يكون الحديث عن سوريا، فإن الأمر للمصريين هو الحديث عن جزء من الأرض والشعب المصري نفسه، بهذا تقول حقائق التاريخ والجغرافيا والوجدان الحضاري الجمعي لكلا البلدين. الثابت أنه ما من مرة في التاريخ تعرضت فيها سوريا لغزو أو عدوان إلا وانفتح الباب أمام غزو أو عدوان علي مصر، وحتي في تاريخنا الحديث بقيت متلازمة وحدة المصير قائمة عند البلدين لا تتغير ولا تتبدل علي مستوي قيادتيهما، وشعبيهما خاض البلدان معركتيهما من أجل الاستقلال وتشاركا في حروب المصير التحريرية تصدياً للعدوان التوسعي للكيان الصهيوني ومعاً حققا الانتصار في أكتوبر، وبموقفيهما الموحد ووجود قواتهما علي الأرض عادت الكويت دولة مستقلة محررة بعد احتلال عراقي قصر أمده. ريف دمشق مرتع لقوي الظلام من جيش الإسلام وجبهة النصرة وتواكباً مع ثورة شعب مصر في يناير 2011 خرج الملايين من السوريين في مظاهرات التأييد لتحرك الشعب المصري والمناداة بالتغيير في بلادهم، فهكذا هو حال الوجدان الواحد كما الجسد إذا تداعي منه عضو تداعي له سائر الجسم بالسهر والحمي. المشكلة في الحالة السورية أنها كانت مختلفة وبالكلية عن الحالة الثورية المصرية فالواقع المصري الذي استدعي ثورة تقتلع نظاماً تابعاً فاسداً قيادة وأعواناً وحزباً، نظام نسي بجميع مكوناته الصالح الوطني، لم يكن في سوريا ما يقابله فلا النظام عرف بالتبعية ولا مارس الفساد الشامل الذي عاشته مصر 30 عاماً، لم يكن في قاموس الحراك الشعبي وحركة الاحتجاج السورية الواسعة ولا بين مفرداتها أي حديث عن العيش والكرامة الإنسانية، وإنما تركزت مطالب الناس في مظاهرات الاحتجاج علي الإصلاح السياسي، وهي مطالب مشروعة صائبة وواقعية في عالم ما بعد الألفية الثانية !! الاحتجاجات السورية سرعان ما شهدت تحولات عنيفة بعدما دخلت التنظيمات والجماعات وفي مقدمتها الإخوان علي خط الاحتجاج الشعبي واستغلته للمناداة بإسقاط النظام وهو الأمر الذي لم يكن مقبولاً عند قيادة سورية أدركت أن هذه الجماعات إنما تسعي إلي مصير أفغاني أو عراقي لبلادها وبدأت قوي الأمن باستخدام العنف المفرط في مواجهة الاحتجاجات وهو ما تسبب في سقوط ضحايا ما بين قتلي وشهداء.. وهنا خرج الأمر عن الطوق وبدلاً من مطالب بالإصلاح ظهر السلاح بين الحشود وبحجة الدفاع عن المتظاهرين استخدمت أسلحة القناصة والبنادق الآلية في قتل أفراد وضباط الأمن. رصدت الدولة السورية تحركات لا وطنية عابرة للحدود من قيادات الإخوان الذين صار واضحاً أن تعليمات التصعيد الدموي القادمة من تركيا كانت هي التي تحركهم كما رصدت اتصالات أمريكية بأطراف في الداخل لتنسيق عملية الخروج عن الدولة وهدم المؤسسات ونشر الفزع وبدأت عمليات الملاحقة للمسلحين، لكن ما لم تعمل الدولة له حساباً هو دخول دول عربية كمحرك وداعم وممول لجماعات مسلحة شديدة الإجرام والتطرف لإسقاط النظام السوري، وهي الجماعات التي حازت اسلحة الحرب الفتاكة وكانت السبب الرئيس لواحدة من أفدح الكوارث الإنسانية الاجتماعية والحضارية التي تمر بها سوريا عبر تاريخها، عبر حرب دموية علي الأرض تستهدف وحدة الوطن السوري وتمزيق شعبه. التقدمة السابقة هي وإن كنت بين المنشغلين بالوصول إلي الحقيقة مهمة إذا أردت أن تفهم الذي جري في سوريا وكيف وأين تقف اليوم. «آخر ساعة» كانت هناك علي خط النار والمواجه الأمامي عند تخوم "الشام" دمشق العاصمة، وفي مناطق الريف وحمص ضياعها وغياطها، وحرصت علي أن تنقل إلي القارئ الصورة عن حال البلاد السورية كأدق ما يكون. والحال في سوريا وباختصار هو حال بلد شهد ويعيش حرباً تستخدم فيها