«لا تاريخ بلا وثائق» مقولة أطلقها سينوبوس في القرن التاسع عشر، تلقفها المؤرخون والباحثون عن الحقيقة، لكن رجال السياسة في كل مكان في العالم تفننوا في إخفاء الوثيقة كونها عنوان الحقيقة، ثورة 23 يوليو لم تكسر القاعدة، وثائقها غائبة عن المشهد فحضرت المذكرات والذكريات، غابت الأصول فظهرت الشهادات الشخصية تلون الحدث لتجعل من صاحبها صانع التاريخ الأوحد، جرت في نهر السياسة المصرية مياه كثيرة تغيرت أنظمة ورؤساء وحكومات، لكنها لم تستطع أن تخترق حقيقة غياب وثائق الثورة. مثل كهف مسحور.. الداخل فيه مفقود، ظل المكان الذي تقبع فيه وثائق الثورة مجهولاً للمؤرخين.. ثورة بلا أرشيف ولا ذاكرة ألعوبة في يد الهوي، يكتب عنها كل من يريد بما يريد، ما تجلي بوضوح في مسلسل «صديق العمر» الذي يعرض حالياً علي عدة فضائيات، قائم علي مذكرات لبعض شخصيات تاريخية معظمها مختلق أخرجته مخابرات دول عربية أثناء صراعها مع الزعيم جمال عبدالناصر لتشويهه. الثورة تجاوزت ذهبيتها بسنتين، ووفقاً للقوانين الدولية الحد الأقصي لمنع نشر الوثائق هو خمسين عاماً، لكن إماطة اللثام عن وثائق الثورة اصطدم بالرغبة الأمنية، لم يعد هناك آمال إلا في ظهور بطل علي شاكلة مفجر قضية «ويكليليكس»، يخترق المستحيل ويكشف لنا الحقائق، فمع الاحتفال كل عام بذكري ثورة 23 يوليو 1952 تغلب العاطفة العقل، لا يكتب تاريخ الثورة وما جرته خلفها من أحداث المؤرخ الواعي، بل مجموعة من الهواة وأصحاب المصالح من كتاب المذكرات والذكريات، بعدما غابت الوثيقة لتفسح المجال للنميمة السياسية، وهو ما أثار استياء واسعا بين أساتذة التاريخ الذين طالبوا الحكومة بالإفراج عن وثائق ثورة يوليو. الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة «عين شمس»، كشف ل«آخر ساعة» تفاصيل اكتشافه لأرشيف «منشية البكري»، الذي يضم معظم وثائق ثورة 52 وعصر عبدالناصر كله، وهو الأرشيف المغلق حالياً، قائلاً: «اتيحت لي فرصة الإطلاع علي أرشيف منشية البكري الكامل مرتين، عندما كنت أكتب أحد أبحاثي عن فترة الثورة، وإشرافي علي رسالة لإحدي تلميذاتي، وتفاجأت بحجم المعلومات الهائلة التي تقدمها وثائق هذا الأرشيف والكفيلة بتصحيح العديد من الأخطاء التاريخية وإعادة كتابة أحداث ثورة 52 من جديد». وأضاف شقرة: «بعد أن اطلعت علي تلك الوثائق تم إغلاق الباب عليها من جديد، عقب نقلها من منشية البكري، ولم يطلع عليها باحث مرة أخري حتي يومنا هذا، علي الرغم مما يحتويه هذا الأرشيف من كنوز معرفية كفيلة بتبديد الكثير من الأوهام»، مشيراُ إلي أن مضابط اجتماعات مجلس قيادة الثورة غير موجودة لدي الدولة وإنما عند كاتب تلك الجلسات كمال الدين حسين، الذي يعتبرها ملكية شخصية ويرفض الكشف عنها لأي باحث. وأكدت الدكتورة لطيفة سالم، أستاذة التاريخ الحديث بجامعة «بنها»، ل«آخر ساعة» أن معظم وثائق ثورة 23 يوليو لم تظهر بعد لأنها لا تزال حبيسة أماكن مجهولة للباحث التاريخي، وأن ما ظهر من وثائق يقتصر علي بعض ملفات وزارة الخارجية فيما يخص علاقات مصر ببعض الدول، أما أهم وثائق الثورة والخاصة باجتماعات مجلس قيادة الثورة، التي تروي لنا ما كان يجري في اجتماعات الضباط الأحرار فغير موجودة ولا نعلم عنها شيئاً، ولا نعلم حتي أين هي الآن، وهل هي محفوظة في مكان ما، أم أنها فقدت بشكل نهائي. وأضافت سالم أن المشكلة تتضاعف إذا ما علمنا أن الوثائق القليلة المتعلقة بأحداث ثورة 23 يوليو والموجودة في دار الوثائق غير منظمة وينقصها الترتيب، ما يزيد من معاناة أي باحث يحاول الكتابة بنزاهة وموضوعية عن تلك الفترة المحملة بالأحداث المفصلية في تاريخ مصر، يستثني من ذلك مجهود الدكتورة هدي عبدالناصر، ابنة الزعيم جمال عبدالناصر التي نشرت معظم خطب والدها والكثير من الوثائق المتعلقة بفترته، لكنه مجهود فردي لا يكفي لبناء أرشيف متكامل للثورة وأحداثها المختلفة التي شارك فيها كثيرون. وحذرت سالم من خطورة غياب وثائق 23 يوليو كون ذلك يجبر الباحث إلي اللجوء إلي الأرشيف البريطاني الذي لديه الكثير من الوثائق المتعلقة بأحداث 23 يوليو، لكنها تحمل وجهة النظر البريطانية، وغير خاف علي أحد أن بريطانيا كانت تناصب العداء لمصر وقتها، ومن هنا فقد يتأثر الباحث بوجهة النظر البريطانية في ظل عدم تمكنه من الاطلاع علي نظيرتها المصرية، كما أن غياب الوثائق سمح بانتشار ظاهرة مذكرات العديد من معاصري الثورة، فالكثير من الضباط الأحرار من الدرجة العاشرة كتبوا مذكراتهم وادعوا فيها أنهم كانوا من قيادات الصف الأول للثورة، وأن لهم الفضل في الكثير من القرارات المصيرية وهي محاولات يائسة لاختلاق حقائق غير موجودة إلا في ذهن صاحبها، وهو ما يجب أن يأخذه القارئ لتلك المذكرات بعين الحذر.