من خطر يتهدد وليدها، في بلد غريب هي، تتلفت حولها في قلق يليق بامرأة تعرف سر ابنها، كانت هذه هي حالة السيدة مريم العذراء عندما دخلت مصر هربا من اليهود الذين بحثوا عن ابنها ليقتلوه، جاءت إلي مصر بحثا عن الأمان، والظل الذي تحتمي به من غدر بني جنسها، وتركت في مصر الكثير من العلامات التي تدل علي رحلتها المقدسة، وكانت الشجرة العتيقة إحدي أبرز العلامات التي تركتها العذراء قبل أن تعود بابنها إلي فلسطين. أكد ذلك عدد من كبار علماء الإسلام، وفي مقدمتهم وزير الأوقاف، ومفتي الجمهورية، لأن الدين الإسلامي يحتضن جوانب مشرقة تفيض تسامحاً ورقياً مع أهل الكتاب، وأن حق غير المسلمين في المحافظة علي كنائسهم مبني علي وفاء المسلمين بما صالحوهم عليه. نصوص القرآن الكريم، وعقود الأمان التي أبرمها الرسول (ص) والصحابة لأهل الكتاب كلها تدل علي أن الإسلام يحفظ لأهل الكتاب دماءهم، وعقيدتهم، وكنائسهم، وتاريخ الإسلام العظيم حافل بما يدل علي ذلك. هذا هو رأي وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة، فذاك أبرز حقوق الآخرين علينا إنصافا من أنفسنا، وتأصيلا لمبدأ الاحترام المتبادل، ودحضا للفكر المتطرف، والتأكيد للعالم كله علي سماحة الإسلام، وأن ما يصيبه من محاولات تشوبه لا يمت لسماحته بصلة، وأن اهتمام ديننا بأهل الكتاب يعد ترسيخا لأسس المواطنة العصرية الكاملة دون تمييز، وتأصيلا لفقه العيش الإنساني المشترك بين البشر دون تفرقة علي أساس الدين أو اللون أو العرق أو الجنس أو اللغة. حماية أهل الأديان ويخاطب الله الناس جميعا علي اختلافهم وتنوع أعراقهم وثقافاتهم وأصولهم في دعوة واضحة للتقارب والتعارف والتعايش السلمي في قوله تعالي: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).. هكذا يؤكد الدكتور شوقي علام (مفتي الجمهورية)، فالشريعة الإسلامية تحفظ للإنسان إنسانيته وكرامته، بل إن مقاصدها جميعها تدور حول الحفاظ علي الإنسان من غير تمييز بين أفراده، فتحفظ نفسه ودمه وماله وعقله وكرامته في تناغم كامل مع الفطرة السوية التي تنادي بحفظ حقوق الإنسان وصيانة كرامته، ومن ذلك الحق في التعبد بما يقتنع المرء به من المذاهب والأديان مع كامل مسئوليته أمام الله وحده عن اختياراته، فلا إكراه علي معتقد كما تقرر ذلك في القرآن الكريم: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". مقاصد العمران الإسلامي ولذا كانت حماية أهل الأديان السماوية ودور عبادتهم من مقاصد العمران الإسلامي، حيث قال تعالي: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز"، فالناس في اختلافهم الديني والعرقي مجال كبير لاكتمال العمران في الدنيا. وقد عاش المسلمون أزمنة ممتدة في أوساط مختلفة وحضارات متعددة، وذلك منذ عصر الرسالة الأول، فالسيرة النبوية تقدم نماذج أربعة من التعايش مع أنظمة مختلفة.. الأول كان معادياً للمسلمين، كافح المسلمون أنفسهم لنيل حقهم في حرية التعبد، ثم انتقلوا بعد ذلك إلي العيش السوي المشترك في مظهر من مظاهر الاندماج الإيجابي في وسط مجتمع مختلف معهم في المعتقد إبان هجرتهم إلي الحبشة، فشاركوا في تنمية مجتمعهم وتسامحوا مع طريقة تعبد المخالفين لهم! حق الناس في التعبد حتي إذا انتقلوا إلي المدينة المنورة قاموا بالدفاع عن حق الناس في التعبد علي ما يؤمنون ويعتقدون من أهل الأديان المختلفة، في شواهد متكاثرة، وأمثلة عديدة حتي أقر النبي (ص) في عام الوفود وفد نصاري نجران علي الصلاة في مسجده الشريف. والمسجد هنا هو بيت الله المختص بالمسلمين، فما بالك بكنائسهم التي يؤدون فيها عباداتهم وشعائرهم التي أقرهم المسلمون علي البقاء عليها إذا احتاجوا لذلك، إذا كانت المحافظة عليها وحماية حقوقهم في التعبد بها أكبر وأعظم! هناك جوانب مشرقة في الدين الإسلامي الذي يفيض تسامحاً ورقياً مع مخالفيه، ومع أهل الكتاب بالخصوص، فسمح لهم بممارسة طقوس أديانهم في دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأولي بها عناية خاصة، فحرّم الاعتداء عليها بكافة أشكاله، وعلي ذلك سار المسلمون سلفا وخلفا عبر تاريخهم المشرف، وحضارتهم النقية، وأخلاقهم النبيلة السمحة، التي دخلوا بها قلوب الناس قبل أن يدخلوا بلدانهم. حال المسيحيين في مصر الأستاذ الدكتور محمد سالم أبوعاصي (عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية) يشرح هنا قواعد التعامل مع غير المسلمين: - لقد قرر