الأسلحة الميدانية الثقيلة في أحيائه وشوارعه، وباستثناء دمشق العاصمة ومحافظات ومناطق محدودة بينها اللاذقية وطرطوس اجتاحت مناطق واسعة من أرضه مدناً وقري بأكملها جماعات مسلحة أتخذت من الأهالي دروعاً بشرية ووضعتهم تحت قوانينها الجاهلية الخاصة واستباحت دماءهم وأعراضهم.. باختصار فإن سوريا إن كنت بين من عرفوها كواحدة من أجمل وأكثر البلدان العربية أمانا واستقراراً فإن عليك أن تحدث معلوماتك.. لم يعد لسوريا التي في ذاكرتك وجود الدمار والموت صارا هما العنوان لأكثر من ثلثي مساحة الأرض السورية .. وليس في شيء من ذلك ثورة ولا أهداف وطنية لشعب يريد الخير وما هو أفضل لبلاده.. وإنما هو مخطط للدمار والتقسيم تنفذه لحساب الغرب والصهيونية جماعات كارهة للحياة وللحضارة الإنسانية شاغلها هو نشر الموت والفزع وجر المجتمع إلي عصور الجاهلية وجماعات من مسلحين تختلف انتماءاتهم ومرتزقة عرب وأجانب، جماعات قتلت واختطفت وعذبت واغتصبت أفراد الشعب.. قصفت مدنه وأحياءه بالهاونات والكاتيوشا ضربت كل ما طاله سلاحها من مكونات مؤسسات الدولة ، هذه لم يكن أمامها من بديل عن استرداد السيادة علي المحافظات والمدن والأحياء وحماية مواطنيها ومنتسبيها من جرائم العصابات المسلحة وفي الحرب بين الأطراف المتعددة وليس منها من يمثل الشعب السوري والدولة والقوات الرسمية هجر الملايين بيوتهم هدمت مدن وأحياء بأكملها ، أما القتلي والمصابون وبغير تمييز لمصدر السلاح القاتل فهم بالآلاف. بعد اضطرابات محدودة بقيت دمشق العاصمة مركزها وأحياؤها العتيقة والجديدة آمنة ، وسرعان ما أدرك أهلها أن حال بلادهم يفرض الاصطفاف والدولة، إذ ما إن بدأ حال الحراك السياسي في الانتقال إلي الشارع حتي فوجئ الدمشقيون بتعرض مدينتهم لقذائف الهاونات بعدما استهدفتها جماعات مسلحة مجهولة تمركزت بريف دمشق، فأسقطت القتلي والمصابين من المدنيين، أدرك وبارك الجميع حتمية تصدي الدولة لمسلحين استباحوا دماء الناس وأموالهم، والغريب أن القصف استمر وتبين أن وراءه تنظيما عرف باسم جيش الإسلام، وواجهته قوي الأمن والجيش وحاصره عناصره حتي كادت تنهي وجوده ولكن الغريب أن حجم القذائف والأسلحة المختلفة التي وجهها هذا التنظيم كان في ازدياد وتصاعد وكأنما هناك مدد لا ينقطع رغم الحصار ولعل هذا هو ما فجر الاكتشاف الأخطر لدي الدولة والشعب السوريين إذ تبين أن السلاح المتدفق لعناصر المسلحين مصدره حي اليرموك الخاص باللاجئين الفلسطينيين الذين كانت تضيفهم فيه سوريا منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي واحتضن عناصر تنظيم حماس وأسرهم وللدهشة تكشف تورط التنظيم الذي لم يكن بين الدول العربية من داعم له سوي سوريا، لم يكن متوقعاً أبداً عند السوريين أن حماس لا تقيم للفضل اعتباراً وأن الموقف السوري الحاضن لها لن يكون بذي تأثير أمام تعليمات الإخوان الجماعة الإرهابية الأم التي قالت بخيانة سوريا وضرب وحدتها واستقرارها. تكررت تنبيهات القيادة السورية لقادة حماس في اليرموك بعدم التدخل في الشأن السوري إلا أن الأمر شهد تطورات أكثر سوءاً بعدما تبين تخابر هؤلاء مع تركيا وقطر ضد سوريا وضلوعهم في خطط هدم الدولة الأمر الذي دعا إلي مغادرتهم الأراضي السورية إلي رعاتهم في اسطنبول والدوحة، ومع بداية الملاحقات الأمنية لعناصر متورطة. دخل الإخوان وحماس باليرموك مواجهة مسلحة مع قوي الأمن وخرج الحي عن سلطة الدولة وأصبح منطلقاً لكل الهجمات الصاروخية علي أحياء العاصمة دمشق وهكذا شهد الحي حرباً دمرته بالكلية ما بين الجانبين وسدد سكانه غير المنتمين لحماس