الجميع كانوا أذكي من الزعيم، لكن الزعيم كان يمتلك السلطة والحذر والقوة الأمنية المفرطة، وكان محظوظا.. وبمرور الوقت أدركنا كتشكيل يحيط به أنه كلما أظهر أحدنا مهارة في الجمع بين الولاء والانتماء الأمني والخضوع لأسرته ضمن البقاء والغوص في النعيم، وكانت السياسة أن يقال لأحدنا، بالمزاج الشخصي ستبقي معي، رجلي علي رجلك.. لكن هذا المزاج لم يتحقق سوي معي وحدي _ ولا أعرف إن كان ذلك عن ذكاء مني أم ضربة حظ! _ ومع هذا فكل منا يتساءل الآن ولو متأخرا: من يضمن لنفسه بقاء ظفر قدم علي حافة كرسي أو علي حفنة ثري أو حتي علي حبة من رمال؟! لقد فهمت علي مدي السنوات الطوال طبيعة الزعيم.. أنه يعشق الحياة الرتيبة كموظف ميري أصيل، لا يحب إعمال التفكير و"شاري دماغه".. يصحو مبكرا، يمارس الرياضة، يأكل جيدا، يستمتع بكل ما هو حسي وسري من الملذات، يسعي في حيطة وغموض نحو التملك والثراء، ويجيد اختيار الندماء _ واحدا بواحد _ طبقا لمزاج يومه أو لطبيعة لحظة الصفاء.. فمن يمكنه غيري استيعاب ما يريد الكبير، والإلمام بكل ما يدور في رأسه العنيد.. ومن ينافسني في إتقان اللعب بالعقول وعمليات الإيقاع بالنساء و"الكنترول".. ألم يصفني الجميع علي اختلاف انتماءاتهم بجواهرجي العلاقات، وثعلب الأمن والسياسات والمخابرات.. بل ومبدع الإخراج للجديد في عالم الصحافة الأمنية والفضائيات، وهل تفوق عليّ أحد في معرفة مكامن القوي والقدرات في أسرته أو نقاط الضعف والتأثير في شخصية ذلك الزعيم؟! (1) يوما ما أمرني الكبير أن أجمع متعلقاتي وأرحل، لكنني لم أيأس وبدأت في الاستفادة من فهمي لمفاتيحه.. وكان "الماستر كي" في تلك المفاتيح تردده وحذره المبالغ فيه مع حبه للحياة، فهو في أشد الحاجة للحماية الأمنية والاستمرار في موقع القوة والسلطان، وأنا رجل أمن واستعلامات ومعلومات.. فهل يصعب عليّ التأثير فيه من جديد.. هل تعلم يازعيم سر بقاء واستمرار الأسر الحاكمة من حولنا وفي أماكن أخري لعقود طويلة؟ أفتني ياعبقري.. إنها أجهزة الأمن السرية القوية المتغلغلة في كل شيء، وتغطيها واجهة ناعمة وساحرة من الصحافة والإعلام! بسيطة نزود قوات الأمن بمختلف صورها وننشرها في كل حتة، والإعلام دا لعبتك.. وورينا بقي شطارتك يا وحيد عصرك.. شبيك لبيك، ستري سيادتك كيف سأسيطر ليس فقط علي الصحافة والإعلام المحلي، ولكن علي صفحات وفضاءات المنطقة كلها.. وكل مافي الأمر أنني أحتاج لميزانية ضخمة ومفتوحة وسرية، وبلا محاسبة كالميزانيات السيادية؟ أفكارك هايلة وتستحق المكافأة، لكن منين نقدر نوفر كل هذه الأموال والميزانيات؟! إن القانون والدستور يتيح لك الكثير.. فسيادتك الوحيد الذي له حق الموافقة علي تكوين الصناديق والحسابات الخاصة، وهي من خارج ميزانية الدولة، من التحصيلات والغرامات والتبرعات التي يدفعها الملايين، وبعيدة عن الرقابة، وحتي الجهاز الرئيسي للمحاسبات يمكنك ضمه للرئاسة والتحكم فيه كيفما نريد علي طريقة البنك المركزي الذي ضممته سيادتك في أعقاب أزمة القروض الضخمة المعدومة.. وبذلك تصبح سيادتك متحكما في كل سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والرقابية، وحتي القضائية بنسبة ما من خلال التغول القهري للجهاز التنفيذي وتحكمه السري في بعض المفاتيح، ولو تعثرنا أمام الغالبية ممن يتشبثون بالاستقلال فهناك وسائل عديدة للتحايل وتعطيل تنفيذ الأحكام.. أنت وزير شيطان.. وأنا أحتاجك كمتحدث رسمي علي طريقة تلك الدول، التي تنعم بالفعل في الخيرات والثروات.. مع أن الحكم لديها حديدي وصارم، وكل ما في الأمر أنه يختفي وراء