المقولة الساخرة "البوليس المصري يأتي متأخراً دائماً في الأفلام بعد وقوع الجريمة"، لا تنطبق علي رجال الشرطة فقط، فالمسئولون في مصر عموماً بجميع الجهات، يأتون إلي موقع الحادث متأخرين دائماً، لا يتحركون إلا بعد وقوع الجريمة، لا تخطيط، ولا رقابة، ولا حماية، ولا اهتمام بمسئوليات إلا وقت الأزمة، هنا فقط تخرج التصريحات، وتتعالي التبريرات، وتُتخذ القرارات بعد وقوع المصيبة، وضياع عشرات الأبرياء، فالجميع ينتظر صدور تعليمات الرئيس ليبدأ التنفيذ. ذلك الواقع المرير الذي نعيشه في كل حادث أو جريمة مأساوية تحصد أرواح عشرات الأبرياء تجسد في أبشع صوره خلال حادث غرق المركب (الشعبي) في نيل الوراق. ذهبت أرواح 40 مصرياً ضحية للإهمال وغياب الرقابة، دون ذنب اقترفوه سوي أنهم غلابة أرادوا الاحتفال خلال إجازة العيد فقرروا الخروج في رحلة نيلية، داخل أحد المراكب، لا ذنب لهم أنهم اختاروا ذلك المركب المتهالك سوي أنهم فقراء، لا يستطيعون دفع ثمن تذكرة المراكب الفخمة التي تتراص في الجهة المقابلة من النيل، لا يعلمون أن تلك المراكب التي يستقلونها لا تراخيص لها، والحكومة لا تعرف عنها شيئاً، ولماذا تهتم بها أصلاً إذا كانت لا تهتم بالأساس بمن يستقلونها، حياتهم لا تساوي لدي المسئولين أكثر من 60 ألف جنيه تعويضا، وإقالة مسئول أو اثنين علي الأكثر، ثم الإعلان عن اتخاذ مجموعة من القرارات لعدم تكرار الحادث مجدداً. أما تلك الأخري التي يستقلها علية القوم من الأغنياء، فهي تحت السيطرة، أجهزة الحماية المدنية تتابعها باستمرار، كافة الوزارات تعرف مسارها، وتراقبها، تُقدم لها كافة وسائل الحماية والأمان، فأرواح من يرتادونها أغلي كثيراً من أرواح هؤلاء الفقراء الذين يذهبون ضحايا بالعشرات كل يوم. السيناريو مُتكرر ومحفوظ عن ظهر قلب، تقع الجريمة فنبدأ في حصر أعداد القتلي والمصابين، ثم يخرج الوزراء والمسئولون كل منهم يلقي بالمسئولية علي الآخر، حتي يضيع دم الضحايا هباءً، فتعلن التعويضات، وتصرف الشيكات، ثم تخرج القرارات بإقالة أحد المسئولين (كبش فداء)، وبعدها نسمع عن الإجراءات الجديدة التي تُتخذ لمنع تكرار الحادث، الذي يتكرر غالباً رغم اتخاذ هذه القرارات. لا جديد، رئيس مجلس الوزراء، أعلن عقب الحادث عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة للتعامل مع تداعياته، التي تضمنت صرف مبلغ 60 ألف جنيه لأسرة كل متوفي، مع سرعة علاج المصابين علي نفقة الدولة، إضافة إلي تشكيل وحدة من وزارة التضامن الاجتماعي تتولي استقبال أهالي الضحايا والمصابين، ومساندتهم وتقديم الدعم اللازم لهم، إضافة إلي تشكيل لجنة برئاسته، وعضوية وزراء النقل، والبيئة، والري، والداخلية، والعدل، لمراجعة التشريعات الخاصة بإدارة نهر النيل بوجه عام، ومنظومة النقل النهري واستبعاد رئيس هيئة النقل النهري، ومدير الإدارة العامة للمسطحات المائية، من منصبيهما، لحين انتهاء التحقيقات نظراً لظروف الحادث وملابساته التي راعتها الحكومة، كما تمت الموافقة علي تشكيل لجنة برئاسة رئيس مجلس الوزراء، وعضوية وزراء النقل، والبيئة، والري، والداخلية، والعدل، لمراجعة التشريعات الخاصة بإدارة نهر النيل بوجه عام، ومنظومة النقل النهري. الملاحة بنهر النيل يتم الإشراف عليها من عدة جهات، هي السلامة البحرية، والنقل النهري، والمحافظات، وعدد من الجهات الأخري، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلي عدم وجود مسئول واحد يمكنه وضع مخطط عام للملاحة بنهر النيل، وهو ما أدي لتعطيل مشروعات النقل النهري كاملة علي مدار السنوات الماضية، تلك هي الحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون، وتغض الحكومة النظر عنها، وفقاً إلي الدكتور محمد سلطان، أستاذ النقل بكلية الهندسة، الذي يشير إلي أن حوادث غرق المراكب النيلية تحتاج إلي تشكيل لجنة لوضع أسس تشريعية وقانونية وفنية للملاحة بنهر النيل، مؤكداً أن هذه الحوادث ترجع لعدم وجود إشراف علي نهر النيل نهائيًا. هنا، تبدو الأزمة أكثر وضوحاً، فيطل السؤال الأكثر إلحاحاً برأسه، "من يحمي نهر النيل؟"