الزمن نديمه.. الزمن غريمه.. هاجسه.. أتقن ملاحقته.. ترويضه.. استرجاعه، تدوينه فهو المطارد من قبل هذا القاتل الصامت، تلك الآلة الجهنمية، الزمن، التي تقوض، تسحق وتدك كل شيء، الأحباء، الذكريات، الأشخاص والأمكنة، وكان لجمال الغيطاني ما حلم به فلقد ظل وراء الأمس المدبر يسعي، ينازل الفقدان فعبر إلي الجانب الآخر من الحياة منتصرا، فالغيطاني لن يموت، فالكلمة لا تموت ولا تعرف الفناء أبدا، فبرع في اقتناص لحظات مصطفاة ليثبتها وينجح في الإمساك بها من خلال مشروعه الإبداعي الشاهق، هو القرين المصري للأديب الفرنسي مارسيل بورست فكان بحثهما عن «الزمن المفقود» فكانت السفرة الوجودية أقرب إلي اقتفاء أثر الماضي، أثر اللحظة اللاهثة، العابرة إلي العدم، فكان السعي إلي تحنيطها، اكتنازها، وكلمة السر في حياة الغيطاني هي العبور.. العبور من الصحافة إلي الأدب والعكس من الباطن إلي الظاهر من الهزيمة إلي النصر من تجليات الروح إلي شهوة الحواس من المحسوس إلي الخفي، من الغامض إلي الجلي، من تلاصق الأزمنة إلي تلاصق الأمكنة، من البداية إلي النهاية التي تهيأ لها منذ سنوات، جمال الغيطاني أشرقت النهاية وكان العبور إلي الخلود. عرفته منذ ربع قرن فبدا لي أنه يبلغ من العمر 7 آلاف عام وليس شابا عمره ألف عام كما عنون «كتابه الأول» فهو يحمل في غياهبه الجينات النفيسة للفراعنة هو مثلهم إلي البقاء يسعي وغواية تحنيط الزمن تتملكه، يقاوم النسيان وهو آفة حارتنا كما ذكر نجيب محفوظ، وعندما تجالسه لا تشعر معه بكلية الحضور فهو أقرب إلي الحاضر الغائب، تارة الحالم وتارة المنتبه، المتطلع إلي الغد والغارق في الحنين المحموم إلي الأمس المارق والذي صمم هو أن يعيده بقوة القلم، من مطلق سلطاته الأدبية، تتأمله فتجد أنه في ذات اللحظة يتحول من الخفة إلي الثقل، خفة المحلق إلي الأعلي، المتصوف، وثقل المكبل بعبء الوجود المؤطر، المشدود إلي الواقع الموجع، المتربص بكل متطلباته، كنت تشعر في حضرته بالبهجة والأسي في آن، بهجة الإبداع بكل ألوانه ونضارته المتجددة، الفن التشكيلي وهو المولع به يرصع كل أعداد أخبار الأدب، الموسيقي المحلقة المتلاحمة مع رحيق الهواء والنسيم، بهجة التحول في لحظات بين الشرق وتراثه، فالغرب وخاصة فرنسا بوتقة التنوير وتلك السماء المنجومة بأكسير الثقافة، أما الأسي فكان لتجاور الحياة والموت في آن واحد لدي الغيطاني فهو دائم الشعور بدنو الأجل وأنه لاوقت لديه لإنعاش الأمس وتدوين ما كان ومالم يكن! فلقد ولد ليحكي، ليكتب، ليدون ليجعل الأمكنة تتحدث، تبوح، تفصح، تشي بالمكنون، بالأزمنة لتعود، لتستيقظ وتنتعش فتُبعث، فلقد أعاد الغيطاني ابن إياس للقرن العشرين فكانت روايته «الزيني بركات» وهي مغايرة لطبيعة إبداعه فهو يجنح إلي تعشيقة الفسيفساء في أعماله، أشبه إلي الموزاييك، فهي تفاصيل دقيقة ومنمنمات غارقة في الرهافة يهبها بعضا من روحه وليت شخصيات أو كاراكتير كما هو الحال بالنسبة لنجيب محفوظ، فيكتور هوجو ودستويفسكي، فإذا كانت «البحث عن الزمن المفقود» لبرست جدارية شاهقة تحاكي كاتدرائية تخلد تفاصيل طبقة ما في زمان ما ومكان، فإبداعات الغيطاني