ربما لم تتغير حياة كما تغيرت حياة الصبي أنس بن مالك، أحد أبناء يثرب، الذين تلقوا نبأ وصول محمد بن عبد الله القرشي، صاحب الدعوة الجديدة، بترقب، لكن أمه رأت صدق دعوة محمد فدخلت الإسلام سريعاً، فكانت لحظة تحول في حياة أنس، فأمه اصطحبته إلي الرسول صلي الله عليه وسلم، لتهبه لخدمة النبي قائلة له: "يا رسول الله إنه لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفتك بتحفة، وإني لا أقدر علي ما أتحفك به إلا ابني هذا، فخذه فليخدمك ما بدا لك"، فقبله الرسول بين عينيه ودعا له قائلاً: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له، وأدخله الجنة". هكذا كان أنس عطية المحبة، محبة أمه لرسول الإسلام، وتعلق الفتي سريعاً بالنبي وكانت المحبة عنوان العلاقة بينهما، الفتي يتبع الرجل العظيم وهو يغير الأرض والأفكار، ويؤسس لمجتمع جديد، ويدعو لدين الرحمن الواحد القهار، لا تزلزله الأحداث ولا تغيره التقلبات، لاحظ الفتي أنس فضائل الرسول الكريم، فقال "خدمت رسول الله عشر سنين، فما ضربني ضربة، ولا سبني سبة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي"، وقال أيضاً: "خدمت النبي صلي الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته. تكشف لنا سيرة الرسول مع الفتي أنس، عن جوانب تربوية عظيمة الأهمية، في تعامل الكبير مع الصغير، سياسة شعارها الرحمة، ورعاية الضعيف حتي يقوي، يقص علينا أنس كيف خرج يوماً وهو صغير السن في حاجة لرسول الله، وأثناء ذهابه وجد صبياناً كانوا يلعبون في السوق فانضم لهم ليلعب معهم ولم يذهب إلي قضاء ما أمره به رسول الله، ويتابع أنس روايته قائلاً: "فلما صرت إليهم شعرت بإنسان يقف خلفي، ويأخذ بثوبي، فالتفت فإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم يبتسم، ويقول: يا أنيس - استخدم الرسول تصغير الاسم للتدليل علي عادة العرب وليطمئن قلب أنس أنه لن يعقابه- أذهبت إلي حيث أمرتك؟ فارتبكت وقلت: نعم إني ذاهب الآن يا رسول الله". لم تقتصر علاقة أنس بالرسول علي خدمته فقط، بل إنه استغل مهارته في الكتابة والقراءة، في أن يتحول إلي أحد كتاب النبي، فكان يكتب عنه مراسلاته، فضلاً عن كتابة الوحي عندما يتنزل أمين الوحي جبريل عليه السلام حاملاً آيات الذكر الحكيم من رب العرش العظيم، كما أن قرب أنس من الرسول مكنه من أن يكون أحد كبار رواة الحديث عن النبي، ففي كتب الحديث نحو 2200 حديث مروية عن طريق أنس، انتقلت إلينا عن طريق ما يزيد علي مائتين وخمسة وثمانين من الصحابة والتابعين، الذين وثقوا في حفظ أنس وروايته لما تميز بملازمة الرسول صلي الله عليه وسلم. مات أنس بن مالك سنة 91ه/710م، بعد أن عمّر طويلاً، فهو آخر صحابة رسول الله وفاة، وهو يرجو من الله أن يجمعه يوم القيامة بالرسول ليقول له: "يا رسول الله هذا خويدمك أنيس".