علي خطي أخطر وأسوأ رجل مخابرات في مصر سرت في حياتي. بدأت عملي الصحفي المبكر في الخارج بمهام وطنية رائعة، وكان من الممكن أن أكتفي عند العودة بما قدمت لبلادي، لكن طبائع الاستبداد ومكافأة الأتباع جعلت الرجل الكبير يختارني كأحد أعمدة الفساد السرية الرئيسية بالصحافة والمجتمع.. ومثل الرجل الأخطر انفتحت أمامي كل الأبواب لأتصرف كيفما أشاء.. لكن الخطأ الأكبر الذي اضطررت إليه أنني شاركت الفاسدين الشباب اندفاعهم بتكوين أول مافيا رسمية للأراضي.. نبيع مالا نملك ونعطي للخزانة العامة تراب الفلوس ثم نحصل لأنفسنا بعد الزعيم وأسرته طبعا علي المليارات من فروق الأسعار.. منذ اللحظة الأولي وثق الرجل الكبير في إخلاصي مثلما وثق في شريكه ونديمه الأسوأ الذي سقط مؤخرا.. ومن المؤكد أن مصدر اطمئنانه كان عمليات "الكنترول" المختلفة التي يجريها الجهاز علي المتعاونين معه، وكان ذلك مدعاة لأكون الصحفي الوحيد الذي رافقه في رحلاته المبكرة للخارج قبل أن يصبح الرجل الأول.. كان كل منا ينقصه الجرأة والذكاء الاجتماعي، وجمعتنا صفة الغموض وكتمان الأسرار، لكنه كان محظوظا فرتب له القدر الصعود للقمة، أما أنا فجعلني تميزي الصحفي قريبا منه في بداية تكوين خبراته الإعلامية.. كان مترددا وضعيفا، لكنه عنيف وعنيد _ وأعترف بيني وبين نفسي أنني علي شاكلته، فأنا بعيدا عن الكتابة والورق متردد ولا أستطيع مواجهة الآخرين _ لكنني علي أي حال أصبحت بفضله أهم وأخطر صحفي في مصر.. (1) اعتمد الزعيم في حكمه بشكل مطلق علي الأجهزة السرية من المخابرات وأمن الدولة، واعتمد بنفس الدرجة علي الصحافة بوسائلها الثلاث المكتوبة والمرئية والمسموعة، وكانت في عرفه وثقافته أقرب ما تكون لأفرع المعلومات بأجهزة الأمن، ولهذا كانت ثقته بي كبيرة ومستقرة وتسبق الآخرين بمراحل وكان ذلك بشكل عير معلن طبعا، وشجعته طبيعتي الانعزالية الصامتة للاعتماد علي دوري بشكل أكبر، خاصة في السنوات السابقة لحادث 11 سبتمر وقبل التغول الأمريكي بالمنطقة العربية والإسلامية وبث الرعب في نفوس زعمائها بما سمي بالحرب علي الإرهاب واحتلال أفغانستان والعراق.. كان الزعيم من كبار رجال أمريكا بالشرق الأوسط، لكنه كان بطيئاً ومترددا في التنفيذ الفوري لما يريدون، وكانت حسابات أواتفاقات الصغير بوش مبنية علي توريث الأبناء الصغار مثله الحكم بالمنطقة، وهم أكثر عشقا للحلم والهيمنة الأمريكية، وتمثل ذلك فيما سمي بمصر بالفكر الجديد وسياسات التنمية السريعة "الخاطفة" وكانت ثقة الزعيم بي تجعله يمنحني دور البطولة المطلقة في تمثيلية "حرية الصحافة" ومجاراة مصر للتطورات الديمقراطية والحريات التي سادت العالم تلك الفترة، وقد اختصني بمفردي للرد علي كبار الكتاب والأبواق الأمريكية والغربية التي بدأت تهاجمه بعنف.. وقد استطاع المرور من أول أزمة عقب إعدام صدام حسين بالتغييرات الدستورية الملفقة في 2005.. وكان داخل نفسه متشبثا بالحكم جدا برغم الضغوط الأسرية والأمريكية من أجل التوريث، وكان ذلك يعطيني الأمان التام، فقد أسر لي ولزملائي الكبار بأننا باقون بجواره طالما بقي هو بالحكم.. لكنه للأسف لم يتمكن من الوفاء بالوعد بسبب حكم قضائي كان توقيت إعلانه في نفس توقيت الانتخابات التي أظهر "النيو لوك" وقتها أنها أول انتخابات تعددية نزيهة، وأنه صادق مع الشعب، فكيف يتجاهل تنفيذ أحكام القضاء القاطعة ويطلب الثقة وأصوات الملايين؟! وكانت نهاية مأساوية مفاجئة لخدماتنا معه، فاضطر لإبعادنا ولكن مع أمر صارم بحمايتنا التامة، التي لاتزال سارية للآن.. (2) كنت أكثر من يعرف مكانتي المتميزة جدا لدي الرجل الكبير، بعكس الرأي العام الذي ظن أن غيري من