والإخوان فاتورة خيانة أبناء وطنهم .. ولكن دمشق التي عرفت خسارة الدم في غير مواجهة مع الصهاينة استعادت أمنها ، فباستثناء حي واحد هو حي جوبر الذي فرض عليه المسلحون من عناصر جيش الإسلام سيطرتهم وأحالوا معيشة أهله إلي جحيم بعدما ذهبوا في مسعاهم إلي فرض النفوذ علي الحي إلي القتل العشوائي قنصاً للمارة في شوارع لا تعرف فرقاً بين من يسير عليها إلي الموت وإن كان سنياً، شيعياً مسيحياً وأيا ما كان فطالما كان سورياً فهو مرشح للموت إن قادته قدماه إلي هذه المنطقة.. التي يقع أهلها اليوم بين سندان جماعات أخذتهم أسري ومطرقة نظام لا يملك بديلاً عن بسط سيادته وسلطته الكاملة علي الأرض مهما بلغت التضحيات والخسائر وأياً كانت طبيعتها. في محافظة ريف دمشق خرجت الأمور عن الطوق وصارت هناك المئات من البؤر المشتعلة التي تتخذ في ضيعاتها وغياطها فصائل مسلحة تزيد في مسمياتها عن العشر مما عرف بالجيش الحر وجيش الإسلام وجبهة النصرة (السلفية) وغيرها أوكاراً تطلق منها عملياتها ضد أهل دمشق والجيش والمؤسسات السورية الساكنين والمتمركزين علي تخوم العاصمة، ولعل العملية الأخيرة التي استهدف فيها حي المنزه السكني ومحيطه بقذائف الهاون والكاتيوشا منتصف الأسبوع الماضي وتعامل قوات الجيش السوري جواً وبراً مع المصادر التي انطلقت منها في ريف دمشق ما يفسر كثيرا من الاتهامات الموجهة للنظام السوري باستخدام السلاح ضد شعبه، فالحقيقة أن السلاح وبكل أنواعه يستخدمه الجيش العربي السوري ضد من يطلقون قذائف الموت العشوائية ضد شعبه ومنشآته وضد من يستهدفون تدمير كل صورة للحياة في ربوع البلاد. الذي حدث في باقي أنحاء سوريا شمالاً ووسطاُ جنوباً غرباً وشرقاً وبكل المقاييس جريمة إنسانية وحضارية بشعة ظلم الادعاء بأن النظام السوري هو من ارتكبها، فهنا تتحمل المسئولية كل دولة عربية وأجنبية احتضنت ورعت جماعات الخوارج، تدريباً وتمويلاً تسليحاً وتخطيطاً وفي ذلك كما تسمع أينما حللت من سوريا تستوي سواء دولاً عربية شاركت في الجريمة العدوانية الأكبر علي سوريا الأرض والناس مع الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين وإسرائيل التي لا يدعوها سوري بغير الكيان الصهيوني. في حمص لحق الدمار والخراب بعمارات وأبنية ومحال تشغل أحياء كاملة جراء قصف بأسلحة ثقيلة «صواريخ ومدفعية» وحتي الطيران وذلك في العمليات العسكرية الهائلة التي دارت مابين قوات الجيش العربي السوري (الجيش النظامي للدولة) وميليشيات المسلحين من كل الفصائل التي احتلت كثيرا من الأحياء وأجبرت أهل بعضها علي النزوح عنها قسراً وهؤلاء كانوا أصحاب الحظ السعيد ففي أحياء أخري أخذت الجماعات المسلحة الأهالي أسري اتخذت منهم دروعاً بشرية وقتلت واختطفت من رفضوا الانضمام لهم والآلاف من موظفي الدولة علي اعتبار أن عمل عمل البلدية لديهم هو ممثل للنظام، اغتصبت النساء ونهبت الأمول وضاقت الأرزاق وتوقفت كل الخدمات من كهرباء وصحة وتعليم وحتي مياه الشرب فقد قصف هؤلاء كل المواقع الخدمية وأخرجوا الأحياء عن سلطة وسيادة وخدمات الدولة ومنها أطلقوا حربهم الصاروخية علي الجيش السوري والمدنيين في الأحياء التي رفضتهم وتمكنت من إبعاد المسلحين عنها وأكثرية هذه الأحياء هي في حمص القديمة (أحياء شعبية متماسكة) وأمام الحرب الشاملة التي خاضها الجيش السوري ضد الميليشيات المسلحة لاستعادة حمص وتحرير أهلها من بطش الجماعات سقط آلاف الضحايا قتلي ومصابين. باختصار صارت حمص إلي دمار شامل.. ولم يتبق من أحيائها سليماً إلا النزر اليسير ولكن من وسط الموت وتحت رماد نيران الحرب.. تقف