انتشرت ظاهرة بناء الزوايا أسفل البنايات السكنية وفي الشوارع الجانبية منذ منتصف السبعينيات لتغزو الشارع منذ ذلك الوقت حتي يومنا هذا دون رقابة من الدولة، في إطار ظاهرة التدين المظهري الذي عرفته مصر مع هبوب ريح الأفكار الوهابية مع أموال الخليج، لكن الظاهرة التي شكلت العمود الفقري لانتشار الأفكار السلفية في المجتمع المصري، بدأت تعرف نوعا من أنواع الانحسار والتراجع، خاصة مع قرارات وزارة الأوقاف الأخيرة التي حجمت من انتشار الزوايا غير المرخصة، لكن الخطر الآن لم يعد مقصورا علي الزوايا غير المرخصة، فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح علي عوالم الانترنت، انتقلت الزوايا إلي العالم الافتراضي مع تأسيس البعض لمواقع إلكترونية لا غرض لها إلا نشر الفكر المتطرف. تحول الزوايا الدينية إلي مراكز لنشر الفكر المتشدد والمتطرف بعيدًا عن إشراف الدولة ساعد في انتشار أفكار التكفير في المجتمع بشكل هدد مكوناته الأساسية وساعد في نشر مناخ طائفي، وهو ما استدعي مواجهة متأخرة من الدولة تمثلت في قرار الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف بغلق الزوايا التي تقل مساحتها عن 80 مترًا، ما تم تأييده من قبل محكمة القضاء الإداري في الإسكندرية، فبراير الماضي، والتي قضت بغلق الزوايا بهدف حماية النشء من التشدد والتطرف. وقالت المحكمة إن "المشرع عهد إلي وزارة الأوقاف بمهمة إدارة الزوايا والإشراف عليها، ضمانًا لقيامها مع المساجد بأداء رسالتها في نشر الدعوة الإسلامية علي الوجه الصحيح، تلافيًا لاستغلال الفقر والجهل للبسطاء من قبل أصحاب التيارات المتشددة، ولتحقيق نقاء المادة العلمية للخطباء والوعاظ بما يحفظ للتوجيه الديني السليم أثره في نفوس الكافة، وللقضاء علي كافة البدع والخرافات وحماية النشء". وأشارت المحكمة إلي أن "القرار الذي أصدره وزير الأوقاف بغلق الزوايا، التي تقل مساحتها عن 80 مترًا لا يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية، بل يتفق مع مقاصدها الشرعية، لأن صلاة الجمعة من شعائر الإسلام التي افترضها الله جماعة دون غيرها من الصلوات، والمسجد من شروط صحة أداء صلاة الجمعة، أما الزوايا التي تقل مساحتها عن ثمانين مترًا فلا يتحقق فيها الموعظة، ومن ثم يكون قرار غلق الزوايا التي تقل عن تلك المساحة يتفق مع المقاصد الشرعية". واختتمت المحكمة حكمها إنه رغم أن القانون منح وزير الأوقاف الاختصاص والسلطة في الإشراف علي الزوايا مع المساجد، إلا أنه ضرب مثلا في احترام القانون باللجوء إلي دار الافتاء المصرية ليستطلع رأيها في قراره من الناحية الشرعية في سابقة هي الأولي تعمق الاحترام لمبدأ سيادة القانون، حيث أفادت بأن قراره موافق للشريعة الإسلامية ومتسق مع الأحكام الفقهية. واستجابت جامعة القاهرة، كبري الجامعات في مصر، لقرار المحكمة وقررت البدء الفوري بإغلاق الزوايا والمصليات داخل الكليات المختلفة التابعة للجامعة، مع البدء في إنشاء مسجد كبير يسع 1000 شخص بالحرم الجامعي، بالإضافة إلي الاستعانة بشيوخ ومقيمي شعائر من وزارة الأوقاف، ويأتي ذلك بعدما أرسلت الجامعة سؤالا لدار الإفتاء عن جواز غلق زوايا الصلاة التي انتشرت بالجامعة والمدينة الجامعية،، وذلك بهدف منع استغلال تلك المصليات في نشر الأفكار المتطرفة بين طلاب الجامعة وسيطرة بعض التيارات المتشددة عليها، ليأتي رد "الإفتاء" بالموافقة علي الإغلاق طالما أن في ذلك "تحقيقًا لمقصود الشريعة الإسلامية من صلاة الجماعة في