الزاعقين صوتاً والغارقين علنا بالفساد يتمتعون بمكانة أفضل مني،.. وأنا متأكد أنه لولا الظروف القهرية لكنت _ ومعي زملائي الكبار _ لانزال بمواقعنا الصحفية الرسمية حتي الآن.. وأعرف جيدا أنه افتقدنا كثيرا وكان تائها مع الأتباع الأصغر سنا الذين اختار معظمهم ابنه الحالم الواهم بعرش مصر، والذي لم يكن يدري أنه ينقصه الكثير للتأهل للحكم، خصوصا أنه نشأ كالكبير قليل القراءة كارها للثقافة وللحريات والديمقراطية الحقة.. وكان متعجلا خاصة في الوعود السرية الأمريكية له ولوالدته ولبعثات طرق الأبواب بالدعم والمساعدة لتمكينهم من حلمهم المشترك.. ولو كانت "لو" تكفي لتحاشي القدر لتمنيت لو أن الحالم الواهم بالعرش كان اكتفي كشقيقه الأكبر بجمع الأموال والثروات أوالانغماس في المشروعات والملذات، وكنت حينئذ أول من سيمد يده إليه بالمساعدة. فقد سبق أن كنت أول من صنع لشقيقه الأكبر الغطاء في لعبة الأراضي، إلي أن اكتسب الخبرة اللازمة التي سترت أساليبه الفجة الخشنة للدخول إلي عالم البزنس.. وقدمت له في البداية أحلي قطعة أرض سال لها لعابه علي النيل، وهكذا استمر الحال معه ومع أصدقائي وأصدقاء الكبير من أعضاء مافيا الأراضي حتي آخر يوم لي في الخدمة.. والكثيرون لا يعرفون عشق الكبير للمال والعمولات السرية، ولم يروا الهدايا الفخمة التي كنت أرسلها منذ سنوات مبكرة له ولعائلته وكبار معاونيه، وكان كل ذلك مستورا لا يدري به أحد، قبل أن تفوح رائحة الفساد علي يد الأولاد، والفارق الوحيد الذي يميزني هو السرية الشديدة التي تدربت عليها والخبرة والمهارة الأكثر في التكتم وإخفاء الأدلة والمستندات، ولا أنكر أن هناك من يساعدني في عمليات الإخفاء مع الاكتفاء بضبط غيري متلبسا ككبش فداء.. ولا أخفي سرا أن الحذر وتوقع الأسوأ برغم الحماية هو ما دفعني للهروب مؤخرا من استدعاءات متتالية وتحقيقات عديدة كانت جارية معي. (3) رغم فسادي الذي أعترف به مؤخرا فقط وقد فضحني هروبي خارج البلاد بالطبع إلا أن هناك من كان أكثر فسادا وشراهة مني في الجوانب المالية، لكنني كنت أكثر استمتاعا بالعلاقات الغرامية، وبالقيام بأدوار البطولة علي الورق وكنت حادا في الهجوم علي خصوم الكبير أو خصومي المختلفين معي فكريا، ولم تكن تأخذني الرحمة في التنكيل بمن لا أرضي عنهم في العمل.. ربما كان ذلك لضعف الوازع الإنساني أو كتعويض عن خجلي وعدم قدرتي علي التواصل الاجتماعي بسلاسة مع الآخرين، ولا أحب المتدينين، وأموت في عمل المقالب والسخرية من الزملاء خاصة المنافقين والضعفاء ومن يقبلون المهانة مقابل تحقيق مصالحهم، ولا أنسي ذلك الموقف الذي كنت أجلس فيه مع عدد من الزملاء الذين لا يصلون مثلي وكان ذلك أثناء صلاة جمعة، وقلت لهم انتظروا ماذا سأفعل في زميلنا "مدعي المشيخة" فلان الذي يتطوع لخطبة الجمعة والإمامة بالمصلي الصغير بالجريدة، وأرسلت له ساعيا ليحضر فورا بحجة أنني أريده لأمر هام.. واستلقي الزملاء علي ظهورهم من الضحك عندما وجدوا الشيخ يترك خطبة الجمعة ويحضر مهرولا ويقف أمامي كالأرنب بعد أن استأذن من المصلين لأن رئيس التحرير يريده فورا!؟ ولا أعرف لماذا لم أتوقف عن مثل هذه الأمور حتي انتهي بي الحال إلي إلغاء المصلي بذلك المكان.. وقد يكون من الصعب عليّ تناول علاقاتي النسائية في مذكراتي الخاصة، لكنني لا أنكر عشقي الزائد للمرأة، ولعلاقاتي بالنساء علي الرغم من صعوبة قدرتي علي التواصل في علاقة عادية في الأماكن العامة، لذلك كانت علاقاتي كلها تقريبا مرتبطة بمواقع عملي، وكنت أحب الجميلات، وأستمتع بتعذيب الضعيفات المستكينات منهن، لكنني أعترف أيضا أن ذوات الشخصيات القوية كن يتفنن في تعذيبي واستغلال