يتميز الشعب المصري بخفة دمه، التي استثمرها في توجيه النقد اللاذع للسلطة الحاكمة علي مر العصور، وكانت السخرية السياسية تتألق في عصور الضعف السياسي أو فترات الاحتلال العسكري، من الابتكارات الفرعونية التي ظلت حية في جيناتنا حتي الآن، فالقدماء هم أول من استخدموا العلاقة الجدلية بين القط والفأر لتخليد الصراع بين الحاكم والمحكومين، فقبل "توم وجيري" بآلاف السنين وجدت قطعة من الفخار ترصد بالرسوم صراعا بين ملك الفئران الذي يركب عجلة حربية تقودها كلبتان ويهجم علي حصن تحرسه القطط، في إشارة إلي قوة الشعب في وجه حاكم مستبد. وتحتل السخرية والتهكم وفن إلقاء النكتة مكانة كبيرة في تراثنا العربي وتتعدد مفرادتها في معاجم وقواميس اللغة، ويقول العلامة شوقي ضيف في كتابه "الفكاهة في مصر" إن "السخرية أرقي أنواع الفكاهة لما تحتاجه من ذكاء وخفاء ومكر، تستخدم للنكاية بالخصوم، فتكون لذعًا خالصًا، وقد تستخدم في رقة، وحيئنذ تكون تهكمًا وذلك لأن اللذع والتهكم لونان من ألوان السخرية"، ورغم براعة المصريين بشهادة الجميع في فن إلقاء النكتة، إلا أنهم تميزوا في فن النكتة السياسية بشكل عده معه النكتة السياسية من ضمن أهم أسلحة المواطن ضد الحكام في مختلف العصور خصوصا في فترات الاحتلال وما أكثرها. ويذكر لنا التاريخ أن المصريين سخروا من بطليموس الثامن وأطلقوا عليه لقب "الفاسكون"، بمعني البدين، لأنه انشغل بملذاته عن أمور الحكم وأفرط في معاشرة النساء والإكثار من الطعام حتي أصيب ببدانة شديدة فاستحق أن يخلد في التاريخ باسم "البدين"، واستمر المصري في سخريته السياسية علي مر العصور فمرة ينتقد الحاكم التركي وعنجهيته و"عنطظة" السلطة قائلا: "إذا كانت المريسة بالقوة كان التور بقي باشا"، في سخرية شديدة من حكم باشوات الأتراك. واضطلع عبد الله النديم بنقل المزاج الساخر للمصريين إلي عالم الصحافة، فكان خطيب الثورة العرابية المفوه، وأطلق قذائفه الساخرة عبر مجلة "التبكيت والتنكيت"، التي صدر العدد الأول منها في يونيو 1881 وتخصصت في نقد الخديو والحاشية، ثم طلائع الاستعمار القادم مع سفن الإنجليز، وهو من فتح الباب للكثير من التجارب الساخرة التي سارت علي نفس الدرب في مثل "البعكوكة" و"اشمعني" و"الكشكول"، وغيرها الكثير من المجلات الساخرة التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين. ومع ثورة الإنترنت وبدايات عصر مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت السخرية السياسية متنفسا لها في فضاء "فيسبوك" و"تويتر"، حتي لو شاب الأمر بعض الخروج عن قواعد الأدب العامة، واستغل الشباب مواقع التواصل الاجتماعي في مهاجمة نظام حسني مبارك الغارق في الفساد، وكانت ثورة "25 يناير" فرصة ذهبية فجرت مواهب الشعب المكبوتة في السخرية السياسية، وهو ما تكرر في ثورة "30 يونيو" التي أطاحت بنظام الإخوان الاستبدادي. تعد تجربة أحمد رجب، الكاتب الصحفي، الأبرز في بلاط صحافة الجلالة في مجال السخرية السياسية، وصاحب أحد أهم الأبواب الثابتة التي أقبل عليها القراء لعقود طويلة، فهو صاحب "نص كلمة"، التي كان القارئ يبدأ قراءة "الأخبار" من صفحتها الثانية من أجل بداية باسمة ليوم طويل من العمل، فرجب تمكن من خلال موهبة استثنائية وتراكم خبرات هائلة من صهر مشاكل الناس بحبر المطابع لينتج بضعة أسطر مكثفة ساخرة لكنها موجعة، قليلة الكلمات لكنها نافذة الأثر، يلتقي به القراء كل صباح باستثناء فترة إجازته الصيفية في أغسطس من كل عام، لتتسع رقعة تأثيره من خلال ريشة صديق عمره مصطفي حسين، وانطلقا معا في الكتابة التي تنتقد أعضاء الحكومات المتعاقبة، بما فيها رأس الحكومة، وكان هذا قمة النقد السياسي الساخر في عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك، ولم يأت الأمر سهلا بل انتزعه رجب انتزعا وفتح الباب لمن بعده لتوجيه النقد علي أداء أعضاء الحكومة. ومع ميلاد ثورة 25 يناير 2011 حظي جلال عامر، الكاتب والساخر الراحل، باهتمام واسع إذ عبر عبر "قصر الكلام" عن هموم المواطنين وفضح ألاعيب السياسة التي كانت تجري بعد الثورة، موجها النقد اللاذع لجميع المقصرين، ما كان يلقي استقبالا حافلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تعيد نشر أقواله من خلال حسابات آلاف المعجبين، يقول عامر في إحدي كتاباته الساخرة: "هل المشكلة في حكامنا فقط أم أنها في "الترزي" وفي "القماشة" أيضاً، فالعيوب مشتركة.. فإذا غيرنا "الترزي" كيف نغير "القماشة"؟ إذن بين الحكام والشعوب عيوب مشتركة". ويهاجم ضعف الحياة السياسية في حكم وإن قيلت في عام 2011 فهي مستمرة معنا، قائلا: "كل علم حقيقي أمامه علم زائف فالكيمياء أمامها السحر، والطب أمامه التعشيب، والفلك أمامه التنجيم، والسياسة أمامها الأحزاب"، ويقول أيضا "غريبة.. عندنا مولود كل خمس وعشرين ثانية وحزب كل خمس ثوانٍ"، ويضيف: "نتصارع علي طريقة أنا أؤمن بالحوار، تناقشني أناقشك، وتجادلني أجادلك، وتحاورني أحاورك، لكن تختلف معي، أذبحك". ويعد باسم يوسف وبرنامجه "البرنامج" ظاهرة استثمرت في فن السخرية السياسية بعد الثورة، ولاقي يوسف تجاوبا من قطاع واسع من الشعب من مختلف الطبقات، خاصة عندما واجه نظام محمد مرسي الإخواني، الذي عمد إلي قمع الشعب باسم الدين، فجاء يوسف وعري مرسي ونظامه من مظاهر السلطة وحولهم جميعا إلي ملهاة يتلهي بها الشعب ويسخر من حماقات نظام تميز ب"ثقل ظله"، قبل أن تأتي ثورة 30 يونيو وتطيح بهذا النظام سريعا. وأجري باسم يوسف لقاء مع قناة "سي إن إن" مؤخرًا أكد خلاله أن السخرية يمكن أن تلعب دورا في مواجهة "الشر الكبير الموجود في العالم الآن، وهو داعش"، مؤكدًا أن السخرية هي سلاح مذهل، لأنها في الأساس تنزع هذا النوع من الخوف من قلوب الناس، وعندما تنزع الخوف منهم من خلال الضحك، فهم لن يعودا يخافون بعد الآن. ما يقوله يوسف أكدته التجربة العملية فالشعب المصري الوحيد الذي تعامل مع ظاهرة داعش الإرهابية بمزاج ساخر، فلم يثر ذكر التنظيم الدموي عند المصريين إلا الرغبة في السخرية والضحك، وفيما ترتعش فرائص بعض شعوب المنطقة من مجرد ذكر "داعش"، حول الشعب المصري النشيد الرسمي لداعش "صليل الصوارم" إلي مجرد لحن راقص، حول التنظيم المرعب إلي دعابة لا تثير إلا السخرية. هذه