الكرسي كلمة السر.. كل الخبراء رأوا أنني أكثر المسئولين فشلا في الحكومة.. وبالفطرة والاكتواء توصل شعب مصر لنفس النتيجة، لكن أمريكا وحلفاء إسرائيل كان لهم رأي آخر.. منحوني جوائز التفوق والمناصب الدولية كأنجح الوزراء، وبلع الصغير الحالم بكرسي العرش وأمه الطعم الأمريكي، وعقدا الصفقة المحرمة لوراثة الكرسي، سواء بمشيئة الأب وأمام عينيه أو رغما عنه، وكنت شرطا حاكما في الاتفاق.. ومن خلالهما تمكنت من السيطرة علي عصب مصر وكل الشرايين والدماء، وتحكمت في كل الوزارات، وأصبح دوري أهم من أي رئيس وزراء، وخلت لي الساحة لألعب كيفما أشاء.. أفرغت الاقتصاد من محتواه ليصبح كالبالونة: كلما ازدادت حجما امتلأ قلبها بالفراغ، جعلته اقتصادا ورقيا يقوده المغامرون والمضاربون والخطافون، شاركت في البيع والتستر علي الحصيلة الحقيقية للقطاع العام، ووجهت الميزانية وأموال الصناديق الخاصة الهائلة لما يخدم الفساد، ويدعم الرشوة والتسلط والاستبداد، وكانت لدي الجرأة و"الاستعباط" لكي أتحدي المعترضين ومن يطالبون بالحرص علي مصلحة هذا الشعب، لم ألق بالا بمن وصفني بجلاد الفقراء ومصاص دماء المحتاجين.. وماذا تفعل لشعب ينتظر الراتب كالإحسان أول كل شهر ويفرح بالعلاوة في نفس اللحظة التي يسحب فيها من أجره أضعاف قيمتها بالجباية والتضخم ورفع الأسعار؟! (1) من هو هذا الأهوج الذي أصر علي سداد رسوم جمركية علي كرتونة "تمر" مرسلة هدية من أحد حكام الخليج لفخامة السيد الرئيس.. هو عبيط ولا اتجنن ولا مش عارف البلد دي ماشية إزاي؟!.. أهو ديوان الرياسة أصر لأول مرة في تاريخه علي دفع الرسوم 56 جنيها وخمسين قرشا" لأن الصحافة نشرت القصة.. وأصر أيضا علي أخد اسم الموظف ثلاثيا، وطبعا أنا مضطر أحرمه من الترقيات طول عمره، كأقل إجراء يرضي الرياسة.. ومعرفش لو كان تابع لمسئول غيري مش حنين كان عمل فيه إيه! أما سيارات الأمراء الفخمة المحجوزة بالجمارك في انتظار سداد الرسوم الجمركية المستحقة عليها، فهذه مسألة أخري.. أنهم غير معتادين علي دفع الجمارك الباهظة مثلنا علي السيارات، لذلك فهي تظل مددا طويلة محجوزة إلي أن يتم تسديد رسومها وربما يتركها أصحابها نهائيا.. هذه جاجوار فخمة مملوكة لوزير داخلية خليجي لاتليق بأحد في مصر سوي ابني.. وهذه ست سيارات بين مرسيدس وبورش وبي أم دبليو ولكزس لن تخصص إلا لمكتبي أما المائة سيارة المتنوعة الجميلة الأخري والمملوكة لعرب ومصريين فهذه ستذهب لأصحاب النصيب بالوزارات وأجهزة الدولة الأخري، كل حسب أهميته، وذوقه وأدبه الشخصي معايا! وبمناسبة السيارات والشيء بالشيء يذكر فإن صديقي العزيز وزير الرعب والتعذيب ومعه رئيس مؤسستنا الفارع عرضا علي الاشتراك في صفقة لاستيراد لوحات معدنية للسيارات من الخارج بمبلغ 22 مليون يورو أي ما يعادل 671 مليون جنيه مصري.. يابلاش مش بطالة.. أما الإنتاج المحلي والمصانع والشركات المتخصصة في الإنتاج المثيل فماعطلكش، يضربوا دماغهم في جدار خرسانة.. خلاص إحنا بقينا دولة اقتصاد حر وننسي حكاية التصنيع المحلي دي.. العالم كله أصبح قرية واحدة وسوقا واحدة، وبالفلوس و"العمولات" تقدر تجيب كل شيء بسرعة، ولا دوشة وعطلة ومشاكل التصنيع المحلي.. أما جنسية دولة التوريد فالألماني " يوكل "! (2) أنا باستغرب علي الجماعة اللي بيخافوا دول، هما ما يعرفوش المثل القائل "إن عشقت أعشق قمر وإن سرقت اسرق جمل" وخذوها من اقتصادي محنك: فاللص مثل العاشق لابد يكون لكل منهما قلب جريء وحديد.. وإلا لن يعيش لأولهما سرقة وسيشرف دنيا السجون، ولا للثاني حب وسينضم لعالم العنوسة والخنوع!.. وكمان أنا أحب الإنسان الكريم "اللي ياكل ويؤكل" ويكرم زملاءه والمتعاونين معه، مثلا المعونة الأمريكية باعته لنا حاجة ببلاش كده، من حبايبنا ليه مانصرفش ونشبرق علي الناس؟ وأنا الحقيقة بافكر أعمل أمركة أو إدخال النظام الأمريكاني لإعادة هيكلة الجمارك بتاعتنا وطبعا مفيش مانع أخليهم علي اطلاع كامل بكل ما يدخل ويخرج من مصر، وإيه يعني هو بقي فيه شيء سري أو مستخبي النهارده في عالم النت وتكنولوجيا المعلومات والأرقام؟! لكن أهم حاجة عندي إني أمنع الجماعة أصحاب اللسان الطويل، من أهل الكهف اللي مش عايشين العصر وبيدعوا النزاهة والشفافية ويتقولوا خسئت كلماتهم بأنها وحدة "تجسس" علي اقتصاد مصر .. والغريب أنهم بيدعوا أن المعلومات اللي بياخدها الأمريكان لا تتاح للمصريين فهل يعقل هذا.. وعلي أي حال اذا لم تخرس ألسنتهم، فسأتركهم ينبحون! وأمركة الجمارك دي حتتكلف حوالي 042 مليون جنيه من منح المعونة الأمريكية ومجموعة أميرست للتطوير الجمركي، وطبعا من الأفضل أن ينفذها الأمريكان بأنفسهم، علي أحسن وجه، وأنا شايف الست الخبيرة الأمريكية "هيستر هوبكنز" ماشاء الله "لهلوبة" وبمائة رجل.. وبمناسبة إعادة الهيكلة وضرورة أن يعم الخير منها علي رجال الأعمال وكبار القوم من حبايبنا فسوف نغير صفات سيارات " برادو " الملاكي (4) راكب الفخمة، المستحق عليها جمارك بنسبة 135٪ + 54٪ + 8.5٪ ويتم اعتبارها سيارات (9) راكب غير السائق وبالتالي يدفع أحباؤنا 97 ألف جنيه بدلا من 974 ألف لكل سيارة وقد دخل منها حوالي عشرة آلاف سيارة، بمعني ضياع أربعة مليارات جنيه جمارك علي خزينة الدولة " مش خسارة في علية القوم.. وانسي احتياجات الشعب من الموازنة العامة التي يعتبر هو الممول الأول لها وللصناديق الخاصة الرهيبة والتي تذهب لمرتبات ومكافآت الكبار أيضا"! (3) لا أعرف لماذا أشعر بالسعادة كلما سمعت أو قرأت لأحد ممن يصفونني بأني "جلاد" محدودي الدخل أو "مصاص دماء" الفقراء، ولا أعرف بماذا يصفون صديقي الصغير الحالم بعرش مصر وهو يتحاور معي بجدية لكنها في ثوب مزاح: أنا لو مسكت البلد دي مش حاخلي فيها محدود دخل ولا فقير واحد أكيد حترفع مستوي المعيشة حتي لا يبقي بالمجتمع أي فقير لأ حاحرقهم كلهم بجاز!.. إن صديقي الذي كان متعطشا للإرث يؤمن كما رأيتم بالاقتصاد الحر علي الطريقة اليمينية المتطرفة.. وهو ما يصفه البعض بالرأسمالية الفاشلة أو الخبيثة، أو الفاسدة، والنموذج القريب منها هو ما أدي إلي الكارثة العقارية والمالية التي مازالت تعاني منها أمريكا حتي الآن، لكنها علي أي حال رأسمالية تروق للصوص والطامعين والمقامرين والذين لا يرون علي وجه الأرض سوي أنفسهم، والباقي عندهم عبيد أو خدم محتقرون! وأنا أعشق هذه الرأسمالية وإن كنت لا أجرؤ علي مصارحة الشعب الذي يموت في خداع المسئولين ولا أعرف أيضا لماذا! وبالمناسبة أنا لا أكره الشعب إلي هذه الدرجة، لكنه كان يغريني بأن أفعل فيه ما فعلته.. فقد كنت أفرض كل أنواع الضرائب حتي غير المعقول منها، وآخرها الضريبة العقارية.. وقد قال بعض الخبثاء اني أريد للشعب المصري أن يعود للعصر الحجري كي يبيت في العراء أو لعصر الكهوف والعودة للحياة البدائية.. لكن الحقيقة أن مصدر إغراء هذا الشعب لي أن عدده ضخم، وقد يكون هذا العدد عبئا بسبب روح الاتكالية وعدم التحفيز علي الإنتاج التي خلفتها الأنظمة المتتالية بمصر ولكن لهذه الضخامة إيجابية خاصة لي إذ إن أي مبلغ من الضريبة أفرضه علي الفقراء مهما كان صغيرا يحقق لي المليارات المضمونة بالضرب في 08 مليونا من الناس، أما الضرائب المتصاعدة علي الأغنياء فإنها قد لاتحقق الكثير، ناهيك عن ميل الأغنياء الطبيعي للتحايل والتهرب.. ولهذا السبب فقط كنت أختلف مع الحالم بوراثة العرش الجمهوري في رغبته في التخلص من محدودي الدخل. (4) ولماذا نذهب بعيدا.. إن هذا الشعب كثير التناسل يمثل ميزة أخري أستطيع أنا وصديقي الكاره للفقراء أن نحولها لميزة يستفيد منها الأغنياء وعلية القوم.. إن حصيلة مبالغ التأمينات والمعاشات لهذه الأعداد المهولة يمثل حاليا حوالي 004 مليار من الجنيهات، وهي مبالغ رهيبة يمكن استثمارها لصالح علية القوم فحسب، فبعد أن نستغني منها عن مبلغ محدود يمكن به تمويل جزء من العجز المزمن بالموازنة، يمكننا استثمار المبالغ الضخمة المتبقية في البورصات والمضاربات والصفقات السريعة ما يحقق للكبار المهيمنين علي اقتصاد مصر أرباحا طائلة.. أما في حالة الخسارة فمن يعيش.. ومن السهولة بمكان أن نرتب سيناريو لتحميل العبء الأكبر من تلك الخسارة علي الشعب من أصحاب من هذه المبالغ.. أي أننا نلعب فقط في الرابحة وبأموال من يري صديقي ضرورة حرقهم بالجاز.. فعلي من يريد أن يتشطر ويتذاكي هذا الشعب؟!.. إنني معجب جدا بشخصية الميكي ماوس الذي لا يمكن الإمساك به، وكثيرا ما أمارس ألعابا شبيهة في أثناء أكثر الاجتماعات جدية! (5) أعترف أنني سايرت الجو، وساعدت الحالم الواهم بالعرش الجمهوري في تنفيذ العديد من طموحاته وأطماعه لكننا عجزنا جميعا في تحقيق حلمه الرهيب، الذي كان يؤيده فيه الأمريكان بقوة وكانوا علي استعداد لتمكينه منه بمختلف وسائل الضغط والالتفاف، وقد كان بالفعل قاب قوسين أو أدني من التحقق، لكن إرادة الله وإرادة الشعب بقيادة الشباب كان لهما رأي آخر.. وللحقيقة فقد كانت لي أنا الآخر أهدافي التي حرصت علي تنفيذها بالتوازي مع أهداف الآخرين ومن الطبيعي أن أحتفظ بعدم التصريح بهذه الأهداف لنفسي.. لكني من باب إشباع نهم الفضوليين وطويلي الأنوف أعترف ببعض ما فعلت.. فقد أسأت استخدام المنصب العام وتربحت منه بمبالغ أكثر مما يتصور أحد وساعدت الغير علي التربح، وحرمت الموازنة العامة من مبالغ ضخمة كانت من حقها مجاملة لآخرين.. وساعدت جهات أجنبية للحصول علي المعلومات والأموال، منها بنك باركليز الذي تربح حوالي نصف مليار جنيه فوائد تأخير بالمخالفة للقانون من قيمة الجمارك والضرائب المصرية، عندما منحته هذه الميزة كبديل للبنك المركزي، وغيرها وغيرها.. ويسعدني أن أضيف أن إعجابي بالمخلوقات لا يتوقف عند الميكي ماوس الذكي الظريف، لكنه يمتد إلي الثعلب المراوغ الخبيث، وقد علمتني الحياة الحذر مع القدر.. فمن كان يعمل في دولة لا يحترم حاكمها شعبه، ولا يشركه في حكم نفسه، ولا يتركه ينعم بالحرية السياسية والدينية والفكرية والمدنية والمواطنة الحقة، ولا يحفزه علي العمل والإبداع والإنتاج لايمكنه أن يتوقع خيرا لهذا الشعب ولا حتي لهذا الحاكم.. ولا يمكنه أيضا أن يأمن لغدر الزمان وعليه التأهب باستمرار للهرب.. لقد كنت أرتعد وأنا أغادر المطار في وقت مبكر جدا عقب الثورة، كاد يصيبني الانهيار عندما لم أجد طائرة مصر للطيران مغادرة حالا إلي بيروت بلد زوجتي، وأنقذني القدر بتوافر طائرة من الخطوط اللبنانية.. وقد وجدت نفسي ربما المرة الأولي أسلم باليد علي كل من يقابلني بالمطار.. هل كان سلوكا يشبه الميكي ماوس أم الثعلب: لا أعرف، المهم أنني نجوت. باي باي شعب!