«لو أنك طلبت مني هذا الطلب حينما كنت رئيسة للجمهورية لربما كان الأمر أسهل نوعاً ما».. بهذه الكلمات أجابتني تولا أوريولا سفيرة فنلندابالقاهرة، حينما سألتها عن إمكانية إجراء مقابلة مع تاريا هالونين المرأة الحديدية الفنلندية التي شغلت عدة مناصب مهمة، إذ كانت وزيرة للصحة والتضامن الاجتماعي (1987-1990) ثم وزيرة للعدل (1990-1991) ثم وزيرة للخارجية (1995-2000)، وأخيراً رئيسة للجمهورية في الفترة من 2000 إلي 2012. أما الآن فهي سفيرة للنوايا حسنة بالأمم المتحدة لمواجهة ظاهرة التصحر، وعضو بهيئة أمناء مكتبة الإسكندرية، وعدد من المنظمات والمنتديات الدولية، فضلاً عن أنها تجوب العالم لإلقاء محاضرات عن الديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة وأهمية المساواة بين الجنسين، وكان آخرها الأسبوع الماضي بجامعة القاهرة. لا تتوقف تاريا هالونين عن العمل.. تتناول إفطارها في طائرة تقلع من هلسنكي، وتتغدي في اجتماع للأمم المتحدة بنيويورك، وتتمدد في سيارة عائدة من الإسكندرية، وتراجع أوراقها من خلف زجاج مرت عليه كل فصول السنة، دون أن تنتبه إلي أنها لم تصفف شعرها، وأن عيد ميلادها الثالث بعد السبعين كان أمس. زرت مصر قبل وبعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو وأنت اليوم في القاهرة.. ما الانطباع الذي تحتفظين به في الذاكرة؟ - دعني أولاً ألفت النظر إلي أن أول زيارة قمت بها لمصر كانت عام 1969، وقتذاك كنت ضمن وفد المنظمة الطلابية الوطنية الفنلندية في إطار برنامج للتبادل الثقافي علي مستوي طلبة الجامعة بين مصر وفنلندا.. بالتأكيد أحتفظ بذكريات جيدة، لاسيما أنني زرت القاهرةوالإسكندرية عدة مرات، بما في ذلك زيارات رسمية حينما كنت وزيرة خارجية ثم رئيسة للجمهورية.. أستطيع أن أجزم بأن بلدكم منذ ذلك الحين شهد تطورات كبيرة في قطاعات متعددة، لقد حققت مصر نتائج مرضية علي صعيد الأهداف الإنمائية للألفية الحالية، وذلك بواقع 6 من أصل 17 هدفاً، وتبقي أمامكم تحديات الفقر والجوع والتعليم والمساواة بين الجنسين وصحة الأم.. أسستم لبلدكم بشكل جيد، استكملتم استحقاقات خارطة المستقبل بأن أصبح لديكم دستور وبرلمان ولكن هذا ليس كل شيء، فمازال لديكم الكثير من العمل لتنجزوه لاسيما في ملف التعليم، لا أستطيع أن أقول كيف.. لكن أمامكم تحدي بناء المجتمع الجديد طوبة بعد أخري. خمس سنوات مضت علي ما يُعرف بالربيع العربي.. كيف ترين المنطقة اليوم؟ أفضل أم أسوأ؟ - أنت واحد من أهل المنطقة وأدري مني بحالها.. المفروض أنكم أعلم بما يدور فيها وبما هو أنفع وأصلح وأنتم فقط ستحصدون ما زرعتم في النهاية.. (صمتت لبرهة وشردت عيناها ثم استدركت): الشيء الذي يؤلمني هو ما حدث في سوريا، حقاً أنا حزينة جداً لما جري في هذا البلد، ونفس الحزن بداخلي منذ سنوات لأن القضية الفلسطينية مازالت بلا تسوية بفعل أخطاء جسيمة ارتكبها المجتمع الدولي الذي حاول صنع التغيير علي طريقة الوجبات السريعة، وهو نفس ما حدث مع موجات الاحتجاجات التي