القرآن قاعدة التعامل مع أهل الكتاب علي أساس البر والعدل: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون). فقد قسمت الآيتان المخالفين في الدين إلي فريقين اثنين: فريق كان مسلّما للمسلمين لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من ديارهم، فهؤلاء لهم حق البر والإقساط إليهم، وهذا هو حال المسيحيين في مصر.. وفريق اتخذوا موقف العداوة للمسلمين بالقتال أو الإخراج من البلاد، أو المظاهرة والمعاونة علي ذلك، فهؤلاء تحرم موالاتهم كمشركي مكة، ومفهوم هذا النص أن الفريق الآخر يحرم الإقساط إليه وبره. والدين لا ينبغي أن يتخذ مطية لمآرب سياسية، وإن من أبرز مبادئ الإسلام عدم الإكراه علي دين، وإن من حق الشعوب التي تعيش في ظلاله أن يحافظ علي معتقداتها وشعائرها الدينية، وأن الدولة ملتزمة بحماية ذلك، وأن جسور التعايش بين المسلمين وشعوب الأرض هدف نبيل. حماية الكنائس واجب فإذا عرفنا هذه الأصول كان ذلك أحري أن تهدينا في مسألتنا هذه "حماية الكنائس" سواء السبيل، وقبل بيان الأدلة الشرعية علي أن حماية الكنائس فريضة دينية، وأن الاعتداء علي ما أقر الشرع حمايته جريمة شرعية، أحب أن أقول إن المأمول في الفتاوي والأحكام الشرعية التي تتعلق بالقضايا الكبري للدولة والأمة الإسلامية، والتي يفتي بها المفتون من هنا وهناك أن تشكل فيما بينها آلية للتواصل والتنسيق تحقق التناغم والانسجام فيما يصدر من فتاوي وأحكام، أما أن يواجه الناس في القضايا الكبري بأحكام وفتاوي مخالفة، وربما متناقضة، فإن ذلك من شأنه أن يثير في الدولة عوامل الاضطراب. إن مد الجسور والبر والعدل بين الإسلام وأهل الكتاب هدف نبيل ترمي إليه الشريعة الإسلامية، ولذلك جاءت الأحكام التشريعية تؤيد ذلك، فمن ذلك ما هو مقرر من استحباب تهنئة المسلم لأي من معارفه وجيرانه وأقاربه لنعمة وفدت إليه، دون أن يكون لاختلاف الدين أثر في ذلك البر، ومن ذلك ما هو مقرر من استحباب تعزية المسلم أو صديقه الكتابي بوفاة قريب له، واستحباب عيادته لمرض ألم به. قدوة الرسول صلي الله عليه وسلم الحسنة وعيادة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) للغلام اليهودي معروفة وثابتة في الصحيح، إن ذلك الانسجام الساري في تعايش المسلمين مع أهل الكتاب إنما كان بأمر من التشريع الرباني.. والإجماع معقود منذ الفتوحات الإسلامية علي إقرار غير المسلمين علي كنائسهم في البلاد التي فتحوها صلحا، وكلمة الصلح تشمل ما كان يحدث من المسلمين والآخر من عهود واتفاقات، وما يحدث الآن في المجتمعات الإنسانية عبر العهود والمواثيق والدساتير فهي اتفاقات يجب الوفاء بها.. ويلتقط الدكتور عبدالله النجار (عضو مجمع البحوث الإسلامية) الخيط في سلسلة حماية الكنائس في الإسلام، ليشرح زاوية جديدة وهي أن سياسة بناء الكنائس مرهونة بالصالح العام للأمة، وأن ولي الأمر هو الذي يزن تلك المصلحة ويقدر لها قدرها وفقا لاعتبارات موضوعية بعيدة عن الاضطهاد الديني، فإذا وجد أن عدد المسيحيين قد زاد زيادة تقتضي بناء كنائس جديدة، فإن له أن يسمح بذلك، وإن رأي عدم الحاجة فإن له أن يقدر الأمر بما يراه محققا للصالح العام للأمة، ودون مساس بحق أي إنسان في معتقده الديني، وقد ترك النبي (صلي الله عليه وسلم) وخلفاؤه لغير المسلمين ما كانوا محتاجين له من الكنائس.. لا يجوز هدم الكنائس والأدلة الشرعية تضافرت في الدلالة علي أنه لا يجوز هدم الكنائس وذلك علي نحو ما دل عليه كتاب الله تعالي، وسنة نبيه (صلي الله عليه وسلم)، وأثار صحابته.. الدكتور محمد عبدالستار الجبالي (أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون) يؤكد أن الإسلام أباح لغير المسلمين ممارسة شعائر دينهم، فلا تهدم لهم بيعة أو كنيسة، ولا يكسر لهم صليب، بناء علي القاعدة العامة في حقوق أهل الذمة: "إن لهم مالنا وعليهم ما علينا"، وأن نتركهم وما يدينون، فهذه القواعد جرت علي لسان الفقهاء، ويؤيدها بعض الآثار عن السلف، منها: كتاب عمر بن عبدالعزيز: "لا تهدم بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار صولحوا عليه"، وعن عطاء أنه سئل عن الكنائس تهدم؛ فقال: لا"، وبناء علي ذلك وبمقتضي مبدأ المواطنة التي تجمع بين المسلمين وغيرهم في سائر البلاد، فإن لأصحاب الديانات الأخري اليهودية والنصرانية حق ممارسة شعائرهم الدينية في معابدهم وكنائسهم، دون التعرض لهم بأذي، في أنفسهم.. أو معابدهم.