ففي منتصف المهرجان كانت هناك وقفة احتجاجية من عدد كبير من الطلبة العرب والفرنسيين.. الذين قاموا بمظاهرة داخل «الكوروم» وهو مبني يضم قاعات سينما.. وأوبرا علي مساحة تزيد علي الستة آلاف متر.. وتقام به معظم الأنشطة الثقافية والفنية والموسيقية بمدينة مونبلييه. إنه أشبه «بقاعة المؤتمرات» لدينا لكن بتصميمات أحدث بكثير. التظاهر والوقفة الاحتجاجية كانت ضد إسرائيل وممارساتها العنصرية ضد الفلسطينيين وسكان غزة.. والجدير بالذكر فإن المهرجان يتعرض لضغط كبير منذ عامين لمناصرة السينما الإسرائيلية علي حساب الفن وذلك من قبل الاتجاهات اليمينية. مظاهرة أخري تجمعت بالقرب من الكوروم.. شارك فيها عدد كبير من الشباب والطلبة.. والمعروف أن مدينة مونبلييه هي مدينة (الشباب).. وذلك احتجاجا علي الممارسات العنيفة للشرطة في فض المظاهرات مما أدي إلي وفاة أحد الشباب ليلة 25 أكتوبر الماضي. ولعلها المرة الأولي التي يهاجم فيها رئيس المهرجان في حفل الختام عمدة المدينة (سوريل) ويتهمه بالتآمر علنا علي الثقافة والمهرجان.. بتقليص الميزانية.. وإزاحة فريق العمل (رئيس المهرجان) «هنري تالفاه» الذي شارك في تأسيسه مع رئيسه السابق الراحل «بيير بيتيو». والحقيقة أن المتابع لتاريخ المدينة الثقافي كان ليفخر بها كثيرا فالعمدة السابق الذي توفي منذ عامين «جورج فريش» كان عاشقا للفن والثقافة.. والسينما علي وجه الخصوص لذلك كان يدعم المهرجان بشدة. تري إلي أين سينتهي هذا الصراع.. ولصالح من سيحسم؟ هذا ماسوف تجيب عليه الأيام القادمة. لم يحدث تقريبا في تاريخ مهرجان «مونبلييه»،، أن حصد فيلم جميع جوائز لجان التحكيم المتغايرة بما فيها جائزة الجمهور التي غالبا ماكانت تذهب إلي فيلم يتسم بمقومات السينما التجارية حيث حصد الفيلم الجورجي الفرنسي «أرض الذرة» جائزة لجنة التحكيم الكبري «أنتيجون».. وجائزة النقاد الدولية.. وكذلك جائزة الجمهور.. الفيلم من إخراج «جورج أوفاشفيلي».. وهو مخرج عبقري استطاع أن يقدم فيلما رائعا.. يكاد يخلو من كل حوار.. مع موسيقي تصويرية معبرة استحق عنها جائزة أحسن موسيقي تصويرية أيضا. الفيلم يأخذنا في رحلة حقيقية داخل نهر (اليف) الذي يخترق إقليم «أبخازيا».. قرب الحدود المشتركة بين روسيا.. وجورجيا.. حيث للطبيعية سحر خاص وغموض كبير.. فنتيجة للأمطار الغزيرة التي تسقط علي تلك المنطقة يفرز النهر أرضا خصبة للغاية.. تشكل جزرا وسط النهر الهادر.. اعتاد السكان ولأجل الحياة أن يقطنوا هذه الجزر بشكل مؤقت ويقوموا بزراعة «الذرة» حيث إنه المحصول الرئيسي كالقمح عندنا.. لكن للأسف الشديد عادة بعد ذلك تهطل الأمطار وتطيح بهذه الجزر ربما قبل أن ينجح المزارعون في حصد ما تعبوا في زراعته.. وقد يكون الثمن حياتهم.. لكن مع هذا دورة الحياة لاتتوقف.. وكذلك قسوة