ليلة من ألف ليلة التي أهداها الفخراني لروح نور الشريف تعيد الاعتبار ليس فقط للمسرح القومي العريق بعد الحريق الكبير، لكنها أيضا تفتح ملف المسرح الغنائي والاستعراضي، الذي اختفي وتلاشي، رغم البدايات القوية التي تعود لثلاثينيات القرن الماضي، مستوي النص الذي كتبه بيرم التونسي، والألحان التي أبدعها أحمد صدقي منذ نحو تسعين عاما، تطرح سؤالا مهما، لماذا تراجع الاهتمام بهذا القالب الفني المهم، ولماذا فشلت فرقة المسرح الغنائي الاستعراضي التي يعود تاريخها لحقبة الستينيات في البناء علي البدايات المهمة، وجمع التراث الهائل نصا وتلحينا، الذي تم تبديده للأسف بسبب الإهمال، معظم عروض حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي، كانت تعتمد علي الأوبريتات، أو العروض التي تجمع بين الموسيقي والغناء والتمثيل، عشرات المواهب ساهمت في صناعة هذا الفن ، وللأسف لايوجد توثيق دقيق لعدد هذه الأعمال. عشرات الألحان والنصوص قدمها رواد هذا الفن، أمثال سلامة حجازي وصفر علي وداود حسني، بديع خيري كتب لفرقة علي الكسار فقط 50 أوبريتا غنائيا، كانت الفرق المسرحية في هذا الوقت تقدم لجمهورها كل ثلاثة أسابيع عرضا جديدا، إلي جانب أوبريتات سيد درويش، التي تعتبر الأفضل في تراثنا المسرحي ، والتي فتحت أمام فناني هذا العصر مجالات أوسع لتوظيف الموسيقي والغناء داخل العروض المسرحية، ومنها مسرحية ليلة من ألف ليلة، التي استلهم بيرم التونسي أحداثها من القصص التي تناولت عصور الخلافة عندما كانت في بغداد، هذه الحكايات كانت أحد المصادر التي شكلت خيال ووعي الزجال وشاعر العامية العبقري بيرم التونسي، في سنوات مبكرة من حياته، وعندما قرر تثقيف نفسه وقراءة كل ما يقع تحت يده، وبالصدفة كانت ألف ليلة بحكاياتها وما ترويه من قصص خيالية وشخصيات متشعبة ومتنوعة، من الأعمال التي فتحت أمام بيرم مساحات كبيرة من الوعي الفني والثقافي، وعندما تمكن من أدواته الفنية كتب لسيد درويش أوبريتا بعنوان شهرذاد، ثم كتب ليلة من ألف ليلة، ليضع ألحانها أحمد صدقي، أحد الرواد الكبار، الذين استفادوا من التطور المهم الذي قدمه سيد درويش للموسيقي والأغنية، عندما نقلها من مرحلة التطريب، إلي الموسيقي المسرحية الدرامية ، وهذه أبرز مميزات العرض المسرحي ليلة من ألف ليلة، حيث تعكس الألحان إتقان أحمد صدقي لمفاتيح الموسيقي الشرقية وفهمه لطبيعة ما يجب أن تقدمه الموسيقي الدرامية داخل سياق العرض الفني، الوعي الذي ساعده بعد ذلك علي تقديم أهم وأشهر الصور الغنائية للإذاعة، مثل عوف الأصيل وقطر الندي، بالإضافة لأوبريتات أخري لم تحظي بشهرة توازي ليلة من ألف ليلة، التي تقدم للمرة الرابعة علي خشبة المسرح المصري، كانت المرة الأولي عام 1931 وشارك في بطولتها عدة نجوم منهم كارم محمود وشهر ذاد. يحي الفخراني في هذا العرض لايقدم مستوي أداء يتقارب مع ما قدمه في الملك لير، في الحالتين يصنع حالة فنية مبهرة، وإن كانت شخصية الملك لير التي كتبها وليم شيكسبير بأبعادها المأساوية، وما تضم من انقلابات وتحولات في المشاعر والعواطف وما تحتاجه من تعبيرات لفظية وحركية، شخصية تحتاج لجهد هائل في المعايشة وترجمة الانفعالات الحادة والمتضاربة في أداء لفظي وحركي، بينما شخصية شحاتة في ليلة من ألف ليلة، تبدو في بنائها الدرامي وأبعادها النفسية، أبسط وأوضح كثيرا من الملك لير، وكما قال الفخراني فإنه يقدم هذه الشخصية للوصول لحالة من السعادة علي المستوي الشخصي، سعادته وحبه للشخصية انعكس علي العرض بالكامل، ليصنع