حتي صناعة الدواء لم تنُج من أعمال الاحتكار والاستحواذ القذرة، التي باتت تُهيمن علي كافة قطاعات الصناعة والتجارة في مصر، فالعديد من شركات تصنيع الدواء الأجنبية أصبحت تستحوذ فعلياً علي نسبة تفوق ال60% من القيمة السوقية للدواء المصري، وهي نسبة قابلة للزيادة خلال الأعوام المقبلة، الأمر الذي يُثير المخاوف علي مستقبل صناعة الدواء الوطنية، نتيجة عدم قدرتها علي دخول منافسة طويلة الأمد في مواجهة الأجنبية، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال علي المواطن الذي لا يجد بديلاً للدواء المصري سوي نظيره الأجنبي، الذي يفوق سعره بعدة أضعاف. صناعة الدواء في العديد من دول العالم، ومن بينها بلدان الاتحاد الأوروبي، تُعد من الصناعات السيادية، وتخضع لقوانين صارمة، ولا يسمح بإقامة أي مصنع للدواء إلا بعد أن يمتلك شريكا يحمل جنسية البلد المنتج للدواء نسبة تجعله مُسيطراً علي أسهم ملكية المصنع، وتقدر ب51% علي الأقل. السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو "لماذا يتم تجاهل تطبيق هذا المعيار في مصر؟، ولماذا تترك الساحة خالية للشركات الأجنبية لتهيمن بلا منافس علي صناعة الدواء في مصر؟". الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية، أكد أن صناعة الدواء بمثابة أمن قومي ففي العالم أجمع تأتي صناعة الدواء في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد صناعة السلاح، مشيراَ الي أن حجم المبيعات في السوق المصري يصل إلي 30 مليار جنيه، لكن تبلغ نسبة تحكم الشركات الأجنبية به نحو 60% من قيمته السوقية، رغم وجود صناعة وطنية مصرية تتمثل في 140 مصنعا دوائيا مرخصا، و1200 شركة مصنعة لدي الغير، التي تعرف باسم "تول"، وأرجع أسباب ذلك إلي وضع سياسة دوائية تتنافي مع مصلحة البلاد، التي يندرج تحتها القرار 425 الخاص بتسجيل الدواء، والذي أُقر رغم قيامهم بالطعن عليه، نظراَ لأنه لا يخدم إلا الكيانات الأجنبية والشركات الكبري فقط. عوف، أكد أن هناك مُخططا غير معلن يستهدف إغلاق110مصانع دواء، عن طريق وضع قوانين تجعلها تتعثر لتغلق أبوابها، فأي مصنع دواء جديد تكاليف إنشائه لا تقل عن 170 مليون جنيه, ومع آليات التسجيل التي يتم اتباعها لدي وزارة الصحة من المفترض أن ينتظر المصنع اكتمال ملف الدواء المستهدف إنتاجه لديه لمدة 5 سنوات، قبل أن يحصل علي إخطار بالموافقة عليه من جانب وزارة الصحة, وفي خلال هذه الفترة تقوم الشركات المصنعة لدي الغير أو شركات "تول"، وهي شركات لا تمتلك مصنعا، لكن تمتلك تراخيص إنتاج ملفات دوائية، بعمل طلبيات تصنيع دوائي لدي المصانع الجديدة التي تمتلك طاقة إنتاجية تغطي طلبيات هذه الشركات، وهو ما كان يساهم في إيجاد موارد مالية تستطيع هذه المصانع من خلالها دفع التزاماتها تجاه العاملين، والاستمرار في الإنتاج، حتي صدور إخطارات بالموافقة علي الملف الدوائي، مضيفاً أنه بعد إقرار القانون الجديد تفاجأت هذه المصانع بقرارات تصدر من إدارة الصيدلة