ورشة عشوائية تعمل بعيداً عن رقابة الجهات المختصة بشفقة تُلاحقهم نظرات المارة، كلما حاولوا الإعلان عن وجودهم في شوارع لا تعترف بحقهم في الحياة والحركة. لا تتوقف المأساة التي يعيشها الملايين من ذوي الإعاقات الحركية في مصر علي عجزهم عن ممارسة حياتهم اليومية، ولكن تمتد إلي معاناتهم في الحصول علي أطراف صناعية وأجهزة تعويضية آمنة تُعينهم علي ذلك. وهي الأزمة التي تتجلي في انتشار ورش التصنيع العشوائي للأطراف الصناعية "تحت بير السلم"، والتي تُمارس الصناعة بعيداً عن الجهات الرقابية، مُغرقة أسواق المستلزمات الطبية بأجهزة تعويضية رديئة وغير مطابقة للمواصفات. والتي تكمن خطورتها في المضاعفات الخطيرة التي تلحق بالمريض جرّاء استخدام هذه الأجهزة. تردي أوضاع مصانع الأطراف الصناعية الحكومية وضعف إنتاجها، أفسح المجال لانتشار ورش عشوائية ساهمت في رواج الأجهزة الرديئة المُنتجة داخلها بخلاف ارتفاع أسعار الأطراف الصناعية المستوردة، ما جعل كثيرا من ذوي الإعاقة الحركية يلجأون إلي الإنتاج المحلي الرديء. وتزيد الخطورة مع تزايد معدلات الإصابة بالإعاقات الحركية، حيث بلغ عدد من يعانون من الإعاقة الحركية الجزئية أو الكلية، حوالي خمسة ملايين شخص، حسب المجلس القومي للإعاقة. تزايد المضاعفات الصحية التي يتعرض لها ذوو الإعاقة بسبب استخدام الأجهزة التعويضية غير المطابقة للمواصفات، دفع "آخرساعة" لاختراق العالم السري لصناعة الأطراف الصناعية، للكشف عن أوكار التصنيع العشوائي المُنتشرة بمنطقة وسط البلد. لم نتخيل فداحة الظاهرة حتي وصلنا إلي شارع رشدي، حيث تتراص محال بيع الأجهزة التعويضية التي كانت أولي الخيوط التي أوصلتنا إلي أوكار صناعة الأطراف الصناعية. بسؤالنا عن مصدر الأطراف محلية الصنع المعروضة، يدلنا صاحب أحد هذه المحال علي مجموعة من الورش الكائنة بمنطقة عابدين. ومن ميدان محمد فريد نصل إلي حارة "الحِكر" بعد عبورنا عدداً من الأزقة الضيقة. في العنوان المحدد نُصادف إحدي العمارات المُتهالكة. صوت الماكينات الذي يصدح من داخلها يُعلن عن وجود الورشة التي تحتل البدروم الواقع أسفل العمارة. ندلفُ إليها عبر سُلَّمٍ ضيق لنصل إلي غرفة تتناثر داخلها الماكينات البدائية المستخدمة في تصنيع الأجهزة التعويضية. تلفحُنا الحرارة المنبعثة من الفرن البدائي الذي يتوسط الورشة، بينما نلمح العمال ينهمكون في إعداد بعض الأطراف الصناعية السُفلية. نكاد نتعثر في مُخلفات الأطراف والجبائر المُلقاة علي الأرض ونحن نقترب من "سيد بريزة" صاحب الورشة الذي يفتخر بأنه يصنع جميع أنواع الأطراف الصناعية والأجهزة التعويضية يدويا في ورشته التي بدأ العمل بها قبل عشر سنوات. "الحكومة مش سايبانا في حالنا" يقولها سيد وهو يمسك بجهاز اللحام اليدوي لإعداد مفصل معدني، مؤكداً أنهم طالبوا الحي أكثر من مرة بإصدار تراخيص تُقنن أوضاعهم، لكن مطلبهم قوبل