حالة من البهجة والغربة في الوقت نفسه، البهجة بما يقدمه العرض بعناصره المتكاملة، والغربة من الأحداث، التي تبدو بعيدة عن الواقع الذي يعيشه المتلقي، الشخصية بقدر بساطتها، تحتاج لممثل كبير، يستطيع إيهام مشاهديه بخيال حواديت ألف ليلة، ويتكامل مع بقية عناصر العرض ، غناء وتمثيلا وأداء حركيا، ويتيح الفرصة في الوقت نفسه للأداء الغنائي والموسيقي الرائع الذي يتخلل البناء الفني للمسرحية، وبالذات في المشاهد التي تجمع محمد محسن الخليفة وهبة مجدي ابنة المتسول، قدما الغناء الدرامي بمستوي متميز، ومعهما مجموعة كبيرة من النجوم، صنعوا صورة مسرحية جميلة، وأعادوا اكتشاف أحد كنوز تراثنا المسرحي المهمة، قد يبدو الأداء التمثيلي للبعض أقل مما يريد المشاهد ، لكن القيمة في مثل هذه الأعمال للأداء الغنائي الذي يتوافق مع الدراما، ويجعل الأصوات الجميلة قادرة علي التعبير بالغناء والإحساس والمعايشة، أكثر من التعبير بالأداء التمثيلي، وإحدي المفاجآت الجميلة التي يقدمها العرض، أداء يحي الفخراني، سواء في المشاهد التمثيلية، أو الأداء الغنائي، الذي لا يصنع تطريبا، لكنه ينقل إحساسا ومشاعر داخل قالب موسيقي جميل. النص الذي كتبه بيرم التونسي يعتمد علي حبكة درامية بسيطة، وشخصيات ذات ملامح محددة، وحوار ومواقف درامية دون رموز فنية أو إسقاطات سياسية ، كان بيرم فيما يبدو يريد أن يقدم عرضا لمتعة مشاهديه دون الإسقاطات والرموز السياسية التي اشتهر بها، والتي كانت وراء سنوات عذابه وغربته ونفيه بعيدا عن الوطن الشخصية الرئيسية لمتسول يتحايل من أجل قوت يومه، وعلي الطرف الآخر من الصراع الدرامي، قاطع طريق، بينما يضم مستوي مواز للحدث الدرامي شخصية ابنة الشحاذ، التي لاتعرف أن عشيقها هو الأمير وخليفة البلاد الجديد، ويلجأ بيرم للحيل الدرامية التي كانت معروفة في مسرحيات العصور الوسطي، عندما يتم التعرف والاكتشاف من خلال علامة في الجسد، أو قطعة أكسسوار قديمة، تؤدي لتطور الأحداث الدرامية ونهايتها، حيث يتزوج الخليفة بابنة المتسول، الذي يسافر في رحلة للأراضي المقدسة للتكفير عن ذنوبه. النص رغم بساطته، لكنه ينطوي علي قيمة فنية مهمة، اللغة التي صاغها بيرم، والتي تصنع إيقاعا، يتكامل مع البناء الموسيقي، ليصنعا تحفة تراثية، تنقل من يشاهدها إلي مساحة من الخيال والتأمل والدهشة، التي مازالت تثيرها حكايات ومواقف ألف ليلة.. المخرج محسن حلمي وظف أدواته الفنية لتأكيد بساطة النص، وتعميق قدرة المشاهد علي توظيف خياله، وتأكيد ثراء وإبهار التراث الفني، لم يلجأ للمبالغة في استخدام العناصر الفنية، حركات الإضاءة بكثافتها وألوانها للإنارة، باستثناء بعض المناطق المحدودة التي يفرضها الموقف وتحتاج لإضاءة خاصة، التكوينات الجمالية والحركية محسوبة بدقة، بحيث تكون لها وظيفة درامية وليست مجرد إبهار شكلي، وتكامل معه المنظر المسرحي لمحمدالغرباوي، الذي لجأ لاستخدام خامات وألوان تعكس الثراء والإبهار، وحلول فنية لتغيير المناظر المسرحية خلال فترات زمنية سريعة، وتؤدي في الوقت ذاته وظيفتها الفنية والجمالية، مع الملابس بألوانها البراقة التي تصنع مع الديكور ما يشبه اللوحه الخيالية، التي تضاعف من المسافة التي تفصل بين الواقع، والخيال الذي يدور علي خشبة المسرح، ويصنع صورة مبهرة، تبدأ من كلمات بيرم، التي تتكامل فيها الأغنية مع المشهد الدرامي، والألحان الشرقية بتوزيع جديد لم يؤثر علي جمالها وحيويتها، وأداء مجموعة من الموهوبين في الغناء والتمثيل، كلهم صنعوا ليلة جميلة من ألف ليلة وليلة.