«سأكون أفضل عمدة في تاريخ لندن».. قالها صديق خان في مقابلة صحفية قبل أيام قليلة من إعلانه، يوم الجمعة الماضي، فائزاً بأعلي منصب رسمي في العاصمة ذات ال6.8 مليون نسمة. للوهلة الأولي يبدو خان ذلك الشخص الذي يصفه خصومه بأنه « واثق من نفسه لدرجة الغرور»، فيما أحد مستشاريه يقول لصحيفة الجارديان: « خان لا يعرف السقوط.. ذلك ما تعلمه من الملاكمة التي مارسها في طفولته»، ولكن حينما يتحدث ذلك الرجل ممتلئ الجسم متوسط الطول صاحب ال45 عاماً والشعر الأبيض، يتضح بلا شك أنه خطيب مفوه ومتحدث لبق وزعيم صاحب كاريزما. والده كان سائقاً .. ولايؤيد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بذكاء شديد أقنع خان الناخبين بالتصويت له، عازفاً علي وتر يشغل بال سكان لندن وهو صعوبة المواصلات العامة وارتفاع أسعارها، ولأن والده مهاجر باكستاني وكان سائق حافلة عامة فكان دائماً يقول: « انتخبوا ابن سائق الحافلة فهو أكثر من يشعر بمعاناتكم ويعرف كيف يخفف عنكم»، و في مقابلة أخري أجريت معه في أحد المقاهي الإيطالية بالعاصمة البريطانية، قال: « مسيرتي وأصولي الباكستانية وديانتي الإسلامية، كل ذلك يرمز إلي أن لندن مدينة رائعة.. أحبها جدا وأدين لها بالكثير، فهي منحتني كل شيء»، وإذا كان خصومه استخدموا أصوله وديانته للتقليل من شأنه والإشارة إلي علاقاته بإسلاميين متشددين دافع عنهم في قضايا متعددة، فإنه كان دائماً ما يلوح بأن انتخابه سيكون كانتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة لذا استخدم أنصاره شعاراً مشابهاً لما استخدمه أوباما في حملته الرئاسية عام 2008، ولكن مع تجانس وسجع لغوي متماشياً مع اسمه، حيث كان هتافهم YES He Khan، ودائما ما كان ابن سائق الحافلة المسلم يوضح أن اختيار شخص مثله مختلف دينياً وعرقياً لهو دليل علي تسامح وتعدد ثقافي متميز لا يمكن رؤيته إلا في لندن، لذا فإن حملته الانتخابية وضعت علي كل أفيشاته الدعائية الرقم 44، وهو رقم الحافلة التي قادها والده لسنوات خدمةً لسكان لندن.. هو إذاً المحامي اليساري المسلم المنتمي لحزب العمال ابن سائق الأوتوبيس الذي كان وزيراً للنقل في عهد رئيس الوزراء السابق جوردون براون، ويعد بتخفيض تعريفة المواصلات العامة الأعلي في العاصمة البريطانية من بين كل العواصمالغربية.. ولكن هل صديق خان مسلم يواظب علي ممارسة شعائره؟ نعم، هو حريص علي الصلاة والصيام ويقول إن ذلك هو «أفضل طريق لمكافحة التطرف والمتطرفين»، وبعد هجمات باريس في نوفمبر من العام الماضي أكد « يجب علي المسلمين البريطانيين فعل الكثير لاستئصال سرطان التطرف»، ويقدم خان نفسه علي أنه» عمدة لكل اللندنيين»، وفي نفس الوقت ينتقد طريقة التعايش بين الأعراق المختلفة في المملكة المتحدة حيث يري « حمينا حقوق الناس في العيش طبقاً لعاداتهم الثقافية علي حساب التعايش المشترك.. كثير من المسلمين البريطانيين يكبرون دون أن يتعرفوا علي أشخاص من ديانات وأعراق أخري». وكان من ضمن أوراق خان الرابحة أيضاً هو أنه وُلد وتربي في منزل متواضع من تلك النوعية التي توفرها الحكومة للفقراء، وهو ما جعله يقدم نفسه باعتباره قادراً علي حل مشكلة أخري تؤرق سكان لندن وهي ارتفاع أسعار العقارات سواء للتمليك أو الإيجار، ويوضح خان ذلك بقوله: « لندن هي أكبر عاصمة في العالم ولكنها تخسر الكثير من النقاط بسبب استحالة العيش فيها، إلا بتخصيص نصف الراتب لدفع الإيجار أو لتسديد قرض.. ليس فقط سائقي الحافلات العامة والمدرسين من يعانون من ذلك ولكن الأطباء وموظفي البنوك كذلك». صعود خان وقصة نجاحه يراه كثيرون نجاحا للندن نفسها، وهو يؤكد ذلك الأمر: « لندن دائماً تفي بوعدها.. أياً كان أصلك أو لونك أو ديانتك، حينما تعمل وتجتهد ستجد دوماً يدا تقدم لك العون.. هذا ما حدث معي»، غير أنه يستدرك « ولكن اليوم نجد الكثير من اللندنيين لا يستطيعون الاستفادة من مواهبهم بالقدر الكافي، لا سيما الشباب، فأسعار السكن والحياة عموماً ليست في متناولهم وفضلا عن ذلك لا أحد يساعدهم.. حينما أكون عمدة للندن سأكون تلك اليد الممدودة بالعون لكل اللندنيين بلا تمييز». نسخة من القرآن لم ينشأ في مسكن متواضع فقط بل وفي ظروف بالغة القسوة مع إخوته