رحل الإخوان.. وبقيت الأخونة.. أي الفكر العقيم.. الأسلوب والرؤي الجاثمة الحاضة علي «فكر الفقر وفقر الفكر»، تلك هي المحنة التي يكابدها الصرح الذي كان.. ماسبيرو نجم هوي.. فهو بمثابة الواجهة الشرعية للدولة وصندوق الدنيا الذي عشقه المصريون منذ نيف و50 عاما.. النافذة المرصعة بالحلم.. الوعي والبهجة، خطورته تكمن في سرعة تأثيره، فالإعلام قادر علي إشعال اللحظة، ينجز في لحظات مايقوم به التعليم في سنوات، هو القادر علي صياغة العقل الجمعي والوجدان الشعبي. ويبدو أن شرارة 25/30 لم تصل إلي المبني العتيق، فاستكان واستملح الفشل، ومادامت الدولة تمنح الإعانات والمساندة و(الدنيا ماشية) فليذهب الطموح إلي الجحيم والرغبة في النجاح والتفوق، وليستمر دفن الكنوز ووأد الكفاءات وإهدارها، فالفساد يكمن أيضا في إهدار الإمكانات المتاحة، في فقدان الابتكار، هيمنة الفشل والعجز وتمجيد الروتين وكأن ماسبيرو أصبح المأوي للموظفين في الأرض!! أم هناك نوايا تتلمظ وتشتهي تفكيك وبيع هذا الكيان النفيس ومن ثم يكون الإفشال مع سبق الإصرار والترصد. أتابعه فتنتابني الحسرة.. هو عشقي الأول.. أتابعه وأرصد التجهيل، التهييف والتسطيح، أتعجب من عصام الأمير رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون وأيضا مجدي لاشين رئيس التليفزيون كيف لاتراودهما غواية النجاح؟! ألا تطالهما مراودة التحدي في فترة استثنائية يمر بها الوطن، إنها فرصة نادرة لشحذ الهمم وبعث انتعاشة منشودة لدحر أي مؤامرة، ماسبيرو الآن أشبه بحفلة باهرة انطفأت أنوارها المتلألئة، صارت منزوعة الروح فجنحت إلي الظلمة والإظلام، بقدر الصعود والوهج وعنفوانه يكون السقوط مدويا، فلقد تربعت شاشة ماسبيرو علي عرش الإبداع، التنوير والثقافة والمعرفة لعقود من الزمان، فأصبحت الآن تلك الأقانيم يبثها التليفزيون الوطني.. تليفزيون الشعب علي استحياء، فالبرامج الثقافية أشبه بعاهرة ليلية!! لا تظهر إلا في قلب الليل، فالثقافة نداهة فادحة الغواية والآدباء أقرب إلي الخارجين عن القانون! أو زوار الفجر! فسوف تحظي عزيزي المشاهد بصحبة د. طه حسين، والعقاد، وثروت أباظة، وحسين فوزي، وتوفيق الحكيم عندما يسدل الليل غلائله فالتنوير موعده في الظلام! إن الليل حليم ستار! أيضا التراث المسرحي الثمين مثل (السلطان الحائر) وروائع كثيرة أيضا عندما يكون الناس نياما و(ربنا يستر علي ولايانا)!! الفن التشكيلي يعامل ذات المعاملة في أغلب الأحيان فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار! كان يا ما كان الشاعر فاروق شوشة كان له برنامج يمنح جرعة ثقافية ممتعة علي سبيل المثال، وبالنسبة لغياب الثقافة، التنوير والمعرفة وبثهما علي استحياء واعتبار مكانهما المناسب (الكباريه)! فكل فضائيات مصرنا الحبيبة تشارك ماسبيرو هذا السلوك المريب، فلا وجود لقيمة الكتاب فهو غذاء العقل