منذ أكثر من ثلاثين عاما تنظر الصحافة المصرية إلي حرب أكتوبر باعتبارها الحرب الوحيدة في العالم وتنظر إلي السينما باعتبارها صحافة ينبغي أن تغطي الحدث وتبرزه في أكتوبر من كل عام بأفلام جديدة، وعبر تحقيق صحفي أو مقال جاهز سنويا ينادي الكاتب بسينما تليق بالحدث العظيم دون اعتبار لطبيعة السينما أو لطبيعة الإبداع والشعوب في المراحل التي تلي الحروب ولا يخلو الأمر من اتهامات بالتقصير للسينمائيين و مناشدة للدولة دعم إنتاج أفلام تليق بالحدث .. ورغم تقديم السينما لعدد من الأفلام التي تتناول حرب أكتوبر والاستنزاف إلا أن الصحف وعددا لا بأس به من النقاد - مازالوا - يرون أنها لا تليق بالحدث. وهو ما يضطرنا لإعادة تعريف السينما وصولا إلي ما ينتظر إنتاجه ومالا ينتظر، فالأصل في السينما أنها إعادة إنتاج للمجتمع عبر منظور فني طبقا لقواعد الدراما وجماليات الصوت والصورة بهدف الإمتاع والتسلية والعبرة أما الدعاية السياسية والعسكرية فهي عمل يستخدم فنون الصورة لتحقيق أهداف محددة وإقناع الجمهور بوجهات نظر معينة يهدف إليها صانع العمل ومموله. ولأن السينما ليست روائية فقط فإن الأقرب إلي توثيق البطولات هي التسجيلية ورغم ذلك فقد أدت السينما الروائية دورها طبقا لطبيعتها المتأملة والتي تحتاج وقتا أطول للتعرف علي ما يعنيه الحدث وليس الحدث نفسه. عود علي بدء ورغم كل ذلك فإن النقد السينمائي يعرف جيدا تصنيفات " سينما ما بعد الحرب " وهي أعمال تتميز بطابع خاص لا يتم خلالها نقل مشاهد البطولة من الميدان إلي موقع التصوير ومن ثم الشاشة ولكن يتم فيها رصد الدوافع والقيم العليا التي تؤدي إلي قرار الحرب أو الاستشهاد أو القيام بفعل بطولي ومن ثم اختزاله في معظم الأحيان وليس استعراضه ببذخ إنتاجي إلا في حالات الضرورة الدرامية. " سينما ما بعد الحرب " ظهرت بوضوح في موجات الكوميديا العبثية التي اجتاحت أوروبا بعد الحرب العالمية الأولي ثم هوليوود بعد الحرب العالمية الثانية وظهرت آثار الهزيمة بعد يونيه 1967 في أفلام الكوميديا والاستسهال باستثاء بعض النماذج التي طرحت مراجعات للأخطاء التي وقع فيها الساسة والمجتمع نفسه وأدت إلي الهزيمة. وتبعا لذلك فإن المطالبة بفيلم عن أكتوبر هو مطالبة بعمل دعائي حربي يقصد منه تمجيد أصحاب البطولات الذين كان يتقدمهم الرئيس الراحل أنور السادات ثم تلاه " مبارك صاحب الضربة الجوية الأولي " وهو الأمر الذي يلقي بالكثير من ظلال الشك علي الهدف المعلن من المطالبة بفيلم يليق بالحدث.. والفارق بين قيم أكتوبر التي ظهرت في الأفلام وبين غيرها يظهر واضحا حين نستعرض أحد أفلام ما بعد هزيمة يونيه وليكن " أبي فوق الشجرة " والذي حقق أعلي الإيرادات في تاريخ السينما المصرية و ظل في دور العرض لعام كامل بينما كان الجمهور يشاهد الفيلم ليحصي قبلات بطل الفيلم للبطلة ومن ثم نتذكر أفلام أكتوبر. أفلام أكتوبر وقد حررت السينما سيناء قبل أن تؤدي الحرب هذه الوظيفة حيث زرعت الأمل والعزيمة بأفلامها ولعل فيلم «أغنية علي الممر» خير شاهد والذي أنتجته مؤسسة السينما في بداية سبعينيات القرن الماضي، عن مسرحية ل«علي سالم» كعمل أول للمخرج «علي عبدالخالق». حمل الفيلم روح التصميم علي استعادة الأرض عبر إصرار" الشاويش محمد" محمود مرسي علي مقاومة العدو وحده بعد أن استشهد خمسة وعشرون جندياً كان يقودهم داخل أحد ممرات سيناء، مدعماً بأربعة جنود باقين علي قيد الحياة يرددون أغنية وضعها واحد منهم. وجاء فيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي» عام 1974 عن قصة إحسان عبدالقدوس ليعرض مشاهد حقيقية لعبور قناة السويس واقتحام خط بارليف. وفي فيلم «بدور» الذي أخرجه نادر جلال تدور الأحداث حول صابر (محمود ياسين) العامل الذي يتعرف علي بدور (نجلاء فتحي) الفتاة التي تحاول سرقته ويستضيفها لديه في منزله قبل أن يتزوجها ويرحل إلي الجبهة ليشارك في الحرب يعود زملاؤه ليرووا قصة استشهاده، ترفض بدور التصديق وتنتظره ولا يطول بها الانتظار حتي يعود. أبناء الصمت وعن قصة لمجيد طوبيا أخرج محمد راضي فيلم «أبناء الصمت» في نفس العام ليعرض قصة مجموعة شباب مجندين أثناء حرب الاستنزاف التي أعقبت هزيمة يونيو 1967. تتنازع الشباب أحلامهم الخاصة، وتصدم خلفياتهم الاجتماعية بعضها البعض، وتعرض الأحداث صورة من الجبهة الداخلية وقت المعركة، وتنتهي بعبور القوات المسلحة قناة السويس، وأسر عساف ياجوري قائد أحد لواءات الدبابات. قصة أخري يقدمها فيلم «حتي آخر العمر» الذي أخرجه أشرف فهمي عن قصة ليوسف السباعي عام 1974 إذ يصاب الزوج محمود عبدالعزيز في حرب أكتوبر إصابة كبيرة تلقي به علي كرسي متحرك، وترفض زوجته نجوي إبراهيم أن تتركه، رغم محاولة صديقه عمر خورشيد الإيقاع بها. وفي عام 1978 تستعين السينما بقصة ثانية ليوسف السباعي في فيلم بعنوان «العمر لحظة» يخرجه محمد راضي وتلعب بطولته الفنانة ماجدة، يحوي الفيلم مشاهد مهمة كغارة إسرائيل علي مدرسة بحر البقر الابتدائية، ومظاهرات الطلبة الشهيرة التي اجتاحت مصر في عام 1972، ثم النهاية الطبيعية بحرب أكتوبر. ويعتبر فيلم (الرصاصة لا تزال في جيبي) علامة من علامات السينما المصرية التي جسدت حرب 6 أكتوبر، من خلال قصة الشاب محمد الذي حمل نفسه المسئولية الكاملة بعد نكسة 67 وكأنه كان سببا فيها، مما ترتب علي ذلك ضعفه في الحفاظ علي حبه الوحيد لفاطمة. تلك القصة الإنسانية دفع بها المؤلف إحسان عبد القدوس ليكتب عما عاناه الشعب المصري ولكن بمنظور رومانسي بحت، ولم يضع الحرب علي هامش الفيلم كما حدث في بعض الأعمال السينمائية ولكنه ساوي بين الحدثين.