نحو 75٪ من إجمالي تكلفة تصنيع الأثاث باستخدام الأخشاب التقلدية المستوردة، كما أن ذلك سيجعل بلدنا صديقا للبيئة حين نستخدم منتجات متوافقة مع المتطلبات العالمية لما يسمي ب(العمارة الخضراء)»، مؤكداً: »في هذه الحالة يمكن تصنيع مطبخ أو غرفة نوم ب400 جنيه فقط، بل يمكن أن يتكلف تأثيث شقة كبيرة بكامل غرفها ما لا يزيد علي 20 ألف جنيه فقط». »هذا الخشب المبتكر قد يكون مادة عظيمة وموفرة للغاية إذا تم استخدامها في العاصمة الإدارية الجديدة التي يجري تنفيذها حالياً علي أرض الواقع». هكذا قال سعيد محمود، مناشداً الرئيس عبدالفتاح السيسي بتبني الفكرة وتوفير مليارات الدولارات التي تنفقها الدولة علي استيراد الأخشاب من الخارج، وكذلك الاستفادة في ذلك من إعادة تدوير مخلفات الحاصلات الزراعية في إنتاج هذه الأخشاب، وخاصة قش الأرز الذي نعاني سنوياً من مشكلة حرقه وتسببه فيما يعرف بالسحابة السوداء التي تؤثر علي الأوضاع المناخية، بخلاف الأضرار الصحية لذلك. وبينما كان يطلعني علي كتيب عن مشروع جامعة أكسفورد، صمت قليلاً قبل أن يقول بفخر شديد: »أجدادنا الفراعنة تركوا حضارة من الحجر، لأنهم فطنوا إلي ما لدينا من ثروة عظيمة من الأحجار والرمال، وأنا أعمل علي إحياء حضارتنا القديمة، وواثق بإذن الله من أن جهدي سيكلل بالنجاح علي أرض مصر التي أحلم بأن أراها أعظم بلاد الأرض».. قالها وغادر، وترك بداخلي سؤالاً عريضاً: هل تستفيد حكومتنا من أفكار هذا الرجل الذي يعشق تراب مصر بعدد حبات الرمال في هذا الوطن؟!