والروح فهل هذه هي مصر الجديدة؟! تتعاطي الإلهاء، فنجد في دولة تمر بمحنة وبأزمة اقتصادية طاحنة برامج الطعام! أو أطباء يجدون (التايهة) من أجل المزيد من التناسل والتكاثر وإما الجرعة المتعملقة من السياسة للاستهلاك اليومي. إن الأمم المتحضرة الباحثة دوما من أجل الارتقاء تعرف أولوياتها واحتياجاتها تسعي لنشر المعرفة والاستنارة بأسلوب محبب، الإلهاء، الإخفاق وإقصاء كل ماهو جاد وضروري سمة الإعلام المصري. فإذا تأملنا صباح الخير يا مصر وبدأنا بنشرة الأخبار فنرصد التليفزيون المصري في إنجاز هو الأول من نوعه في تحطيم قدسية موعد النشرة الذي لا يتم أبدا في السابعة صباحا فيضرب عرض الحائط باحترام الوقت والقيام بدور القدوة، فيبدأ (اللت والعجن) والأغاني ثم تأتي النشرة حين ميسرة، أذكر طفولتي الأولي.. الثانية ظهرا إلا قليلا يدلف أبي من الباب محملا بقصص كامل الكيلاني وزجاجة عطر صغيرة اسمها (سلمي) نجتمع في حضرته علي المائدة نشرة أخبار BBC في الثانية تماما هي طقوس مقدسة، لحظات مصطفاة يكتنزها الوعي واللاوعي، فللوقت والنشرة رهبة ونشوة سحقها ماسبيرو الحديث!! أما فقرات صباح الخير يامصر فمترهلة يأتي الضيف ولا يرحل، فقرات طويلة لا تناسب إيقاعات الصباح اليقظ، الخاطف، خالية دوما من الثقافة أو عرض كتاب جديد قديم مثلما يحدث في صباحات التليفزيون الفرنسي حيث الإبداع، والمعرفة والثقافة غذاء يومي، أما مذيعاتنا فأغلبهن بدون ذكر أسماء يضعن الشعر المستعار يحاكي في طوله شعر ناعسة زوجة أيوب عليه السلام وهناك مذيعة تتدلي الخصلة فتحجب عينها، وطبعا الرموش البلاستيكية المنتصبة فكيف يكون تركيزها وكيف يصفو ذهنها وهذا لا يعني أن هناك إعلاميات متميزات مثل دينا قنديل وأميمة تمام. نهار ماسبيرو يجسد الدولة الدينية وكأنها مزايدة تجاه الإخوان لإثبات إننا شعب متدين، والمسألة في الجرعة الدينية ليست مسألة كم ولكن مثل كل شيء هي قضية كيف وانتقاء، أين كنوز التليفزيون من الأبيض والأسود؟ لماذا لا يفتح خزائنه النفيسة، برامج، ومسلسلات، ومسرحيات وأفلام، أم أنه يتعامل بطريقة البقال الكسول فيقدم البضاعة الظاهرة علي الرف؟ وأين الأفكار الجديدة الطازجة والمبتكرة لإثراء هذا الكيان المتصلب، فهو الآن خارج الزمن يحاكي الديناصورات متعملق ومهمش، أما الظاهرة المستفزة وتصدرها لنا كل الفضائيات فهي استضافة من يدعون أنهم اعتزلوا الإرهاب والفكر المارق الحاض علي الكراهية والفرقة، ويأتي السؤال المهلك والمستهلك: ما هو رأيك في الإرهاب يا إرهابي نعم فهو إرهابي يضع قناع التائب، كفانا هذا التجريف الثقافي العتيد وكفانا تكرار شعار ليس في الإمكان أفضل مما يحدث الآن علي تنويعة علي لحن (كانديد)لفولتير، هذا النقد لماسبيرو يأتي بدافع أنه عشقي الأول، أشتاق إليه لعودته، لبعثه، لا أريد أن أشعر بالخواء، والجوع، والعطش والصقيع عند مشاهدته.