الستة وأخته الوحيدة، حيث كان والده يعمل ما يقرب من 14 ساعة يومياً وأمه تمتهن الخياطة، أما هو فكثيراً ما لجأ لمهاراته كملاكم للرد علي إساءات عنصرية كان يواجهها من وقت لآخر، وكان يحلم بأن يصبح طبيب أسنان ولكن أحد أساتذته في المرحلة الثانوية أقنعه بالتوجه نحو دراسة القانون نظراً للسانه الفصيح وقدرته علي الإقناع، وهو ما أخذ به ليصبح محامياً متخصصاً في الكفاح ضد التمييز، تماماً كزوجته سعدية. عقب تخرجه بفترة وجيزة انخرط في عالم السياسة: في سن الرابعة والعشرين كان مستشاراً ببلدية لندن وفي الرابعة الثلاثين نائباً في البرلمان عن دائرة توتينج التي وُلد بها، وفي السابعة والثلاثين وزيراً للنقل والمواصلات في حكومة رئيس الوزراء العمالي السابق جوردون براون، وكان ذلك عام 2009، وقيل عنه آنذاك أنه «أول مسلم يدخل المجلس الخاص لملكة إنجلترا»، وقبل أن يحلف اليمين الوزاري أمام إليزابيث الثانية في قصر باكينجهام، سأله أحدهم عن نوع الكتاب المقدس الذي يريد أن يقسم عليه، فأجاب بلهجة المعتد بنفسه: «القرآن». - عفواً ولكن لا يوجد نسخة منه في القصر - لا عليك يا سيدي، فأنا أحتفظ دائماً بنسخة في جيبي. أوراق رابحة من فرط استخدامه لأصوله وديانته كورقة رابحة في الانتخابات البلدية، حاول خصومه إظهار ذلك كنوع من المساوئ، فرئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون اتهمه بأنه « غطاء قانوني للمتطرفين»، ونشرت الصحف الموالية للمحافظين صوراً تظهره بصحبة سيئة مثل سليمان غاني إمام مسجد الدائرة التي يسكن بها (توتينج)، وصورة أخري في اجتماع بعنوان « ضد الإرهاب السياسي» الذي سانده تنظيم القاعدة، وعلي صفحات جريدة Mail on Sundayتذهب زاك جولد سميث، منافسه في الانتخابات عن حزب المحافظين، إلي حد الربط بين خان وتفجيرات مترو لندن التي وقعت عام 2005، ولم يتردد في المقارنة بينه وبين «شخصيات مثيرة للاشمئزاز» محسوبة علي الإسلام الراديكالي، وهو مارد عليه خان ببرود إنجليزي معتاد « حينما تكون مدعواً لإلقاء كلمة في مؤتمر ما فإنك لا تعلم أبداً من سيتحدث بعدك». عن ديانته كمسلم يقول خان: « إنه جزء مما أنا عليه، ولكن أنا كغيري أمتلك هوايات متعددة: أنا لندني بريطاني آسيوي من باكستان.. أنا أب وزوج.. أشجع ليفربول وأدين بالإسلام.. أنا كل هؤلاء».. هو أيضاً لا يشرب الكحوليات ومتسامح مع كل الديانات وصوت في البرلمان علي أحقية مثليي الجنس في الزواج، وهو ما جعله مستباح الدم بفتوي من أحد الشيوخ المتشددين. الصحفية ياسمين براون تؤكد علي علي صفحات الجارديان أن «انتخاب صديق خان يفند خطاب المتشددين المعادين للغرب.. إنه أسوأ كابوس للإرهابيين، فطالما أنه بإمكان شخص مسلم أن يكون منتخباً من بين عدة أعراق وثقافات مختلفة ليحكم واحدة من أكبر مدن العالم، فكيف سيتمكن الإرهابيون من الترويج لعدم وجود مستقبل للمسلمين في أوروبا وأن الغرب يكره الإسلام». من أهم ما يميز ابن سائق الحافلة هو تراجعه عن رأيه حينما يتبين له خطأ ما كان يعتقد، حيث تراجع عن فكرة بناء مدرج ثالث بمطار هيثرو خوفاً من التلوث البيئي، وأبدي ندماً علي رفضه في السابق غناء نشيد God Save the Queen، وبذكاء شديد نأي خان ينفسه عن السجال الدائر بين جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال، وبين خصومه الذين يتهمونه بمعاداة السامية لا سيما بعد مقابلاته لقيادات من حماس وحزب الله. صديق خان لا يؤيد خروج بريطانيا من منظومة الاتحاد الأوروبي، وله في ذلك منطق وجيه حيث يتساءل: « كيف تظنون أن عمدة مدينة بها نصف مليون فرصة عمل مرتبطة بالاتحاد الأوروبي يتمني النزول من قطار أوروبا الموحدة؟». انتصار صديق خان علي خصمه الملياردير اليهودي زاك جولد سميث وحصوله علي مقعد عمدية لندن بواقع 56% من الأصوات، لا يعني أن معاركه السياسية قد انتهت، بل ربما أنها علي وشك البدء، إذ إن سلفه في المنصب بوريس جونسون، ذلك السياسي اليميني المحافظ الشاطح دوماً علي غرار دونالد ترامب علي الضفة الأخري من الأطلسي، يأمل في أن يصبح رئيساً للوزراء خلفاً لديفيد كاميرون، وكما هو معروف فالود مفقود بين خان « الذي لا يعرف السقوط» وجونسون الذي يجيد توجيه اللكمات.. تماماً كما يفعل ترامب.