، ذلك الشريان الحيوي الذي تعيش مصر علي ضفتيه، حمايته أمن قومي، التعامل معه يجب أن يكون بحساب، النزول إليه يحتاج إلي عشرات الموافقات - هذا إذا كنا نتحدث عن دولة تحترم مواردها، وتعرف كيف تحافظ عليها وتنميها جيداً- أما لدينا فنهر النيل مُستباح، التعديات حوله بالملايين، مياه الصرف والمجاري ومخلفات البواخر والمراكب تلقي فيه دون حساب، أي فرد يستطيع النزول إليه فوق ظهر قطعتين من الخشب يسميهما مركباً، ويسير بحرية تامة كما لو كان يلهو في شواطئ البحر المتوسط. أكثر من 75% من قائدي المراكب النيلية لا يحملون رخص قيادة، و55% من المراكب النيلية غير مرخصة، والعديد من المراسي النيلية تم إنشاؤها بطرق عشوائية، كما أن العديد من المراسي النيلية في المحافظات لا يوجد بها إنارة نهائيًا أو خدمات، ومسئولية تلك الأوضاع كما يري الدكتور حمدي عرفة، أستاذ الإدارة المحلية، تقع بالمقام الأول علي رؤساء المراكز والمدن والأحياء الذين يراقبهم 27 محافظاً، طبقاً لقانون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979، حيث تنص المادة رقم 26 علي "يعتبر المحافظ ممثلا للسلطة التنفيذية بالمحافظة ويشرف علي تنفيذ السياسة العامة للدولة وعلي مرافق الخدمات والإنتاج في نطاق المحافظة ومسئولا عن الأمن والأخلاق والقيم العامة بالمحافظة، يعاونه في ذلك مدير الأمن الذي يبحث مع المحافظ الخطط الخاصة بالحفاظ علي أمن المحافظة لاعتمادها، ويلتزم مدير الأمن بإخطاره بالحوادث ذات الأهمية الخاصة لاتخاذ التدابير اللازمة في هذا الشأن بالاتفاق بينهما، وللمحافظ أن يتخذ جميع الإجراءات الكفيلة بحماية أملاك الدولة العامة والخاصة وإزالة ما يقع عليها من تعديات"، مطالباً المحافظين، بمراجعة رخص المراكب النيلية وقائديها والتأكد من وجود وسائل الأمان مع تحديد خط سير محدد وسرعة وحمولة محدوتين. الأكثر خطورة في أزمة المراكب النيلية، أنها لا تتأثر بحادث غرق مركب، أو سقوط صندل فوسفات، أو ابتلاع المياه لعدد من الأطفال يستحمون فيها، ف"دولة المراكب النيلية" عالم خاص، خارج سيطرة الدولة، تستحوذ عليه مجموعة من البلطجية، والمسجلين في عدة مناطق، أبرزها التحرير، والوراق، والمعادي، والمنيل، والقناطر، كل منطقة لها حكامها، وقوانينها، وأسلوبها في إدارة المنظومة، غير المراقبة بالمرة. ولو أن أحداً من المسئولين كلف نفسه عناء النزول إلي أي من هذه المناطق ولو لمرة واحدة، بعد وقوع حادث مركب الوراق، لاكتشف أن شيئاً لم يتغير، الأمور كلها كما المعتاد، مراكب الموت تتراص في أماكنها تستقبل المواطنين الفقراء. "آخرساعة" كانت هناك، توجهنا إلي كورنيش النيل بوسط القاهرة، تتراص المراكب النيلية، وتضيء أنوارها ذات الألوان والأشكال المتعددة للفت انتباه المارة، وأمام المراكب يقف المنادي علي الركاب ليحاول جاهداً إقناع المواطنين بركوب المراكب، اقتربنا من أحد المنادين فأخبرنا أن كل مجموعة مراكب لها "معلم" خاص يمتلكها، وهو وغيره يعملون لحسابه، ويتقاضون عن ذلك أجراً في نهاية اليوم. دفعنا ثمن الرحلة 3 جنيهات لمدة 30 دقيقة، امتلأ المركب بالركاب عن آخره، نحو 60 شخصاً، من فئات عمرية مختلفة، أطفال وشباب وفتيات وسيدات، لا أحد منهم يبالي شيئاً سوي أنه يريد الاستمتاع بيوم إجازة وسط مياه النيل. وسط ضجيج الأغاني الشعبية الصاخبة، انطلق المركب متجهاً إلي كوبري 15 مايو، وأمام مبني الإذاعة والتليفزيون تنتهي الرحلة، وتعود من حيث أتت، طوال الرحلة رصدنا عشرات المراكب، صورة كربونية من تلك التي تحملنا، تحدثنا قليلاً لقائد المركب عن طرق صيانتها ومتابعتها، فقال "الصيانة مسئوليتنا نحن، والسائقون لا يقودون إلا بعد موافقة المعلم صاحب المركب، الذي يجري عدة اختبارات للسائق قبل أن ينزل للقيادة". انتهت الرحلة وعدنا إلي حيث أتينا، تاركين خلفنا عشرات الأسئلة تبحث عن إجابات، من المسئول عن تلك المراكب؟، من يفتش عليها؟، من يتحمل مسئوليتها؟، من يتابع سائقيها؟، حادث مركب الوراق واحد من عشرات الحوادث التي وقعت، ونحن فقط نحذر من وقوع حوادث عدة مماثلة ما دامت الحكومة ودن من طين والأخري من عجين.