الروح الساخرة، ليست ابنة اليوم أو وليدة الأمس بل هي ميراث ممتد منذ آلاف السنين، وهو ما أكده الدكتور سيد عشماوي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، قائلا ل"آخر ساعة" إن دراسة التاريخ تكشف عن إحدي خصائص الشخصية المصرية، التي تحدث عنها عشرات الدارسين، وهي خاصية عريقة في القدم، ووهي خاصية السخرية والتهكم والاستهزاء، وبصماتها موجودة حتي وقتنا الحاضر، وتنطلق من فكرة محورية وهي "الضاحك الباكي"، لتظهر لنا أنه في لحظات المحن والمصائب وأوقات الغمة والكرب، الغلاء والفناء والوباء، كانت الروح المنطلقة لعوام أهل مصر، كانت السخرية والتهكم والاستهزاء إحدي لحظات الانعتاق التاريخي، التي عبرت وواكبت تحركاتهم عما هو مكنون داخلهم وميزتهم عن غيرهم، وخصائصهم الاجتماعية الإنسانية. وأشار عشماوي إلي أن الأشكال الضاحكة الباكية التي تميز بها المصري علي مدار تاريخه واكبت كذلك تحركاته المقترنة بالقوة والعنف في مواجهة العتاة والظالمين، كان المصري يسب ويلعن ويسخر من بعض الحكام والولاة والباشوات وكان في نفس الوقت يغتال بعضهم مع سبق الإصرار والترصد، ويواجههم بما ملكت يده ولو بالحجارة، فسنوات التهجم والصرامة البادية والتي تطرقت إلي النفس المصرية بفعل هموم المعيشة كان يكسوها مسحة من الفكاهة والطلاوة والبشاشة، واختار المواطن أن تكون هناك ساعة لقلبه حيث الهزل والخفة، وساعة لربه حيث الخشوع والضراعة والعبادة. وأكد عشماوي أن سخرية البسطاء اعتمدت دائما علي البساطة والتلقائية، وعلي الجرأة والصراحة، وأحيانًا علي اللغة الجارحة، وفي العموم تم اعتماد العبارات التي لا يجد العامة والخاصة مشقة في إدراك معانيها وأغراضها، وتعددت صور التهكم والاستهزاء والسخرية من السلطة خاصة في عصور الاحتلال، إما بالقول أو الكتابة بالإشارات أو الإيماء والإيحاء، أو بالرمز برفع الصوت، أو عمل حركة الرأس أو اليد، أو حتي الأقدام أو الكتف، المهم أن فعل الإضحاك والسخرية موجود، بما يتضمنه ذلك من معني الإقلال أو الانتقاص من مكانة الشخص الذي يفترض أن يكون شخصية ذات سطوة. من جهته، ذهب الدكتور عمار علي حسن، إلي أهمية توظيف النكتة والسخرية السياسية كنوع من أنواع المقاومة بالحيلة، وعندما يتوقف المصري عن السخرية من الحكام تعرف أنه يدبر لشيء ما مثلما حصل في نهاية عصر مبارك عندما اختفت النكتة السياسية، وهو ما رأيت فيه وقتها ظاهرة غير طبيعية لعدم تنفيس المصريين عن المكبوت، فكانت الثورة التي فاجأت الجميع. وأشار حسن إلي أن الحاكم الواعي هو من يستمع إلي النكتة السياسية ويستوعبها ويعمل علي حل المشكلة الكامنة خلفها، فمثلا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر طلب اجتماعا عاجلا لفريق وزاري للتباحث حول أوضاع التموين في المحافظات، بعدما تنامي إلي سمعه نكتة تقول "مرة واحد سمع عن توزيع سكر في الإسكندرية، فجري علي الموقف وركب ميكروباص، وجاء السواق عند بنها، وقال له: انزل هنا يا عمنا. فنظر الرجل إليه وقال له: بس دي بنها، فضحك السواق وقاله: بس هنا آخر الطابور"، ومن هنا تأتي أهمية النكتة السياسية.