»أمرت محكمة جنايات القاهرة بالتحفظ علي وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي و12 من مسئولي الوزارة داخل منازلهم، ومنعهم من السفر حتي موعد انعقاد الجلسة المقبلة في قضية الفساد المتهمين فيها». أثارت جملة التحفظ عليهم داخل منازلهم حيرة الكثيرين، لكننا في السطور التالية سنتتبع حالات مماثلة في التاريخ المصري، لاستيضاح الأمر. كان أقرب ما التقطته الذاكرة ما حدث بعد ثورة يوليو 52 من التحفظ علي محمد نجيب أول رئيس للجمهورية بعد الثورة مع أسرته في منزل السيدة زينب الوكيل في المرج بعد خلافه الشهير مع ضباط مجلس قيادة الثورة بسبب رغبته في إرجاع الجيش لثكناته وعودة الحياة النيابية المدنية، وفي نوفمبر من عام 1954 أجبره مجلس قيادة الثورة علي تقديم استقالته ووضعه قيد الإقامة الجبرية، وفي عام 1971 قرر الرئيس السادات إنهاء الإقامة الجبرية المفروضة عليه ولكنه ظل ممنوعا من الظهور الإعلامي حتي وفاته. وكان المشير عبد الحكيم عامر هو أبرز من تم التحفظ عليه داخل منزله في العصر الحديث بعد هزيمة 1967 المشير عامر الصديق المقرب للرئيس جمال عبدالناصر وأحد رجال ثورة يوليو أصبح القائد العام للقوات المسلحة وعمره 34 عاما بعد أن تمت ترقيته من رائد إلي لواء وفي عام 1958 مُنِح رتبة مشير وفي أعقاب هزيمة 67 أصدر الرئيس جمال قرارا بتنحية عامر من قيادة الجيش وتعيينه نائبا لرئيس الجمهورية، غضب عامر من القرار وسافر إلي قريته بأسيوط ليظل بها عدة أيام ليعود إلي منزله بالجيزة في أول يوليو، وفي أول شهر أغسطس من نفس العام تم التحفظ عليه بمنزله ووُضِع قيد الإقامة الجبرية، وانتهت حياته في 14 سبتمبر من نفس العام بعد أن قيل إنه أقدم علي الانتحار بسبب تأثره بهزيمة 67 وإن كانت قصة وفاته مازالت تحيط بها علامات الاستفهام حتي الآن. حكم التحفظ الأخير علي العادلي بمنزله لم يكن من الأحكام المتداولة وفسره البعض علي أنه تمهيد للحكم بالبراءة، أو أنه حكم عادي سبق أن طُبق علي نجيب وعامر، وذكر آخرون بأنها عقوبة قديمة كان يحكم بها السلاطين والخلفاء علي وزرائهم، ولأننا فارقنا زمن الملوك والسلاطين بحثنا عن حقيقة العقوبة وموقعها في القانون حتي ننتهي من حالة التكهنات ونصل إلي الحقيقة. المستشار محمد عبد العزيز الجندي النائب العام الأسبق ووزير العدل الأسبق، استمع لي بهدوء وأنا أسأله هل التحفظ علي العادلي داخل منزله عقوبة جنائية أم سياسية ؟ أفضل أن أقول إنها عقوبة قانونية لها ما يبررها وأنه لايوجد تشابه بين موقف العادلي وبين ما حدث مع نجيب وعامر من خضوعهما لقرار سياسي، طلبت مزيدا من الإيضاح . ببساطة شديدة تم تطبيق المادة 221 من قانون الإجراءات الجنائية المعدل بقانون صدر في عام 2006، ومن الممكن أن الحكم أثار فضول الكثيرين إما لأنه طُبق لأول مرة أو أنه طُبق من قبل علي أشخاص لا يمتلكون شهرة حبيب العادلي، وهذه الماده هي بدائل للحبس الاحتياطي والسلطة التي تملك