لازلت أذكر ذلك اليوم البعيد الذي كنت فيه في السعودية لتغطية أحد المؤتمرات الإسلامية، وهمس في أذني الصديق الراحل محمود المهدي الذي كان رئيساً للقسم الديني بجريدة الأهرام، بأن علينا أن نذهب للطواف بالكعبة، وأننا سوف نري هناك الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق، وبعد أن انتهينا من الطواف تقدمنا لمصافحة الشيخ الجليل الذي قابلنا بترحاب شديد، ثم سرعان ما عاد إلي تأملاته.. وأذكر أنني قرأت له بعد ذلك كتاباً رغم صغره يحتل مكاناً عزيزاً في مكتبتي وهو كتاب (الفلسفة والحقيقة) فالكتاب يجيب علي أسئلة هامة حول الفلسفة ومحاولتها الوصول إلي الحقيقة، وهي مهمة الفلسفة في كل العصور، ويأخذنا الدكتور عبد الحليم محمود في رحلة بالغة الثراء حول تطور الفلسفةمنذ العصر اليوناني إلي العصور الحديثة ويتوقف في تأملاته بالغة العمق حول الفلاسفة المسلمين الذين تناولوا الإلهيات ووصلوا فيها إلي حقائق فلسفية علي ضوء الدين الحنيف.. وهو يري أنه ليس كل دراسة عقلية تسمي فلسفة، فإن الرياضيات من المباحث العقلية اليقينية ولا تعد في العصر الحاضر من مباحث الفلسفة، ونحن حين نتحدث عن الفلسفة فإنما نعني البحث العقلي البحت فيما وراء الطبيعة، وفي الأخلاق.. ويعني بما وراء الطبيعة: الإلهيات أو ما يسمي في عرف المتكلمين: العقائد.. ونعني بالأخلاق معناها الشامل الذي يتضمن التشريع الذي يحرم المنكر ويردع الذين يفعلونه.. ويحدثنا في هذا الكتاب الرائع عن فلسفة الإمام الغزالي، بعد أن يطوف بنا عالم الفلسفة بصفة عامة والفلسفة الإسلامية بصفة خاصة، ثم يحدثنا عن تجربته الشخصية، وكيف اختار موضوع التصوف الإسلامي ليكون رسالته وكانت الرسالة عن الحارث بن أسد المحاسبي، ويقول في ذلك: ووجدت في جو الحارث بن أسد المحاسبي الهدوء النفسي، أو الطمأنينة الروحية، ولكنه هدوء اليقين، وطمأنينة الثقة بما يعلم، فقد ألقي بنفسه في معترك المشاكل التي يثيرها المبتدعون والمتحرقون، وأخذ يصارع مناقشاً ومجادلاً وهادياً ومرشداً متخذاً الأساس الأصيل والمصدر الأول: القرآن والسنة، متخذاً ذلك مقياساً حاكماً متحكماً في كل مايقال أو يفعل، وانتهيت من دراسة الدكتوراة وأنا أشعر شعوراً واضحاً بمنهج المسلم في الحياة وهو منهج (الاتباع).. ويورد كلمة الصحابي الجليل ابن مسعود، ويري في هذه الكلمة إعجازاً من الإعجاز أنه يقول: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وهي كلمة حق وصدق ثرية بالمعاني العريقة، يري فيها الإمام عبد الحليم محمود أن الله قد كفانا ورسوله [ كل ما يصلحنا من أمر الدين.