حمص اليوم وقد عاد الهدوء إلي أحيائها جميعها إلا واحدا لتضمد جراحها وتشهد أكبر عملية إعادة إعمار عبر التاريخ السوري، فالمدينة التي تخلصت من المسلحين وميليشيات الظلام حرباً وتصالحاً رعته الدولة عادت إلي شوارعها الحياة ومظاهر سيادة الدولة من أمن وخدمات وغير ذلك.. يبقي فقط أن آلالاف الأهالي لا يستوعبون تصالح الدولة مع مسلحين قهروهم وقتلوا واختطفوا واغتصبوا أبناءهم ولكنهم علي هذا يتفقون في صحة خطة الدولة لإخلاء الأحياء من السلاح التي بسببها رد إليهم الأمن والسلام، وفي ذلك تقول الدولة إن تصالحها مع المسلحين لايحول دون مقاضاة أصحاب الحقوق الإنسانية من المواطنين وعلي المستوي الفردي لمن يثبت تورطه منهم بجرائم. ولتدرك حقيقة هذه الجماعات التي حشد الغرب آلته الإعلامية لنقل آثار تصدي الجيش الرسمي لها من قتلي في صفوفها ورّوجوا لهذه المشاهد علي أنها استهداف من الجيش النظامي للمواطنين الأبرياء، واتخذ من ذلك ذريعة لعزل الدولة السورية وعقابها وحشد ودعم كل قوي وجماعات الشر ضدها يكفي أن تطلع علي ما جري لمدرسة ابتدائية حكومية ( مجانية ) هي مدرسة عكرمة المخزومي فهذه المدرسة التي بقيت تعمل وتستقبل الأطفال من تلاميذها أبناء حمص حتي في أوج الاقتتال والحرب الدائرة في أرجاء المدينة ، ولكونها مدرسة نموذجية بكل المقاييس وتضم كل الأنشطة الثقافية والفنية والأدبية حصلت في نهاية عام 2014 علي جائزة من مؤسسة تابعة للأمم المتحدة صنفتها كأفضل مدرسة ابتدائية مجانية في العالم، فبعد حصولها علي الجائزة تقديرا لتميّزها وتميّز أطفالها العلمي والثقافي والفني والأدبي اعتبرها المسلحون هدفاً مشروعاُ كممثل للنظام السوري من وجهة نظرهمفوجهوا اثنين من الانتحاريين فجرا نفسيهما في التلاميذ لحظة انصرافهم من المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي ، قتل المسلحون أكثر من 35 طفلاً من التلاميذ وأصابوا منهم المئات، غير من قتلوا وأصيبوا من أولياء الأمور. حال حمص هو النموذج لما عليه كثير من المحافظات والمدن السورية، أما الأسوأ وحال مناطق الشمال الشرقي التي سيطر عليها مجرمو ما يعرف بتنظيم (داعش) والأشد كفراُ وإرهاباً بين كل الجماعات المسلحة الفاعلة في سوريا فالتنظيم المدعوم تركياً عاد بالزمن إلي جاهلية حقيقية فيها السبي والنخاسة وقطع الطريق واقع معاش. أخيراً، لا تخوض سوريا الدولة والشعب حرباً ضد الإرهاب وحده وإنما حرب وجود تحالف فيها الإرهاب مع كل أعداء الدولة والشعب في الغرب وإقليمياً، حرب يراد منها تقسيم الوطن السوري وتشريد شعبه، وإخراجه من صف المواجهة مع الكيان الصهيوني، فإن كنت من بين من يشككون في الأمر راجع كيف وأين وجه الطيران الصهيوني قصفه ولأكثر من مرة إلي الجيش السوري ففي كل مرة وقع فيها عدوان علي سوريا كان الهدف هو نجدة الميليشيات المسلحة ومنع الجيش النظامي وقوي المقاومة الوطنية المتحالفة معه ومن بينها حزب الله من تحرير المناطق الواقعة تحت سيطرة هذه الميليشيات بعد ما كاد الجيش أن ينهي وجودها فيها. الوضع الملتبس في سوريا لم يعد في الأحوال الغالبة ملتبساً علي الشعب، وإنما عرف الشعب موالاته ومعارضته الوطنية أن لا مكان لهم في هذه الحرب الوطنية إلا في مواقع الاصطفاف مع الدولة ومؤسساتها الجيش والأمن وغيرهما.. أما أصوات المعارضة الخارجية التي بعدها تطالب بتفكيك المؤسسات فهي واقعياً وعملياً ووجدانياً منفصلة وبالكلية عن إرادة الشعب السوري التي لا يحكمها أو يتحكم فيها اليوم غير الإصرار علي الاحتفاظ بوحدة أراضي الوطن والخلاص من أعداء الحياة علي أرضه.