بالرفض، بينما يري أن الحكومة تتعنت مع أصحاب هذه الورش -التي يتجاوز عددها العشرة داخل هذه المنطقة فقط-، وتحاول القضاء علي الإنتاج المحلي لصالح كبار مستوردي الأجهزة التعويضية. يتابع: يعمل لديّ تسعة عُمال أوزع المهام بينهم لتغطية مراحل الصناعة، التي نبدؤها بأخذ مقاسات الطرف المُراد صُنعه، ثم نعد "فورمة" من الجبس تأخذ شكل الساق أو الذراع، لأقوم بعد ذلك بإذابة البلاستيك بتعريضه لدرجة حرارة مرتفعة، قبل أن أستخدمه لتشكيل "الشاسيه" الخاص بالطرف الصناعي عن طريق جهاز "الفاكيوم". ثم التشطيب باستخدام "الصاروخ" لتنعيم حواف الطرف الصناعي وتركيب الأحزمة التي تُستخدم لتثبيت الطرف. كما نقوم بتصنيع المفاصل الخاصة بالركب الصناعية ومفاصل الكوع والكتف، من خام الألومنيوم وبعضها يُصنّع من الخشب، ويمكن أن تزوّد بصمام لتثبيت الركبة علي حسب الحالة. غير أن بعض الأطراف الصناعية نستخدم فيها مواسير معدنية لا يتجاوز قطرها 25 ملم، نحدد أبعادها قبل أن نقوم بإعدادها عن طريق ماكينة الخراطة. هذه الأطراف التي ننتجها في الورشة يتراوح وزنها مابين 6-10 كيلوجرامات، بينما يستغرق تصنيع الطرف الواحد خمسة أيام. وعن الخامات التي يعمل بها يوضح سيد أنها تتنوع ما بين الحديد والخشب والجلد والبلاستيك الحراري، ومنه مادتا "البولي بروبلين" و"البولي إيثيلين". مُضيفاً: نعاني ارتفاع أسعار الخامات، فسعر كيلو البلاستيك تضاعف 200% ليصل إلي 490 جنيها والذي أستهلك منه 500 كيلو شهرياً، غير الجلد الذي يتجاوز استهلاكنا الشهري له 150 متراً. وترتب علي ذلك ارتفاع أسعار الأطراف الصناعية، فإنتاجنا المحلي يتراوح مابين 3-5 آلاف جنيه للطرف الصناعي الواحد، بينما تتضاعف أسعار الأطراف الصناعية المستوردة لتصل إلي 20 ألف جنيه. يُشير إلي ساقٍ صناعية من البلاستيك، ويتابع: حالات البتر زادت بشكلٍ كبير الفترة الأخيرة، لزيادة الحوادث وزيادة أعداد مرضي السكر، ما جعلنا نُضاعف إنتاجنا من الأطراف الصناعية السُفلية بشكلٍ خاص، التي تتعدد أنواعها فمنها الأطراف فوق الركبة أو تحت الركبة، أو الطرف الخاص بمفصل الكاحل. غير الأذرع الصناعية التي تبدأ من الساعد أو الكوع أو الذراع الكاملة، كما يُمكن أن يكون البتر من مفصل الكتف وفي هذه الحالة يحتاج إلي مفصلين صناعيين. يُفاجئني سيد بأن الأجهزة التعويضية التي ينتجونها في هذه الورش يتم توريدها إلي كثير من المستشفيات التي تضم أقساماً للعلاج الطبيعي والتأهيل، عن طريق وسطاء من شركات التوزيع العاملة في هذا المجال، التي تتعاقد معهم علي كميات كبيرة من الأجهزة التعويضية والأطراف الصناعية. غير أن هناك زبائن من ذوي الإعاقة يلجأون إلينا مباشرة، ونقوم بتوزيع إنتاجنا أيضا علي كثير من المعارض الموجودة بشارع رشدي الواقع بمنطقة عابدين. نُكمل طريقنا لنتقصي واقع الوِرش المُجاورة. نُصادف ورشةً تتكون من غُرفتين في إحدي شقق العمارات