بوقف التعامل مع شركات "تول"، التي تدعم المصانع الجديدة، وهو ما يعني وقف 110 مصانع تعتمد عليها في الإنتاج والتصنيع، مؤكداً أن هذا القرار يأتي في إطار الشروط التعجيزية التي تستنزف موارد هذه المصانع لتصبح الشركات متعددة الجنسيات هي القادرة وحدها فقط علي الإكمال في ظل هذا المناخ. أضاف، أن لدينا منظومة خاطئة في تسعير الدواء المصري، فصناعة الدواء بمصر تُعد أحد الصناعات القديمة - من سنة 1930- ، لذا فمن غير المعقول أن نضع نظاما للتسعير يضع لمنتجات الشركات الأجنبية قيمة سعرية تصل إلي 100 جنيه للمنتج الدوائي، بينما يظل سعر المنتج المصري المماثل يتراوح بين 5 إلي 10 جنيهات فقط. من جانبه، قال محمد سرحان، نقيب صيادلة المنيا، إن ظاهرة استحواذ وسيطرة شركات الدواء الأجنبية علي سوق الدواء المصري تحولت إلي واقع ملموس في السنوات الأخيرة، فرغم أن سعر المنتج المصري يساوي تقريباَ ثُلث المنتج الأجنبي، إلا أن هناك صعوبة في قدرته علي منافسة المنتجات الأجنبية، فشركات الأدوية الوطنية، إذا ما أرادت دخول دائرة المنافسة المطلوب منها توفير المادة الخام، التي يتم جلبها من الخارج، نظراً لعدم وجود أي مصانع لصناعة المواد الخام داخل مصر، ويضاف إلي ذلك أن سعر الدواء لم يتم تحريكه في السوق المصري، مُنذ أكثر من 10 سنوات رغم أنه يتكبد خسائر نتيجة ثبات الأسعار، ومن ثم نجد أنه يتم وقف تصنيع خطوط الدواء لصالح مثيله الأجنبي، نتيجة عدم قدرته علي تغطية تكاليف تصنيعه، وحتي إذا ما نظرنا إلي الأطباء نجد أن بعضهم بدأ في إسقاط الدواء المصري من روشتاتهم العلاجية، وبدأوا في كتابة اسم المثيل الأجنبي، خاصة مع اختفاء عدة أصناف دوائية محلية من السوق. سرحان، أوضح أن هناك ما يقرب من 20 شركة دواء أجنبية من الشركات مُتعددة الجنسيات داخل مصر باتت تسيطر علي نسبة ضخمة للغاية من سوق الدواء المصري، فالشركات الأجنبية تتبع استراتيجية مُحددة تتمثل في بدء تمهيد دخولها السوق الدوائي المصري بأربعة أصناف دوائية فقط, وبعد عامين نجد أنها وصلت ما يقرب من 50 صنفا دوائياً تتواجد بها داخل السوق، وبهذه الطريقة تستطيع النفاذ إلي المستهلك لتصبح جميع أصناف الدواء متاحة أمامها. وطالب سرحان، بإعادة هيكلة شركات قطاع الاعمال في مجالي الأدوية بطريقة متكاملة عبر إنشاء هيئة عليا للدواء، يتولي أمرها صيادلة مختصون من القائمين بالفعل علي صناعة الدواء المصري, ويكون ذلك بالتوازي مع إعادة تسعير الدواء لجميع منتجات شركات القطاع العام نظراَ لأن 70% منها بحاجة لرفع ثمنها الذي يقل عن 10 جنيهات، جنباَ إلي بجنب مع إدخال طرق تصنيع جديدة في تلك المصانع، رغم أن هذا الأمر قد يواجه بعض الصعوبات في بدايته. الدكتور أحمد فخري، عضو نقابة صيادلة شمال مصر، أشار إلي أن سيطرة واستحواذ شركات الدواء الأجنبية علي السوق الدوائي المصري، بدأت منذ حوالي 25 عاماَ، حيث كان هناك أسلوب شبه منظم لتدمير الصناعة الوطنية، فكان يتم فتح الباب لعرض مصانع القطاع العام