المحبون يحتشدون للاحتفال بمولد أم هاشم مقام السيدة زينب قبلة ومزارا يتوافد عليه الناس من كل مكان في مصر طوال العام، فالكل سواء أمام باب مسجد السيدة، لكن الزحام يتضاعف هذه الأيام مع الاحتفالات بذكري مولدها، ويعيش المريدون والمحبون أجواء روحانية رائعة بسبب حبهم لآل البيت الأطهار، لا فرق بين الغني والفقير، والقريب والبعيد، فالحب يهفو بالقلوب صوب مقام السيدة حفيدة رسول الله صلي الله عليه وسلم. استقبلت مصر أول نفحة من عطر النبي، عندما رصّعت أرضها "السيدة زينب" رضي الله عنها بنت الإمام علي كرم الله وجهه، والسيدة فاطمة الزهراء، وحفيدة رسول الله صلي الله عليه وسلم، التي لعبت دورا بطوليا خالدا علي مسرح الأحداث السياسية في معركة "كربلاء" منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، وواجهت طغيان "بني أمية" بكل شجاعة. "دين ودنيا" عاش الاحتفالات بذكري مولد السيدة الطاهرة، وحب الناس للنبي صلي الله عليه وسلم وحفيدته، فالسيدة زينب بضعة منه، وعطر من سيرته، وقبس من نوره. لا موضع لقدم هنا في ميدان السيدة زينب وكل الشوارع والأحياء المتفرعة منه أو المحيطة به، حيث تفد الآلاف المؤلفة من كافة محافظات مصر، كلهم في رحابها أيام مولدها التي تروج فيها التجارة بهذه المنطقة أكثر مما تروج في غير هذه الأيام طول السنة، والزحام يتضاعف حول مسجدها، وداخل ضريحها الطاهر، عندما يطرق هؤلاء المحبون بابها قبل الدخول تأدبا مع حفيدة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم، التي جمعت صفة النسب الطاهر، ونالت من المنزلة والمكانة والخلود في التاريخ. فجدها لأمها سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم، وجدتها لأمها أم المؤمنين زوجة المصطفي الأمين السيدة خديجة رضي الله عنها، وأمها السيدة فاطمة الزهراء، وأبوها الإمام علي كرم الله وجهه، وشقيقة الحسن والحسين، وزوجها عبدالله بن جعفر رضي الله عنهم جميعا. إنها "الطاهرة".. و"أم العواجز".. و"أم اليتامي".. و"أم هاشم".. و"المشيرة"، وكلها أسماء وألقاب اكتسبتها بسبب تعاطفها مع بسطاء الناس وفقرائهم، فعندما ذهبت إلي المدينةالمنورة واعتكفت هناك، كان زوارها كثيرين جدا ويتوافدون عليها بكثافة عالية، فطلبت أن يأتيها اليتامي والعواجز فقط ليأكلوا ويرتاحوا عندها، وكانت تجير أصحاب الحاجات، وصاحبة الشوري لمن يطلب رأيها، فقد كانت حكيمة وبليغة وتقية، كما روي كل ذلك الشيخ علي أحمد شلبي الذي تولي رئاسة مجلس إدارة المسجد الزينبي. ولقد حظيت السيدة زينب (رضوان الله عليها) بالكثير من الدراسات حول شخصيتها وجوانب العظمة فيها، قال عنها شيخ الأزهر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود: جمعت بين كرم الأصل وشرف النسب والحسب، وأنها تمثل عنصرا إيمانيا رائدا، خاصة فيما يتعلق بالجانب النسائي المسلم، لكنها لم تعتمد علي شرف نسبها أو علي فضل كونها من التابعين، وإنما مثلت شخصية المرأة الشريفة العاملة المكافحة، التي جمعت بين العبادة والتبتل، وبين العمل والجهاد، وشعرها يفيد تسليمها لله وتوكلها عليه، وطلبها تخليص النفس من المشاغل، حيث تقول: سهرت أعين ونامت عيون لأمور تكون أولا تكون أن ربا كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غد ما يكون فادرأ الهم ما استطعت عن النفس فحملانك الهموم جنون وكانت في أسمي درجات العلم، وكانت صابرة في الله، متحمِّلة ما تلقي في سبيل الحق، يكفي أنها قالت عندما وقفت عند أخيها الحسين (رضي الله عنه) بعد استشهاده: "اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان". وكان ثباتها النابع من إيمانها القوي راسخا لا يتزعزع، ومما يشير إلي ذلك أن اللعين عبيد الله بن زياد (والي الكوفة من قبل يزيد بن معاوية) قال لها متشفيا بعد "كربلاء": كيف رأيت صنع الله في أهل بيتك وأخيك؟ فردت عليه بقولها: ما رأيت إلا خيرا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلي مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج النصر والظفر يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة، هكذا تحدثت بطلة "كربلاء" في مواجهة والي الكوفة، وتحدت غدر وعسف الظالمين الطغاة، ودافعت بشموخ عن آل البيت عندما حاصرتهم قوي بني أمية، وحاولوا قتل آل البيت بعد مأساة كربلاء التي ذهب ضحيتها سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين شقيق السيدة زينب. وعندما أحس يزيد بن معاوية بتأنيب الضمير والندم، وما أقدم عليه من جرم في حق أهل البيت النبوي الكريم، فأراد أن يكفِّر عن شنيعة فعلته وسوء صنيعه وخبث طويته، فعرض علي السيدة زينب (رضي الله عنها) الأموال الكثيرة عوضا عما سُلِب ونُهِب منها، وممن كان معها من آل الإمام الحسين وأنصاره وأتباعه، فقالت ليزيد: يايزيد ما أقسي قلبك، تقتل أخي وتعطيني المال، والله لا كان ذلك أبدا.. فأمر يزيد بن معاوية بهم أن يسيروا إلي المدينةالمنورة وأوصي بحسن الصحبة وتلبية طلبات أهل البيت، وما إن استقر المقام بالسيدة زينب بالمدينةالمنورة حتي أخذت تنبر المنابر، تخطب الجماعات مظهرة عدوان يزيد بن معاوية وبغي بن زياد، وطغيان أعوانهما علي آل البيت النبوي الكريم، فأثارت الثائرة، وهيّجت الخواطر والمشاعر، وألبت الجماهير علي حزب الشر، وذلك من قوة بيانها وبلاغتها، مما جعل عمرو بن سعيد (والي المدينة من قبل يزيد)، يستنجد به خوفا علي ولايته من غضبة الناس إذا ظلت السيدة زينب تخطب فيهم وتثير حماستهم. ولذلك أمر يزيد بن معاوية بأن تغادر الطاهرة المدينة إلي حيث تشاء من أرض الله غير الحرمين الشريفين، في البداية عزّ عليها تنفيذ ذلك الأمر، وعظم عليها أن ترحل من أرض الآباء والأجداد، مهبط الوحي، ورفضت الأمر، ثم اجتمع معها نساء بني هاشم وتلطفن معها في الكلام وواسينها حتي قبلت الرحيل عن أرض الحجاز. وعن سر تفضيلها مصر عن باقي بلاد الدنيا يقول الصوفي الكبير مولانا الشيخ حمدي الضبع: لقد اختارت مصر دارا لإقامتها لما سمعته عن أهلها من محبتهم لآل البيت، وعظيم عطفهم ومودتهم وولائهم لذوي القربي، ولما تعرفه من أن مصر كنانة الله في أرضه، من أرادها بسوء من جبار قصمه الله، ولما سمعته بما حدّثت به أم سلمة، من أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) أوصي قبل انتقاله إلي الرفيق الأعلي بأهل مصر، فقال: "إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما". وكان مسلمة بن مخلد الأنصاري (والي مصر)، قد توجه ومعه جماعة من أصحابه ورهط كبير من أعيان مصر وعلمائها ووجهائها وتجارها، ليكونوا في شرف استقبال السيدة زينب (رضي الله عنها)، عندما تطأ قدماها الشريفتان أرض الكنانة، فاستقبلوها جميعا استقبالا حافلا يليق بمقامها الكريم عند قرية علي طريق مصر والشام شرقي مدينة "بلبيس" بمحافظة الشرقية، وقد عُرِفت هذه القرية فيما بعد باسم قرية "العباسة" نسبة للعباسة ابنة أحمد بن طولون. وقد وافق دخول السيدة الطاهرة مصر بزوغ هلال شعبان سنة إحدي وستين هجرية الموافق 26 أبريل سنة 68ميلادية، وكان قد مضي علي استشهاد شقيقها الإمام الحسين (رضي الله عنه) ستة أشهر وأيام.. وقد قال أحد الشعراء في اختيارها مصر دارا لإقامتها: لما رجعت من الشام ليثرب.. من بعد فاجعة الإمام الحسين طلبوا إليك الظعن للبلد الذي.. تستوطنينه خارج الحرمين فاخترت مصر فرحبت بك وانثنت.. تهتز من شرف علي الكونين وقد أنزلها الوالي هي ومن معها في داره بالحمراء القصوي ترويحا لها، إذ كانت تشكو ضعفا من أثر ما مر بها، فنزلت بتلك الدار معزّزة مكرّمة، وبقيت فيها موضع إجلال المصريين وتقديرهم، حيث كانوا يفدون إلي منزلها ملتمسين بركتها ودعواتها، مستمعين إلي ما ترويه من الأحاديث النبوية الشريفة والأدب الديني الرفيع.. وبقيت السيدة زينب بتلك الدار أقل من عام بقليل، فلم تُر خلال مدة إقامتها إلا عابدة متبتلة متهجدة صوّامة قوّامة تالية لآي الذكر الحكيم. وقد انتقلت (رضوان الله عليها) إلي جوار الله عشية يوم الأحد لأربع عشرة مضين من رجب الموافق 27مارس سنة 682ميلادية، فمهدت لها الأرض الطاهرة مرقدا لينا في مخدعها من دار مسلمة، حيث أقامت واختارت أن تلقي فيها ربها الكريم ليكون مضجعها الأخير. وصار مقامها حيث ووريت الثري، مزارا مباركا يفد إليه المسلمون من كل حدب وصوب، يتبركون به ويسألون ربهم فيه صالح الدعوات.