المسجد". وأرجع الدكتور عبد المنعم الجميعي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الفيوم، أسباب انتشار بناء الزوايا في مصر إلي فترة السبعينات عندما بدأت البلاد تتأثر بالأفكار الوهابية التي حملها العائدون من دول الخليج ممن عملوا هناك بحثا عن الدولار، وكانت عمليات البناء تتم في إطار التدين المظهري الذي أخفي شيوع النمط الاستهلاكي، فكل من كان يريد بناء بناية سكنية مخالفة أو يريد تخفيضات ضربية يعمل علي بناء زاوية للصلاة بأسفل البناية للحصول علي تسهيلات في البناء، ومن يريد البناء علي أراض زراعية كان يبدأ في بناء مصلي صغير لتمرير ما يريد. وأشار الجميعي إلي أن ظاهرة الزوايا الدينية شهدت رواجًا في عقد الثمانينات، بالتوازي مع شيوع النمط الاستهلاكي وتراجع دور الأزهر في المسائل الدينية، ما جعل جماعة "الإخوان" والسلفيين يعملون علي الاستفادة من انتشار الزوايا دون وجود أي رقابة عليها لنشر أفكارهم المتشددة ما تمثل في وجود معظم كتب الإخوان والسلفيين في هذه الزوايا بشكل يكاد يكون حصريًا، ما أدي إلي شيوع أفكار التشدد في المجتمع بصورة غير مسبوقة، وخروج الكثير من دعاة السلفية الذين استخدموا الزوايا لترويج أفكارهم. وأكد الجميعي أن شيوع النمط الاستهلاكي أدي إلي تشويه شكل الجامع وابتذاله في شكل زوايا كانت تبني في أي مكان وبأي شكل دون الحفاظ علي معمار المسجد المتعارف عليه فتم التضحية بالمئذنة ثم تم تقليص المساحة بشكل كبير، بل تم العمل علي بناء زوايا علي هيئة أكشاك خشبية في قارعة الطريق بدون أي مرفقات، وكأن الهدف هو بناء الزاوية في حد ذاته، في ظل اختفاء كامل لدور الدولة التي لم تعد تهتم بما يجري في العشوائيات من انتشار لمظاهر التدين الشكلي، هو ما تفاجئت به الدولة في أحداث جمهورية إمبابة الشهيرة، التي هدف بعض السلفيين إلي إعلان إمارة إسلامية بها في التسعينات. من جهته، ذهب عبد الحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوي بالأزهر سابقًا، إلي أن قرار غلق الزوايا الصغيرة التي لا تخضع لإشراف ولا يعلم عنها أي شيء فضلا عن عدم معرفة من يتولي الخطابة فيها صحيح، مضيفًا ل"آخر ساعة": "الزوايا الصغيرة تخالف شروط صحة إقامة صلاة الجمعة كما قررها الإمام الشافعي، محذرًا من أن انتشار أشخاص غير مؤهلين في الزوايا يتولون بث أفكار معينة لأهداف خاصة يسبب الخطر علي المجتمع كله، لما ينشرونه من مفاهيم مغلوطة عن صحيح الدين الإسلامي الوسطي ما يمس كيان الوطن واستقراره الأمر الذي يستلزم مواجهة هذا الفكر التكفيري. وأضاف الأطرش: "الزوايا تحولت إلي مراكز لتجمع أصحاب الفكر المتشدد، بل إن البعض استخدم هذه الزوايا من أجل الفكر المتشدد والتلاعب بأفكار المصلين، فضلا عن افتقاد معظم الزوايا لشروط الطهارة بسبب ضيق المكان، ووجود دورات المياه قريبة من أماكن الصلاة". في السياق، قالت الدكتورة أمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر، ل"آخر ساعة"، إن مواجهة الفكر المتطرف داخل الزوايا لا يقتصر فقط علي إغلاقها بل يمتد إلي تجديد الخطاب الديني وتأهيل الدعاة وخطباء المساجد للقيام بدورهم علي أكمل وجه، والعمل علي تنقية التراث الفقهي من الكثير من الفتاوي الغريبة والاجتهادات المحكومة بعصرها والتي لم تعد تناسب واقع المجتمعات المسلمة حاليا، مطالبة وزارة الأوقاف بخطوات جدية لمنع استخدام الزوايا والمساجد في الدعاية السياسية من قبل السلفيين والإخوان وغيرهم من الجماعات التي تخلط السياسة بالدين.