واجهات هادئة، وناجحة في إظهار كل شيء مستقرا وآمنا.. فابدأ في مشروعاتك فورا، وحكاية الواجهة الناعمة دي بقي تكون مهمتك! أحلام سيادتك أوامر وحروف كلامك سلاسل دهب.. ومن اليوم كل خطابات سيادتك بالصحف والشاشات لن تخلو من الاهتمام بالفقراء والمطحونين، ومناشدة الجميع بتقديم كل ما يمكن لصالحهم، وأنك ستضرب بيد من حديد أي جهة أو مسئول يقصر في حقهم، وكل شيء مسخر لخدمتهم "رغم إمكانيات بلادنا المحدودة".. أما في حل الأزمات فلنضح فورا بكباش الفداء للحفاظ علي نقاء صورة الزعيم! (2) لا يجب بأي حال المساس بما أرساه السابقون، فلنؤكد سياسة تجميع الخيوط في اليد الواحدة للسيطرة علي كل شيء، مع إجراء بعض التجميل لتبدو الصورة كما نريد.. ولنبدأ فورا في وضع بصمات خاصة بعهدك، مما تفرضه تطورات العصر وتكنولوجيا المعلومات والفضائيات، فقد أصبح العالم بالفعل قرية كونية صغيرة.. وبعد انهيار المعسكر الشرقي أيقنت كل الدول أنه بات لزاما عليها الأخذ بالحريات وحقوق الإنسان، وعندي خطة جهنمية لاقناع الجميع أننا نعيس أزهي عصور الحريات والديقراطية.. ولتكن واجهتنا المؤثرة حرية الصحافة والتعبير.. ولن تخرج هذه الحرية عما هو مرسوم لها، بما فيها المعارضة التي تحمل لافتة حرية التعبير لأقصي الدرجات.. نتفق: هم يقولون ما يشاءون ونحن نفعل مانريد! ولدينا من بين الصحف الحكومية الكبري من يمكنه تمثيل دور المعارضة الجريئة من داخل النظام.. وسوف يقودها من يعمل مباشرة بأجهزتنا القوية وهو تحت السيطرة تماما، ومن حسن الحظ أنه صامت في الحياة ولا يحب المواجهة أو الاختلاط بالآخرين، بعكس كلماته علي الورق فهي ملتهبة ومدوية ومؤثرة.. وقد أدي المهمة بنجاح كبير إلي أن ضبط متلبسا بخطأ دخول "شلل البزنس" الجديدة ومافيا الأراضي.. ولكن لاتقلق ياسيدي فالبدائل الخفية الأخري موجودة وبصورة أكثر تطورا، فلنفتح مجالا جديدا لصحف مستقلة وخاصة، تمشيا مع الدخول بعمق في مراحل الاقتصاد الحر المتقدمة التي اقتحمها أبناؤنا.. ولندقق في اختيار من يقوم بأدوار تلك الحرية الأكثر اتساعا وزعيقا، ولابد أن يكون رجالها أيضا تحت السيطرة الكاملة بوسائل أكثر إغراء.. وليكن بالإغراق في النعيم وتذوق الملايين المناسبة للتوسع الوحشي الأخير في البزنس "اطعم الفم تستحي العين".. ولا ننسي أن من يؤدون أدوار المعارضة أصبحوا أكثر أهمية وأغلي سعرا، لكن من المهم أن يكونوا من العاملين بأجهزتنا لإحكام السيطرة، حتي لا تتبقي سوي مساحات ضئيلة نادرة لمن يفلت عيارهم صدفة أو تهورا أو حتي عن مبدأ، وهؤلاء لن نعدم معهم الحيلة.. فلدينا سيف القوانين سيئة السمعة، والتهم جاهزة ومعلبة! لقد نجحنا في جعل أجهزة الأمن تسيطر علي كل شيء في ذلك العصر، دون أن يراها أو يضبطها أحد، وتصرفنا مع الصحافة وكأنها أحد أفرع المخابرات والمعلومات، وقد نفذنا ذلك بمهارة ومكر أكثر من الثعالب، مع أن عنوان الواجهة "حرية الصحافة".. وهكذا هي السياسة في أحلي وأفسد صورها معا.. إنها تشبه المثل العربي الذي يصف أجمل الأشياء بأنها: "أحلي من الكدب" لشدة جمال الكذب.. أما المباديء والأخلاقيات، فهي بضاعة ثقيلي الدم من أصحاب اللسان المر والمفلسين! (3) أتاح لي عملي الرسمي أثناء عصر الرعب الأول إتقان مسألة "الكنترول" والسيطرة علي بعض الفنانات من فئة الفاتنات والشهيرات.. فلماذا لا أجرب في الخباثة كده نفس القصة مع الكبير، وبدون تصوير طبعا وإلا طارت رقبتي.. لكن بأسلوب الإشباع وتلبية الرغبات، حتي يشعر بالسعادة فيعتاد، ويصعب عليه الاستغناء عني.. وعلي الجانب الآخر تغير الأسلوب من "التوريط" الي "التربيط والتزبيط" فلا كنترول ولا إكراه مع بعض الفاتنات الصغيرات التي يميل إليهن الكبير من الفن والإعلام، فتصبح المسائل ودية، بالتراضي وتبادل المنافع وضمان الكتمان والسرية _ ولا تتعجبوا من جرأتي فالسياسة لا قلب ولا أخلاق لها وقد تتطلب أكثر من ذلك ممن يريدون الصعود! _ وسر تشدد الكبير في مسألة الكتمان تتطلب أن نعود لنشأته، فقد تربي في بيئة محافظة وبسيطة جعلته لايحب، بل لايطيق، أن يطلع أحد علي أسراره ونزواته، كما لا يحب بالمناسبة أن يعرف أحد أنه حاد اللسان وكثيرا ما يذبح العاملين معه بالكلمات الجارحة.. لذلك فأنا أعامله بحذر شديد، وبرقة وظرف بالغ، رغم كل سنوات القرب والعشرة، بل إنني من أكثر من يجعلونه سعيدا بمختلف وسائل الامتاع والمؤانسة، وبالأفكار الجديدة التي يحب أن تنسب لعصره دون أن ألمح من قريب أو بعيد صلتي بهذه الأفكار والأعمال.. فهو متحفظ للغاية في العلن ويبدو هادئا كما لو كان يحيط نفسه بجو تأمل صامت وخجول، لكن له لحظات من نار "أجارك الله".. والكيس من يستشعر " الصهد " قبل أن يتحول الي كرات اللهب.. وهو يحب من يفهمه بأكثر مما يستطيع هو أن يعبر بالكلمات، لذلك فهو يأتمنني علي القيام بالكثير من المهام الجديدة ذات الأغراض المحددة في رأسه هو.. وكثيرا ما أعطاني مساحات هائلة من النقاش والشوري.. (4) جل من لايخطيء.. لقد وعدت الزعيم وتصورت واهما أنني سأسيطر علي السموات والأرض، بمجرد أن نتملك الأقمار الصناعية والمحطات الفضائية ونتحكم فيمن نعطيه ومن لا نعطيه، لكن اتضح أن الجميع يستطيع البث من أقمار ومحطات أخري، وأيقنت بعد فوات الأوان أن السيطرة الاعلامية هي للكلمة والمعلومة والمادة الصادقة، التي لايخطيء المتلقي تقييمها بالعقل والمنطق، ناهيك عن الإحساس بمدي الحق والصدق والإخلاص في الرسالة ذاتها ومرسلها.. أما مواد الدعاية الكاذبة التي لا تخدع إلا مرسلها والجهة التي تتوهم أنها تحقق لها فائدة أو تحدث تأثيرا إيجابيا لدي المتلقي لمجرد أن منطوقها وألفاظها تستخدم الكلمات المعسولة، فالكذب يدخل من أذن ليخرج من الأخري، ولا يستقر في عقل أو وجدان من يبحث عن الحقيقة.. ومع كراهيتي الشديدة لتلك القناة الشهيرة التي كثيرا ما أشعرتني من داخلي بالفشل وقد كان نجاحها مذهلا، لدرجة أن تأثيرها كان أقوي من تأثير بلادها وأصحابها ذاتهم والسبب بسيط للغاية أذكره مخلصا لأجيالنا القادمة، فالصدق والمهنية هما أسرع طريق لعقل وقلب المشاهد، مهما كان مستواه الثقافي.. فحتي المواطن البسيط يملك من صدق الإحساس ونقاء الفطرة ما يجعله يميز الكلمة الصادقة من الدعاية المغرضة.. والآن بعد مصيري المتوقع المظلم لم يعد بإمكاني أن أنكر أن الكثيرين من المصريين تحملوا الأمرين في مقاومة الفساد الذي كان سائدا خلال عصرنا، فإنني أعترف أن هذا الكفاح لم يضع هباء.. وقد أصبح أساسا بني عليه الشباب ثورتهم واستكملها كل الشعب معهم.. وهنا أيضا لا يمكنني أن أنكر دور تلك القناة التي لا أطيقها وغيرها من القنوات الصادقة الحريصة علي مهنيتها بصرف النظر عن رغبات أصحاب النفوذ والمصالح.. فأرجو لأجيالنا الجديدة بالإعلام والصحافة ضرورة تحري الصدق والإخلاص في القصد في أي مادة يقدمونها للناس.. لأن الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة أخطر من أن تترك لتستعمل كدعاية وعلاقات عامة للسياسيين، خاصة لو كانوا غير مخلصين، أو ممن يتعمدون حجب الحقائق والمعلومات الصحيحة عن شعوبهم.. وقد صارت الصحافة الحقة الآن أحد أسلحة الحكم الصادق الرشيد الرامي للبناء وللتقدم الحقيقي لبلاده..