أجبرت الشمس الحارقة الابتسامة علي الرحيل من وجوه الجنوبيين، ، نحتت علي ملامحهم الصخرية «تكشيرة» تناسب أيامهم المملوءة بالكد والجهد؛ الخالية غالباً من الترف.. منحت قلوبهم قسوة يواجهون بها حياة شاقة وعادات صلبة. بتقطيبتهم المعروفة يمارس الصعايدة طقوسهم اليومية.. بنظرة جادة، وعبارات حادة يتحاورون في أمورهم، يحاذر كل منهم الوقوع في فخ «الضحك» وسط مجتمع يقلل من شأن من يضحكون. ظن الجنوبيون أن التكشيرة علامة من علامات التوقير، فانتشرت بينهم، وقدموها عربون احترام لكل من يلتقون به، ووضعوا من يميلون إلي «الفرفشة» والضحك في موضع توجه إليه سهام النقد من كل اتجاه. الخوف من التعنيف جعل الصغار يبذلون المشقة في سبيل الوصول إلي تكشيرة ترضي الكبار، وتجعلهم يثقون في مستقبل أفضل لأطفال بإمكانهم تحمل المسئوليات في المستقبل. باتت التكشيرة شعارا جنوبيا يرفعه الصعايدة في وجوه الأقارب، ويتسلحون بها في أعمالهم لتنتزع الثقة ممن يتعاملون معهم. لكن الحظر علي الابتسامة وجد من يخرقه من خلال تجمعات للشبان بعيدة عن أعين الكبار، يتذكرون فيها مواقف تحيلهم إلي الانبساط، وتجعلهم يحكون عن نوادر ويصنعون من القفشات ما يفجر الضحكات. أهتم الصعايدة بالحزن، شيدوا له من قوت عيالهم الدواوين والمنادر والخيام، واشتروا من أجله ثيابا غالية يلبسونها كلما أتي وهم يستقبلون ضيوفهم ، بينما نظمت له النساء بيوتا من الشعر يحفظونها عن ظهر قلب ويتغنون بها في مآتمهم. حتي أعيادهم صارت وسيلة لتذكر الأموات عن طريق الذهاب إلي المقابر فجرا، والعودة منها إلي الدواوين والمنادر للقاء الأقارب وهو ما يعرف بالتوحيش، أي الاشتياق إلي المتوفي حديثا بسرد مآثره وأفضاله علي القرية. للون الأسود سطوته في مصر العليا، تلبسه النساء في مشاويرها، وتنصبه رمزا للعفة في بلاد تصنع معارك طويلة من أجل الشرف والدفاع عن الأخلاق. لا يثق الجنوبي في امرأة لا تجيد الحزن باستطاعتها أن تحمل الهم وتقترح حلولا للفرج. قليلة هي أوقات الفرح عند الجنوبيين، ولذلك فهم يتجمعون للاحتفاء بها بالطبل والمزمار البلدي والربابة والقفز بالعصا وهم يلعبون التحطيب، ويبتسمون في رضا وكأن وجوههم الصافية لا تعرف التجهم. أقدم تكشيرة في التاريخ صاحبها الملك سنوسرت الثالث وسببها كما يقول الدكتور محمد إبراهيم بكر، أن أيامه كانت كلها مشقة وحروبا من أجل الدفاع عن الأرض المصرية علي عكس جميع الملوك التي أظهرت تماثيلهم ابتسامة ممزوجة بالرضا. ويتطرق بكر إلي ميراث فرعوني للحزن في الجنوب تمثل في المقابر، والصور المحفورة والتي ظلت بعيدة عن التشويه ومحتفظة بنقوشها لأن أرض الصعيد بعيدة عن الهجرات التي غزت مصر. ويواصل: إن فن التحنيط وتركيب وجه صناعي للمتوفي والكتابة علي جدران المقبرة والتوابيت وزيارة الميت بالمأكولات والرقص والغناء علي المقبرة .. كل هذه الطقوس كانوا يقومون بها ظنا منهم أن روح الميت تخرج من المقبرة وتصاب بالغم حين يتم نسيانها. ولا ينسي رئيس هيئة الآثار الأسبق الإشارة إلي أن الفراعنة اهتموا بجلب السعادة إلي شعوبهم عن طريق الاحتفال بالأعياد الرسمية الكثيرة مثل أعياد الحصاد ووفاء النيل، حيث كان الملوك يحرصون علي إقامتها في المعابد، وفي مقابل سنوسرت المكشر يذكر بكر الملك توت عنخ آمون الذي وجد في تابوته وحوله الورود التي كانت الفتيات تغرسها في شعورهن. يتهم الدكتور محمد إبراهيم بكر شدة حرارة الشمس بأنها السبب في صياغة التكشيرة علي وجه الشعب الفرعوني لأنها كانت تحاصر الجزء العلوي غير المغطي - من الجسد، في الوقت الذي كان مطلوبا فيه من الفلاح المصري «المنضبط» العمل طيلة النهار. فيما يقول الدكتور رشاد عبداللطيف أستاذ تنظيم المجتمع في جامعة حلوان: إلي جانب الشمس، غلظة الحياة أدت إلي أن تكون التكشيرة نوعا من الرمزية تصاحب الإنسان الصعيدي وليست طبعا فيه، بدليل أن تكشيرة الصعايدة ليست دليلا علي العنف، فهم الفئة الاجتماعية الأقل إقداما علي الجريمة ومعظم جرائمهم مرتبة بالشرف والأخلاقيات. ويشرح: التكشيرة تلازم الجنوبي مثلها مثل هزة الرجل عند البعض، وتعبر علي أن من يحملها جاد في سلوكه، ويحترم من أمامه، وقادر علي تنفيذ القرارات التي يصدرها، ويستطيع تحمل المسئولية. ويوضح: إن شيوع التكشيرة بين الأطفال أقل منها في الكبار، وتتبلور في فترة المراهقة كبرهان علي الالتزام بالعادات والتقاليد. ويتفق معه الدكتور أحمد عبدالله أستاذ الطب النفسي في جامعة الزقازيق في أن التكشيرة في الجنوب ترتبط بفكرة الحرارة والجدية، وأنها دليل علي الرجولة ويحذر من أن الاستمرار في التكشيرة يؤدي إلي القسوة التي تصيب من حوله وخاصة الأطفال الذين يميلون إلي تقليد الكبار في أفعالهم. ويقول إن السلوكيات بينها وبين الجينات تناسب في التغيير في حين ينفي أي علاقة بين القسوة في السلوك والعنف. ويربط الباحث في الفولكلور الجنوبي فتحي عبد السميع بين التكشيرة وثقافة المكان في الصعيد، والذي يصفه بالمتجهم لأنه عبارة عن واد ضيق بين جبلين مؤكدا أن التكشيرة دليل علي الصرامة.