للبيع، ومن ثم فإن شركات الدواء الأجنبية بما تملكه من مبالغ ضخمة بدأت في شراء هذه المصانع والسيطرة عليها، بعد ذلك بدأت سياسة الدعاية الدوائية في مصر بالتغيير، وبدأ الأمر يتحول إلي ما يشبه التجارة الدوائية، الذي يعتمد كذلك في التسويق علي العلاقات المباشرة مع الأطباء، بخلاف أن الشركات متعددة الجنسيات تعتمد أسلوب دعاية متميزا لتسويق منتجاتها عبر الاستعانة بأفضل فريق دعائي بالسوق، ما يتماشي بما تقوم به هذه الشركات بأسلوب إدارة أكثر تميزاَ، لذلك نجدهم يقومون بعمل دراسات قوية لاحتياجات القطاع الدوائي في البلاد، وبناء عليه يتم اختيار الأصناف الدوائية الأكثر فاعلية، مما يساعدهم علي الاستحواذ علي نسبة كبيرة من السوق. فخري، أشار إلي أن الشركات الأجنبية تعتمد علي عدة وسائل في النفاذ إلي السوق المصري، وهي في ذلك الأمر تنقسم إلي نوعين، الأول يعتمد علي توريد الأدوية بطريقة مباشرة من الخارج بحيث تكون مصنعة بطريقة كاملة، ومعبأة، وجاهزة للاستخدام، والآخر يكون له فروع، ومصانع داخل البلاد، ولكن العائد المالي له يذهب إلي الشركات الأم، وقال "إذا ما نظرنا إلي ترتيب أعلي 10 شركات منتجة للدواء في مصر سنجد أن بينها 6 شركات أجنبية لها خطوط إنتاج ومصانع داخل البلاد. أضاف، أن أصناف القطاع العام تنتهي سريعاَ مع الوقت في تداولها بالسوق، فعندما بدأت العمل داخل القطاع الصيدلي كان الطلب علي أصناف أدوية القطاع العام أعلي من النسبة الموجودة حالياَ، حيث كانت الشركات تتهافت عليها لتلبية قائمة الأصناف التي تحتاجها، وتشمل حوالي 40 صنفا دوائياً في الطلبية الواحدة، أما حالياَ فالطلب لا يتعدي ال5 أصناف، وغالباَ تكون من أدوية "الربط" التي يقوم المريض بصرفها دون الحاجة إلي روشتة طبيب. من جانبه، قال أسامة رستم، نائب رئيس غرف صناعة الأدوية، إن مصطلح الشركات الأجنبية يشمل الشركات التي تعمل ولها مصانع بالفعل في مصر، وهذه الشركات معظم العاملين فيها مصريون، ونسبة الأجانب العاملين بها محدودة، مشيراَ إلي أن هذه النسبة من الاستحواذ علي القيمة لا تشمل الدواء المستورد من الخارج، لكنها تشمل نسبة الاستحواذ الخاصة بالشركات العالمية، فمن الطبيعي للشركات صاحبة حق اكتشاف الدواء أن يكون لها نسبة استحواذ كبيرة في الأسواق، بينما تقوم الشركات المصرية في المقابل بإنتاج أدوية مثيلة للمستوردة، وبهذه الطريقة يتم تغطية 90% علي الأقل من استهلاك الدواء في مصر. رستم، أشار إلي أن ما يشاع عن وجود خطط لتصفية مصانع الدواء المحلية، يتم تداوله نتيجة الصعوبات التي تواجهها صناعة الدواء المصرية والأجنبية علي حد سواء، وتتعلق بتسجيل الدواء، وسياسة التسعيرة الجبرية، فضلاَ عن سياسة صناديق المثائل التي قد تعوق الشركات الحديثة في تسجيل وتسويق أدويتها، لافتاَ إلي أن صناعة الدواء في مصر تعد صناعة قوية تغطي غالبية الاستهلاك المحلي، لذا يجب علي الدولة بجميع أجهزتها مناقشة جميع المعوقات أمام هذه الصناعة لوضع حلول تكفل ازدهارها.