قصوري الاجتماعي وعدم "صياعتي".. وكانت العلاقات تتهدم علي الفور بمجرد أن تسيطر علي أي منهن الرغبة في الزواج، فقد كنت لا أستطيع، علي اعتبار أنني متزوج من أجنبية طبقا لقانون بلادها الذي يمنعني من الزواج بأخري.. ولم تسترح أي منهن لنظرية الحب للحب التي كنت أحاول إقناعهن بها؟! (4) بالتأكيد لم تكن كل علاقاتي جافة وقاسية مع الآخرين، فهناك من وقفوا بجانبي في بعض مواقف الشدة علي قلة ما واجهته منها مقارنة بغالبية الشعب المقهور.. ولا أنسي فضل زميل صحفي رحمة الله عليه كان في غاية الطيبة والنبل وخدمة الآخرين.. عندما عدت من فترة عملي بالخارج كان القانون الجديد لممارسة العمل الصحفي والانضمام لعضوية نقابة الصحفيين يشترط الحصول علي مؤهل عال، وكانت الشهادة التي حصلت عليها من الخارج تعادل فوق المتوسط ولا تعترف وزارة التعليم العالي بمساواتها بالمؤهل الجامعي.. لم يهدأ هذا الزميل (رحمة الله عليه مرة أخري) إلي أن تمكن من الحصول لي علي موافقة بمساواة شهادتي بالمؤهل العالي وأصبحت بفضله بالطبع صحفيا رسميا، ولم يكن يعلم أحد أن القدر يلعب لعبته لإعدادي لأصل لما وصلت إليه فيما بعد.. وعلي نفس الطريق تكررت المصادفة عقب زيارة الرئيس السادات لإسرائيل، وتفتحت عليه أبواب جهنم بهجوم حاد وكاسح من جبهات الصمود والتصدي العربي، وأراد أحد الصحفيين الكبار من أصدقاء أمريكا المقربين إلي الرئيس أن يخفف عنه فحكي له قصة مختلقة بأنني رفضت إغراءات إحدي الدول العربية بعمل متميز وراتب مغر غيرة علي بلدي ورفضا لتلك الحملات، فما كان من الزعيم الراحل إلا أن أصدر قرارا فوريا بتعييني رئيسا لتحرير الجريدة الكبري وكنت وقتها أصغر رئيس تحرير.. وبالتأكيد لم تكن توصيات الأجهزة التي تعاونت معها لصالح بلدي بالخارج بعيدة عن هذا التعيين.. (5) قد يتصور البعض أنني أكذب عندما أقول إنني كنت نزيها للغاية في بداية عودتي من الخارج، وكنت مثاليا علي طريقة المجتمع الراقي الذي عشت فيه، وقد رفضت في البداية نشر إعلانات للخمور بالجريدة الكبري التي رأست تحريرها، بل ورفضت عمل الصحفيين بالإعلانات، بعكس صحيفة أخري منافسة.. لكنني للأمانة عدت بنفسي للموافقة علي نشر نفس الإعلانات، ولم أنظر لرد فعل الشارع المحافظ، كما طلبت بنفسي من المحررين أن يجلبوا الإعلانات علي الرغم من أن القانون يمنع ذلك بشدة.. لكن بداية عصر الفساد واقترابي من رئيس المؤسسة المنافسة السباقة في هذا المجال علمني الكثير، ولأنني بطبيعتي متطرف ويعتبرني البعض "مجنونا" فقد دخلت هذه المجالات بقوة وساعدتني اتصالاتي السرية لأصبح عضوا بأحد أجهزة الفساد الرسمية في مجالات الأراضي والعقارات والمشروعات السياحية.. وأذكر أن انخراطي وتفوقي في بيزنس الفساد لم يكن وليد خبرة أو مهارة شخصية.. لكن الذي يطبخ لي كل شيء بنفسه، طبقا للقانون محامي "مصيبة" وقد غير كل فكرتي المثالية عن العدالة والقانون، وأنا أتعجب من أنه، بعد أن يعد العملية ويرسم كل شيء دون أن يفهم أحدنا ماذا فعل، فإنه يخرج من أي مشكلة تواجهنا كالشعرة من العجين، وقد يضع غيره بالسجن، مدعيا أنه مجرد محام، مع أن الحقيقة أنه هو الذي يفكر ويخطط ويفاوض وينفذ ويشارك في الغنيمة دون أدني مسئولية.. لذلك أسميه مستشار إبليس أو المستشار القانوني لمخالفة القانون.. وقد يكون ذلك سببا في أنه أكثر المستمتعين بالدفاع عن أعتي الفاسدين..وقد يكون في مهارة ذلك المستشار عزاء وطمأنينة.. فقد تقع الفاس بالراس ولو بنسبة واحد في المائة، كما وقعت لأخطر رجل في مصر، وقد سبقتي في الهروب، وأعتبر خطواتي تسير علي نفس طريقه.. فهل تمنع الحماية أو أقصي درجات الحذر من قدر؟! [email protected]