العتيقة بالمنطقة، تخصصت في إنتاج الأجهزة التعويضية وخاصة أجهزة شلل الأطفال. وداخلها تتناثر عبوات الغراء وقطع الجلد التي تُستخدم في مرحلة التشطيب. عنها يُخبرنا حسام محمد صاحب الورشة: هذه الأجهزة تكون عبارة عن دعامات معدنية تُحيط بالساق نقوم بتقطيعها ولحامها يدوياً، قبل أن نُغلفها بطبقة من الجلد الذي نعمل علي خياطته يدوياً أيضاً، حيث ُيحتاج الجهاز الواحد إلي يومين لإتمام صناعته. غير الجبائر التي نقوم بإنتاجها من خلال ألواح البلاستيك التي نقوم بتشكيلها لإعداد هذه الجبائر التي تُستخدم في حالات سقوط القدم، كما نُنتج جميع أنواع الأحزمة الخاصة بتشوهات العمود الفقري. نُغادر المنطقة حاملين حصيلة مشاهداتنا لنضعها أمام الخبراء الذين أكدوا خطورة ما ينطوي عليه التصنيع العشوائي للأطراف الصناعية والأجهزة التعويضية، حيث يوضح الدكتور عمرو عزّام أستاذ جراحة العظام وعميد الجهاز الحركي والعصبي سابقاً أن هذه الأجهزة التي تُنتج عشوائياً "تحت بير السلم"لا تخضع لأي معايير طبية في تصنيعها. وعدم اتباع هذه المعايير في تصنيع الأجهزة التعويضية الخاصة بشلل الأطفال علي سبيل المثال يُمكن أن يؤدي إلي ضمور العضلات التي تعمل، فهذا الجهاز يعتمد علي أن الطرف المصاب لا يمكنه حمل جسم المريض بسبب ضعف العضلات. ويُفترض أن يُصنّع بطريقة تسمح للعضلات التي مازالت تعمل بالحركة، إلا أن كثيرا من الأجهزة العشوائية لا يُراعي فيها مناسبة المفاصل التي تتخلل الدعامات المعدنية لقوة العضلات وحالتها، وهو الأمر الذي لا يمكن تحديده إلا تحت إشراف طبي. مضيفاً: فالكارثة أيضاً أن ضمور هذه العضلات قد يؤدي إلي إحداث تشوهات في المفاصل غير أن كثيرا من الخامات المحلية الرديئة التي تصنع منها أجهزة شلل الأطفال، تكون أوزانها ثقيلة جداً وبالتالي تُعيق حركة المريض مايسهم بشكل كبير في ضعف العضلات وضمورها.تكما ترتبط المعايير التي يُفترض أن يتم اتباعها خلال مراحل التصنيع بميكانيكية الجهاز التعويضي واتجاه الأحمال. ويري الدكتور عزّام أن مجابهة هذه الصناعات العشوائية يجب أن يبدأ بتدعيم مصانع الأطراف الصناعية الحكومية التي تم إهمالها علي مدار سنوات طويلة، ليصبح لدينا منتجاً علي درجة كبيرة من الجودة، فهذه المصانع لديها إمكانيات يجب استغلالها. متابعاً: حاولت خلال فترة رئاستي لمعهد الجهاز الحركي والعصبي أن أعيد إحياء مشروع مصنع الأطراف الصناعية الموجود داخل المعهد، الذي كان يعد المصنع الوحيد التابع لوزارة الصحة، وهو المشروع الذي توقف لأكثر من سبعة سنوات. ويوضح الدكتور علاء بلبع أستاذ العلاج الطبيعي والتأهيل وعميد كلية العلاج الطبيعي بجامعة القاهرة أن التصنيع العشوائي للأطراف الصناعية يُمكن أن يؤدي إلي مضاعفات خطيرة للمريض، تصل إلي حدوث غرغرينا في المنطقة التي تم بترها خاصة في الأطراف السفلية. وهذه المضاعفات تحدث بسبب عدم إحكام المقاس المطلوب للطرف الصناعي، بحيث يناسب حجم الساق أو الفخذ واتجاه البتر وشكله الذي يختلف من شخص إلي آخر، وبالتالي يمكن أن تحدث تقرحات والتهابات غائرة تتطلب إجراء بتر مضاعف، لضغط الطرف الصناعي علي الأوعية الدموية في منطقة دون أخري. وهذه الأزمة تزيد خطورتها لدي مرضي السكر لصعوبة التئام القرح لديهم. كما أن الأحزمة البلاستيكية التي تُعد لإصلاح تشوهات وعيوب العمود الفقري، إذا لم تصنع علي درجة كبيرة من الدقة وباتباع المقاس السليم للمريض، يُمكن أن تزيد من انحناء العمود الفقري. غير العيوب التي تظهر في الأجهزة والجبائر الخاصة بحالات سقوط القدم والقدم المخلبي. كما أن ويشير إلي أن جانبا كبيرا من الأزمة يكمن في الطاقة البشرية العاملة في هذا المجال. فليس هناك عمالة فنية متخصصة وبالتالي من يقومون بمزاولة المهنة يمارسونها دون أي دراسة أو تخصص، فالمشكلة لدينا لا تنحصر في جودة الخامات المستخدمة، بقدر ما تكمن في عدم دراية ومعرفة الفني بالآليات السليمة لأخذ مقاسات المريض وإنتاج أجهزة تعويضية مطابقة للمواصفات. موضحاً أن تقدّم هذه الصناعة في الخارج وصل إلي حد إنتاج أطراف صناعية للرياضيين ومتسلقي الجبال، غير الأطراف الذكية التي يتحكم بها المريض بشكلٍ كلي، ومازلنا هنا نعتمد بشكلٍ كبير علي الصناعة البدائية. ويؤكد محمد الحمبولي رئيس شعبة المستلزمات الطبية بالاتحاد العام للغرف التجارية أن وزارة الصحة لا تمارس أي دور رقابي علي ورش الأطراف الصناعية التي تعمل دون ترخيص، ما سمح بانتشارها ومضاعفة إنتاجها بشكلٍ كبير، مشيراً إلي أن هذه الصناعة البدائية التي تفتقر إلي المواصفات تنال من سمعة الصناعة لرداءة منتجاتها. مضيفاً: طالبنا وزارة الصحة بضرورة ضم صناعة الأطراف الصناعية والأجهزة التعويضية ضمن الصناعات التي تُشرف عليها الوزارة، لأن كل ما يتعرض لصحة المريض يجب أن يتم تحت إشراف الوزارة. وخلال عدة لجان وزارية شاركنا بها وضعنا تعريفاً للمنتج الطبي وفق القواعد والمعايير الدولية المتعارف عليها، وطالبنا بتطبيق الرقابة علي كل ما يندرج تحت هذا التعريف، لكن جميع طلباتنا كانت تقابل بالرفض. بينما تُرجع داليا عاطف الناشطة في مجال حقوق ذوي الإعاقة انتشار الصناعة العشوائية للأطراف الصناعية إلي إهمال الحكومة لقضية الإعاقة وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا الإهمال يتجلي بشكلٍ كبير في النظام الصحي للمعاقين والذي يُعاني من خلل واضح، رغم أن أعداد ذوي الإعاقة في مصر تتجاوز 10 ملايين نسمة نصفهم تقريباً من أصحاب الإعاقات الحركية، الذين يواجهون معاناة مستمرة في الحصول علي أجهزة تعويضية تصلح للاستهلاك الآدمي. ففي ظل تخلي الدولة عن واجبها في توفير هذه الأجهزة لهم، يقع أصحاب الإعاقات الحركية تحت رحمة أصحاب الورش والمصانع الذين يتلاعبون بالأسعار مستغلين حاجة هذه الفئة، رغم رداءة الأطراف التي يقومون بإنتاجها.