هبه وزوجها .. لحظات سعيدة لن تتكرر ضمائر غائبة تحت معاطف بيضاء، جرائم مكتملة تتم في غرفِ المستشفيات، أخطاءٌ طبيةٌ فادحة يدفع ثمنها آلاف الأبرياء كان آخرهم الشابة الراحلة "هبة العيوطي" التي توفيت نتيجة حقنها بمادةٍ كاوية بدلاً من مادة الصبغة، أثناء إجرائها أشعة علي الرحم في أحد المستشفيات الخاصة الشهيرة بالمعادي. لاتتوقف المأساة عند ذلك فالطبيب لم يتدارك خطأه خوفاً من المساءلة ليترك الفورمالين يتغلغل في أعضائها الداخلية إلي أن قضت نحبها.. "آخر ساعة" التقت بأسرة الراحلة هبة الكان غيابها أكثر حضوراً هنا في منزلها، تطلُ مبتسمةً من صورتها علي يمين المدخل ومن عينيّ والدها الذي يخفي نار الحزن في صدره بابتسامةِ رضا ويردد «الحمدلله». يثق علاء العيوطي أن ابنته في مكانٍ أجمل وأنقي، وأن روحها تحلقُ هادئةً مع ملائكةٍ بيضاء وتلاحق في ذات الوقت قاتليها وتقلق منامهم. يوقن في عدالة السماء، ويقول لي «هبة ربنا اختارها عشان بيحبها وعايزها جنبه، لا شيء يعوض خسارتي في ابنتي لكنها هي التي أوكلت ربها ليقتص من الجناة، سيأخذون جزاءهم مهما حاولوا التنصل من القضية. هي الآن تثبتنا وتخفف علينا لأنها كانت ملتزمة وقريبة جداً من ربها والجميع يشهد لها بالخير، الطبيب المجرم لم يقتل هبة وحدها لكن قتلنا أجمعين» يخبرني أن هبة كانت تعمل بشركة بترول شهيرة بالمعادي تخرجت بكلية تجارة انجليزي وكانت الأولي علي دفعتها لأربع سنوات وحصلت في الثانوية العامة علي 99%. بينما تحكي والدتها هالة نجم بحسرةٍ ماحدث لابنتها: هبة متزوجة من سنة ونصف ولم تكن تعاني من أي شيء ولكن تأخرها في الحمل جعلها تتابع مع الدكتور صلاح زكي استشاري أمراض النساء لتطمئن، طلب منها إجراء أشعة بالصبغة علي الرحم والأنابيب -وهو إجراء اعتيادي ليس به أي خطورة- وبالفعل توجهنا إلي المستشفي لنجري الأشعة يوم 11-5. كنت أنتظر في الخارج مع أختها التوأم وسمعت هبة تصرخ بصوت عال من داخل غرفة الأشعة عندما بدأ الدكتور محمد صلاح في حقن المادة. دخلت مسرعة لأري هبة تتلوي وتزحف علي الأرض من الألم، وشعرت برائحة نفاذة تملأ الغرفة وتُدمع عينيّ، بينما يصرخ الدكتور في وجه فني الأشعة بارتباك وهو يمسك بالعبوة «دي صبغة ؟!» ماإن رآني حتي جعل الممرضة تخفي العبوة المستخدمة وتستبدلها بأخري. «كل شيءٍ كان سريعاً وصادماً» تتابع والدتها وهي تتذكر تفاصيل ذلك اليوم: عندما سألت الدكتور عما جري لابنتي قال لي «بنتك بتتدلع شوية هنديها حقنة فولتارين وهتبقي كويسة» أوهمني أن لديها صدمة والألم الذي تشعر به طبيعي يصاحب أحياناً بعض السيدات أثناء حقن الصبغة وأنه توقف ولم يحقن غير 5 سنتيمترات. أعاد لي المبلغ الذي دفعته واسترد إيصال الدفع وطلب منا مغادرة الغرفة بحجة أن هناك حالات أخري، ثم اختفي الدكتور تماماً وعندما سألنا عنه قالوا إنه دخل غرفة العمليات. عدنا بهبة إلي البيت وهي تعاني آلاماً مبرحة وتستفرغ طوال الليل إلي أن فقدت الوعي، بحلول الفجر بدأت بطنها تنتفخ وغاب نبضها تماماً، كانت تموت أمامنا فركضنا بها إلي مستشفي النخيل بالمعادي باعتبارها الأقرب وهناك أبلغنا الأطباء أنها تحتاج إلي تدخلٍ جراحي عاجل لإنقاذ حياتها. «لا أحد كان يصارحنا بحقيقة الخطأ الذي ارتكبه الطبيب، الجميع تآمر علينا» يبادرني عمرو شقيق الراحلة وهو يصف لي كيف اكتملت أركان