تلتقط ما يظنه الشخص العادي أنه غير مؤثر، غير موح، عابر إلي زوال، جمال الغيطاني بمنتهي النعومة والعمق يجمله، يعمقه ويخلده ليضاهي روعة الأرابيسك لكنه بالحرف والكلمة، فهو يتوغل في باطن الأشياء، يلملم أشلاء الزمان والمكان، يفتش عن خبيئة الظاهر، المتاح ليداهمك الشجن غير المحتمل فتترنم بما سطره نجيب محفوظ: «آه لو أن الرجوع للزمان ممكن مثل الرجوع إلي المكان». أما قرينه بالظل واللون والروح والتيه في غموض الوجود، وهذا الكون الفسيح هو الفنان التشكيلي هوبر فكان أديبنا يعشقه فهو التوأم الروحي له فما رسمه هوبر بالريشة واللون والصمت، عبر عنه الغيطاني بالكلمة، الحركة، الحدث، ليتفق الاثنان دون سابق معرفة أو موعد علي إشراقات البداية والنهاية، وعن لوحة «في الشمس» لهوبر حيث يتجاور مجموعة من البشر يتطلعون إلي الشمس، الضوء المستطير، السماء أكبر نافذة في الكون، هم ملتصقون ولكن كل أسير دنياه في حالة عزلة، غربة واغتراب، هم في حالة انتظار المجهول ربما، المصير، ويتساءل الغيطاني في «نوافذ النوافذ»: «إنهم متلاصقون يتجاورون في خلاء مطلق فهل تلك جيرة العدم»؟ ولكن أديبنا لن ينال منه العدم وهنا أسترجع كلمات سيمون دي بوفوار: «أعتقد أن الأدب سيحقق لي تلك الأمنية سيضمن لي الخلود سيعوض الأبدية الضائعة، سأشعل ملايين الأفئدة حين أكتب عملا يتغذي علي حكايتي، سأخلق ذاتي من جديد وأبرر وجودي وفي ذات الوقت سوف أخدم الإنسانية وهل هناك أثمن من الكتب أهديها إياها؟ سأهتم بنفسي وبالآخرين» ويقول إمبرتو إيكو: «لأشاغب الموت وأنجب أطفالا في هذا العالم.. للاستمرار في هذا العالم الرهيب يجب أن تنجح في شيئين علي الأقل أن تكتب كتابا أو تنجب طفلا»، أذكر عندما جاء باولو كويلهو إلي مصر وحضر إلي أخبار الأدب، دعاني الأستاذ جمال وأنا في آخر ساعة وكنت أتعاون مع جمال الغيطاني في الأدب، وأذكر أوان اللقاء بكويلهو كان العصر أوان الهدنة النهارية عندما تجنح الشمس إلي الهلاك أو المغيب وهي لحظات مفضلة لدي أديب التجليات جلسنا جميعا علي الطاولة في الدور 9 بدت لي اللحظات مسحورة بلون الورد حين تلفظ شمس المغيب سكراتها الوردية فتتضرج السماء متجملة بهذا النزيف الوردي البديع المجدل بكلمات كويلهو عن تأثره الدافق بألف ليلة وليلة وأيضا أعمال هنري ميلر وأن أروع ماسطره «فيرونيكا تقرر أن تموت» هي أقرب إلي سيرته الذاتية، هذا المساء لن أنساه ماحييت. ذات يوم كان الغيطاني يحضر لعدد خاص عن (السرير) وطلب مني آنذاك مقالا وكان العدد شديد التميز ورسالة بديعة فالموضوع شائك ولكن الممتع كيف تتناوله بدون أي ابتذال فكان يضاهي السيمفونية المحلقة، الراقية، كان الغيطاني مولعا بصوت ليلي مراد يتحلي برنين كريستال بوهيمي يستدعي أزمنة كانت مصر فيها تتربع علي عرش الوجود، تصدر الألق إلي العالم بأسره، مولعا أيضا بالجنوب حيث الجذور.. وادي الملوك تعانق الموت مع الحياة الأبدية مولع هو أيضاً بعالم القطارات حيث الوصول والرحيل والانتظار بينهما عالم خلده بريشة ديلفو جمال الغيطاني ابتعد إلا قليلا.. ابتعد ربما ليقترب أكثر.. ابتعد ليعلو.. ليدنو.. ابتعد ليعبر عبور الخالدين.