الطبيعة.. إنه صراع بين الإنسان والطبيعة علي البقاء. ولقد نجح (جورج) من خلال الجد العجوز الذي يصل إلي إحدي الجزر بصحبة حفيدته المراهقة.. في أن يقيم كوخا.. ويقوم بزراعة الأرض بعد اختبارها.. وذلك بعد أن يجد جسما مدفونا في الأرض مما يعني أن هناك أحدا قبله قدم حياته تحت ثري هذه الأرض.. لكن ليس هناك ما يمنع من المحاولة من جديد من لقمة العيش والاستمرار في الحياة، علي ظهر هذه الجزيرة تبدو الحياة قاسية وحتي عندما يلجأ إليهم «مصاب» جريح تبحث عنه كل من السلطات الروسية والجورجية.. يرفض الجد أن يقدمه لهم.. ويعمل علي علاجه وحمايته. الذرة تنمو.. وتحتاج إلي من يحصدها.. لكن الطبيعة لاتعطيهم الفرصة كاملة لذلك حيث أثناء الحصاد.. يبدأ المطر في الهطول.. والأرض تتفكك فإنها أرض مؤقتة.. وينقذ الجد والحفيدة قدر المستطاع بعضا من المحصول في القارب الذي تجرفه مياه النهر الهادر بالحفيدة.. بينما الجد لايستطيع النجاة بعد أن ينهار المنزل فوقه.. ويغوص في أعماق النهر.. لينتهي الفيلم بعد ذلك بقادم جديد.. علي جزيرة أخري مما تبقي من الجزيرة الأولي.. لتبدأ دورة الصراع من أجل الحياة من جديد. إنه فيلم أكثر من رائع.. كلمات حوارية قليلة للغاية.. لكن صورة معبرة.. وأداء متميز للممثلين وهم «إلياس سلمان» في دور الجد.. و«ميريام بوتور شفيلي» في دور الحفيدة.. وإيراكلي ساموشيا في دور الجندي المصاب. مخرج الفيلم «جورج» يبلغ من العمر واحداً وخمسين عاما.. درس في معهد السينما والمسرح بجورجيا.. قدم فيلمه الأول «الشاطئ الآخر» عام 2010.. الذي حصد أكثر من خمسين جائزة من مهرجانات مختلفة.. و«أرض الذرة» هو فيلمه الروائي الثاني. ولعل أكثر ما أسعد جورج أن فريق العمل الخاص بالفيلم كان يشتمل علي أكثر من ثلاث عشرة جنسية.. لغات متعددة.. لكن اللغة المشتركة بينهم كانت (حب السينما) و«عشق الصورة». كما يقول مخرج الفيلم إنه أمضي طفولته في «أبكاز» من جهة البحر الأسود حيث كانت طفولته ومراهقته سعيدة.. ذكريات كثيرة لاينساها، منها حبه الأول.. ثم جاءت الحرب.. وقيل لنا عليكم مغادرة أرضنا.. أنتم تنتمون إلي جورجيا كان ذلك عام 1992. وبالفعل تم ترحيل مئتين وخمسين ألف (جورجي) كانوا يقطنون في «أبكاز» لكنهم رحلوا مضطرين. وعن الجزيرة التي تم التصوير فيها.. ونظرا لصعوبة واستحالة التصوير علي الجزر الحقيقية.. تم بناء جزيرة.. وكان عليهم التصوير علي مرحلتين.. كل منهما زادت عن الستة أشهر مرة في موسم الأمطار.. والثانية أثناء الزراعة.. ولم يحاول (جورج) الاستعانة إلا في أقل القليل بإضاءة صناعية.. بل اعتمد علي الأضواء الطبيعية. إن هذا الفيلم بجماله وروعته سيدفع بالسينما الجورجية إلي مصاف العالمية ويجعل الكثيرين يهتمون بها.. لأنه تحفة فنية جمالية نادرا مانشاهد مثلها علي الشاشة.