الحبس تجعله يلزم منزله أو يمر علي قسم الشرطة ليوقع فيه، هي باختصار أحد بدائل الحبس الاحتياطي. والمقصود منها كما قصدنا في التعديل هو تقليل الضغط علي السجون وهو ليس حبسا وإنما هو إجراء تحفظي، وهذا التعديل الذي صدر به القانون هو جزء من تعديل قانون الإجراءات الجنائية الذي عملنا عليه من خلال لجنة كنت رئيسا لها . لم أستطع أن أخفي سعادتي لكوني أحدث الرجل نفسه الذي كان يرأس اللجنة التي ساهمت في ظهور هذا القانون وطلبت منه أن أعرف الظروف التي تم فيها التعديل فأجابني: في عام 1985 وكنت وقتها أشغل منصب النائب العام، اشتكي كثير من وكلاء النيابة من ازدحام السجون وظهرت الحاجة إلي تعديل قانون الإجراءات الجنائية فتم تشكيل لجنة كنت رئيسها وكان من ضمنها أساتذة قانون وشخصيات مسئولة في الدولة من بينهم الدكتور فتحي سرور والدكتورة آمال عثمان وزيرة الشئون الاجتماعية وقتها والدكتورة فوزية عبد الستار وتم تعديل القانون بالكامل، واستمررت في رئاسة اللجنة حتي بعد خروجي إلي المعاش ولم يكن الوقت مناسبا وقتها لمناقشة التعديلات فقرر المستشار فاروق سيف النصروزير العدل وقتذاك الانتظار، وتم استخراج عدد من التعديلات علي هيئة قوانين صغيرة منفصلة كان من بينها قانون بدائل الحبس الاحتياطي ومن ضمنه التحفظ علي المتهم في منزله بدلا من السجن، وبالطبع إذا غادر المتهم موقع التحفظ عليه فيعني هذا مخالفته للقانون ويُحبس في السجن . وكما اتضح من أن التحفظ علي العادلي تم تنفيذا لأحد بنود قانون الإجراءات الجنائية المعدل، إلا أن نفس العقوبة أو الإجراء الاحترازي كان موجودا من مئات السنين وتم تطبيقه بالفعل في ظروف وأسباب مختلفة، وكان الإمام أحمد بن حنبل واحدا ممن طُبق عليهم القانون في زمن الخليفة العباسي، ولكنه وقتها لم يكن قانونا مكتوبا إنما أمر من الخليفة، بدأت محنة الإمام ابن حنبل في عهد الخليفة العباسي المأمون الذي أثار فتنة لا مبرر لها عن خلق القرآن، فقال إن القرآن مخلوق محدث فتصدي له بعض العلماء وكان مصيرهم السجن والتعذيب ووافقه البعض خوفا من فقدانهم لحياتهم وأموالهم، وعندما وصل الأمر للإمام أحمد بن حنبل الذي تحمل النصيب الأوفي من الأذي بعد أن قاد جبهة الصمود ضد سطوة الخليفة وبرهن علي فساد رأيه حتي اضطر »المأمون» وهو في طرسوس أن يرسل في طلبه مع رفيقه محمد بن نوح ، فحملوه إليه مقيدا وفي الطريق عرفوا أن المأمون مات، فعادوا بالإمام إلي بغداد مقيدا، وأودع السجن حتي تولي الخلافة المعتصم الذي سار علي نهج أخيه، فألقي بالإمام في السجن وبعدها حاوره فلم ينتزع منه موافقة منه، فأمر بجلد الإمام وتعذيبه وسُجن لمدة ثمانية وعشرين شهرا ثم استدعاه من سجنه لمحاورته فلما وقف بين يديه قال له المعتصم: كيف كنت ياأحمد في محبسك البارحة ؟ فقال بخير، والحمدلله، إلا أني رأيت ياأمير المؤمنين في محبسك أمرا عجبا، فقال له: وما رأيت؟ قال: قمت في نصف الليل فتؤضأت للصلاة وصليت ركعتين فقرأت في ركعة »الحمد لله» و»قل أعوذ برب الناس» وفي الثانية »الحمدلله» و»قل أعوذ برب الفلق» ثم جلست وتشهدت وسلمت، ثم حاولت أن أقرأ من القرآن فلم أقدر، فمددت عيني في زاوية السجن، فإذا القرآن مسجي ميتا ، فغسلته وكفنته ، وصليت عليه ودفنته . فقال له: ويلك يا أحمد، والقرآن يموت؟ فقال له الإمام أحمد : فأنت كذا تقول: إنه مخلوق وكل مخلوق يموت. فقال المعتصم : قهرنا أحمد. واستمر النقاش بينهما وانتهي بتحريره من سجنه وأمر الخليفة بأن يعود الإمام إلي منزله وعاد إلي التدريس وكان حضر درسه خمسة آلاف علي الأقل، حتي جاء الخليفة الواثق فأمر بأن يوضع الإمام قيد الإقامة الجبرية في منزله ومُنِع من الاجتماع مع الناس، وقيل إنه كان يجلس خلف جدران منزله ويحدِّث تلاميذه القابعين أسفل الجدران من الخارج من أجل تلقي العلم. وإذا كان التحفظ علي الإمام أحمد بن حنبل تم لأنه تصدي لشطحات الخلفاء فإن سلاطين المماليك كان التحفظ علي أعوانهم وتحديدا الخازندار أو وزير المالية في عرفنا الآن هو أمر ثابت كما يقول الدكتور محمد الششتاوي المتخصص في تاريخ المماليك ولجأ إليه كل سلاطين المماليك تقريبا وكانت العقوبة تبدأ بالتحفظ علي المسئول المالي في منزله بعد ذيوع ارتكابه للمظالم وجمع أموال طائلة لا يورِّد منها لخزانة السلطان ما يكفي، ويطالبه برد ما جمعه ويصادر ممتلكاته ويستولي علي ثروته، وإذا رفض المسئول المالي رد ما يأمر به السلطان يتعرض للتعذيب والتنكيل به، وفي كثير من الأحيان يتم العفو عن المسئول المالي بعد الإجراءات التي تُتخذ ضده، والغريب أن في كثير من الحالات يعود المسئول المالي إلي عمله مرة أخري ويتعرض لكل ما سبق من جديد. وفي حالات أخري كان السلطان المملوكي يتحفظ علي منافسيه علي العرش ويحدد إقامتهم في قصورهم ويعزلهم عن العالم الخارجي، حدثت هذه الواقعة مع السلطان قلاوون، الذي أمر بالتحفظ علي أبناء الظاهر بيبرس بعد وفاته وكان هو الوصي علي العرش فقام بالتحفظ علي زوجته وأولاده في قلعة الكرك (تقع في الأردن الآن)، الطريف أن أحد أبناء الظاهر بيبرس كان متزوجا من ابنة قلاوون ولكن لم تشفع له روابط المصاهرة من إقصاء منافسيه والتحفظ عليهم في القلعة البعيدة. الطريف أن تطبيق قانون التحفظ علي المتهم في منزله كبديل للحبس الاحتياطي في هولندا تسبب في تخفيض عدد السجناء وإغلاق 19 سجنا في خلال الست سنوات الماضية، ويقدم للسجناء خياران إما الذهاب إلي السجن أو ارتداء السوار الإلكتروني الذي يسمح بتعقب حركة المتهم الذي يستفيد من رعاية أسرته، أما ما يستحق أن نذكره في التجربة الهولندية أن نظام التتبع ساهم في توفير 50 ألف دولار للفرد سنويا . ويبدو أن التجربة راقت لبعض الدول العربية حتي أن »تونس» قررت أن تطبق نظام السوار الإلكتروني لبعض السجناء الذين يخضعون للحبس الاحتياطي خاصة بعد أن تم نشر دراسة تؤكد أن المسجون لا يتاح له إلا مساحة مترين مربعين مخصصة لمعيشته داخل السجون.