اندلعت ضد الأنظمة العربية، لذا نقول الآن في الغرب إن الشعوب تستطيع صنع التغيير بنفسها ولا ينبغي أبداً التدخل لتسريع وتيرة ذلك.. لقد زرت المنطقة مرات عدة خلال السنوات الماضية كي أفهم ما يحدث بدقة، ولم يكن هناك من يستطيع التنبؤ بسير الأحداث.. دائماً أقول إنكم تستطيعون تغيير الحاكم في ليلة واحدة ولكن لا يمكنكم بناء المجتمع في ليلة واحدة، بعد ما قمتم به من تغييرات أمام الكثير من العمل. ولكن اسمح لي أن أتحدث عن التغيرات التي شهدها العالم بأسره في السنوات القليلة الماضية وليس عن العالم العربي فقط.. لو طلبت مني أن أصف العالم بكلمة واحدة فإن الانطباع الذي أخرج به من أي مناقشات مع جنسيات وتوجهات أيديولوجية مختلفة في أماكن متفرقة بالعالم هو شعور عام بالشك وعدم اليقين.. الشك في كل شيء وعدم التيقن من أي شيء.. نفس هذا الشعور بعد الانتهاء من المناقشات في مكتبة الإسكندرية، ونفس الشعور راودني، منذ أسابيع، عقب الانتهاء من اجتماعات المنتدي الرابع العالمي في باكو (تجمع عالمي يقام في العاصمة الأذربيجانية باكو بهدف الحفاظ علي التراث والتشجيع علي تبادل الأنشطة الثقافية والاجتماعية وتعزيز التواصل وقيم التسامح بين الشعوب).. غداً (الأربعاء 13 أبريل) أستقل الطائرة من القاهرة إلي واشنطن للمشاركة في الأعمال التحضيرية لتقرير التنمية العالمية 2017، والذي يحمل عنوان «الحكم والقانون». دعني أقول إن حالة الشك التي يعيشها العالم هي نتاج لحكم سيِّئ وغياب القانون إضافة لتحديات أخري علينا أن نواجهها. ما السبب المباشر وراء حالة الشك تلك؟ - هناك سببان، الأول هو انعدام الثقة بين الشعوب، والثاني السرعة الرهيبة في الابتكار التكنولوجي.. من الأمثلة الصارخة علي انعدام الثقة بين الشعوب هو المعارك العنيفة المندلعة في هذا المكان أو ذاك، وكذلك الآراء المتصلبة تجاه المهاجرين واللاجئين.. هذا هو العالم الذي نعيش فيه والذي يجب أن نعمل فيه علي تنمية مستدامة، فلا وقت للانتظار ولا مجال لاضطرابات اقتصادية أخري، يجب أن نركز كل جهودنا علي بناء مجتمعات تعيش في سلام دائم.. علينا أن نعمل بحزم وعزم علي كل الجبهات، وإذا كانت الصراعات الآن ذات صبغة دولية فإن الجهود من أجل السلام أيضاً يجب أن تكون دولية. بعيداً عن مسألة الشك وانعدام الثقة.. ما التحديات التي يتوجب علي العالم مواجهتها الآن؟ - خلق فرص عمل لائقة والتركيز علي نشر التعليم والمعرفة وقيم العمل هي تحديات يجب العمل علي مواجهتها بتنسيق عالمي، فالجماعات المتطرفة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة القرن الأفريقي تجتذب الشباب العاطل الذي لم يتلق القدر الكافي من التعليم، فهؤلاء دائماً هدف سهل للجماعات المتطرفة التي تسبب عنفها في تأثيرات مباشرة علي أوروبا ممثلة في موجات الهجرة والنزوح.. أيضاً هناك ظاهرتا التصحر والجفاف التي تدفع كثيرين للهجرة من الجنوب، ومصر بمثابة محطة انتقالية للمهاجرين، فيما آخرون يفضلون البقاء فيها. يجب، وبأقصي سرعة، اتخاذ إجراءات قوية وحاسمة للحد من التدهور البيئي، ولطالما روجت لذلك بصفتي سفيرة النوايا الحسنة للأمم المتحدة لمواجهة ظاهرة التصحر التي تُعد عائقاً حقيقياً في طريق التنمية المستدامة، وللأسف فإن من يدفعون ثمن هذه الظاهرة هم الشعوب الأكثر فقراً وتخلفاً، لا سيما النساء والأطفال. تقولين إنك حزينة لما يجري في سوريا.. من المسئول برأيك عما جري في هذا البلد وفي ليبيا والعراق؟ - لست قاضية ولا مخولة لإصدار أحكام لأقول من ارتكب الأخطاء الأسوأ، لكن يرعبني ما يحدث من قتل وتشريد، وكل ما أعرفه هو أن علي الجميع، سواء منظمات متطرفة أو دول متورطة في الصراع، أن يتحلي بالحكمة والشجاعة وحسن التصرف لوقف العنف والحفاظ علي حقوق الإنسان.. أعيش علي أمل أن يستيقظ العالم ويتحد لوقف هذا الخراب وأن يكون هناك احترام للآخر والقبول بالاختلاف معه. حينما كنت رئيسة للجمهورية شاهدنا رئيستين لوزراء فنلندا وعدداً غير قليل من السيدات كوزيرات وسفراء.. هل أنت متعصبة للنساء؟ - (ضاحكة): بالطبع لا ولكن المساواة بين الجنسين هدف قائم بذاته ضمن أهداف التنمية العالمية في الألفية الثالثة، وهي حق أصيل من حقوق الإنسان، ولكن يجب النظر إليها في سياق أوسع من المساواة للوصول إلي التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والنفع في هذه الحالة لا يعود علي المرأة وأسرتها فقط بل علي المجتمع والأمة بأسرها. المساواة بين الجنسين كانت مبدأ استرشادياً في اتفاقية المناخ التي وُقعت في باريس أواخر 2015، فالنجاح في تطبيق هذه المساواة له أثر إيجابي علي المناخ، لأن المرأة هي الصانع الأول لقرارات الاستهلاك المنزلي، فعلي الصعيد العالمي تنتج المرأة معظم الأغذية، وفي أفريقيا تحديداً تنتج 80% من الأغذية الثابتة، وفي الدول المتقدمة تصنع 80% من القرارات الشرائية للأسر. نظام التعليم في فنلندا واحد من أفضل الأنظمة التعليمية في العالم.. كيف لمصر أن تستفيد من تجربتكم؟ - لم نكن يوماً بلداً غنياً، لكن كان شعبنا هو المورد الأساسي للثروة.. لا أزعم بأننا خارقو الذكاء، لكن كانت لنا تجارب مثمرة في التبادل المعرفي مع دول متقدمة ثم نقلنا تلك الخبرات لدول عربية مثل الإمارات، ويمكن لمصر أن تستفيد من نفس التجربة ولا يكلف ذلك الكثير من المال.. يجب أن تؤسسوا الأطفال معرفياً بشكل جيد حتي لا يعانوا في الكبر، وعليكم أن تزرعوا الفضول وحب المعرفة لدي طلاب الجامعة كي يواصلوا البحث والتعلم، لا أقول أن يظلوا في الدراسة إلي ما لا نهاية، لكن عليهم القراءة باستمرار واستكشاف كل ما هو جديد لأن ما سيتعلمونه في الجامعة سيصبح شيئاً من الماضي بمجرد تخرجهم، نظراً للتطور المعرفي والتكنولجي الهائل الذي يعيشه العالم. أتمني أن الطلبة الذين شاهدتهم في جامعة القاهرة يستطيعون تحقيق تلك المعادلة وأتمني أن أعيش خمسين عاماً أخري كي أري ذلك بعيني. محاضرتك في جامعة القاهرة كانت عن التنمية المستدامة.. ما أقصر الطرق لتحقيق ذلك؟ - هناك ثلاثة أشياء مهمة للغاية.. التعليم ثم التعليم ثم التعليم.