جريمة قتل شقيقته بالتستر الجماعي عليها طوال 27 يوماً، هي المدة التي قضتها في مستشفي النخيل تصارع المادة الحارقة التي كَوت أمعاءها. يتابع: بمجرد وصولنا المستشفي أُدخلت هبة إلي قسم العناية المركزة وفي اليوم الأول أجري لها الجراح حسن الصويني عملية جراحية طارئة استأصل فيها 80 سنتيمترا من الأمعاء الدقيقة مصابة بالغرغرينا ومحترقة بالكامل أعقبها إجراء غسيل معدة ب 9 لترات محلول ملح. وبعدها بقيت في الرعاية المركزة لمدة 15 يوماً دون أي تحسن فأجريت لها عملية أخري -استمرت 6 ساعات- بسبب انسداد وصلات الأمعاء وحدوث عدة خراريج في المعدة، وتم فيها استئصال 39 سنتيمترا أخري من الأمعاء الدقيقة. يلتقط طرف الحديث والدها الذي يخبرني أنه اتخذ قراره باستكمال علاجها في الخارج بعد تدهور حالتها الصحية بشكل سريع، فبعد العملية الأخيرة أصيبت بمرض «الناصور» حيث كانت عصارة المعدة تخرج من أماكن خياطة الجرح بمعدل 3 لترات يومياً لأن الأمعاء مهترئة، لم تأكل شيئاً لمدةِ شهرٍ كامل كانت تعيش علي المحاليل. ولكن سفرها إلي ألمانيا برفقة والدها يوم 7 يونيو الجاري كان الأمل الأخير الذي تعلق به جميع أفراد عائلتها وأصدقائها. انتظروا أن تعود إليهم من رحلة العلاج علي أقدامها مبتسمةً كما اعتادوها دوماً، وقد عادت إليهم مبتسمة ولكن في صندوق!. فبعد يومٍ واحدٍ من وصولها إلي ألمانيا تحطّم الأملُ سريعاً توفيت هبة العيوطي بعد أن أبلغ الأطباء والدها أنها عانت من تسممٍ في الدم لمدة 10 أيام بسبب انتشار مادة الفورمالين في جسدها، وأن الطبيب الذي حقنها بالخطأ كان يمكن أن ينقذ حياتها لو أنه فقط أجري لها غسيل معدة فوريا!. «ربِّ إني مسّني الضرُّ وأنت أرحمُ الراحمين» رددتها الراحلة خمس مرّات ساعةَ احتضارها في ألمانيا. كان يرافقها خالد طه ابن عمتها الذي شهد آخر لحظاتها في الحياة. يحكي مُستحضراً المشهد الأخير: كنت معها في غرفة العناية المركزة حين طلب مني الطبيب الألماني أن أسألها عما إذا كانت تشعر بألم، نظرت إليّ مبتسمةً وقالت لي «أنا رايحة، بس ربنا مش هيموتني». نطقت الشهادتين ودعت ربها، طلبت مني أن أقرأ سورة الانشقاق ثم أغلقت عينيها. إلي آخر لحظاتها كانت تسألني عن مواعيد الصلاة، تتيمم وتطلب مني أن أضع الطرحة علي رأسها لتصلي. «زوجتي ضاعت بسبب طبيب معدوم الضمير» يبدأ حديثه محمد سيد زوج الراحلة هبة العيوطي، يتذكر كيف كانت تحتملُ آلامها المبرحة وهي في غرفة الإنعاش بابتسامةٍ تستقبلُ زوارها تخففُ من حزنهم عليها، لاتقول غير «الحمدلله». تعتذر له عن غيابها عن المنزل، وتطلب منهم كل ليلة أن يناموا مطمئنين. «فلوس الدنيا كلها مش هتعوضني عن هبة» يؤكد أنهم لن يفرطوا في حقها حتي يغلق المستشفي ويأخذ جميع المتسببين في وفاة زوجته عقابهم الرادع لأن هؤلاء الأطباء لايمكن أن يؤتمنوا علي صحة الناس وأرواحهم. يضيف: ما ارتكبه الطبيب لايعتبر خطأً طبياً مجرداً لكنه قتل عمد لأنه تنصل من مسؤوليته في تدارك الخطأ وإنقاذ حياتها، وأخفي فعلته خوفاً من المساءلة رغم أنه يعلم جيداً أنه حقنها بمادة كاوية. والأدهي من ذلك أن يتستر عليه الأطباء الآخرون. لذا تقدمنا ببلاغ إلي النائب العام يوم 12-6 ضد المستشفي والطبيب والممرضة وكل المتواطئين في الجريمة، ولمسنا اهتماماً كبيراً من النائب العام شخصياً ووزير الصحة الذي تقدم بدوره ببلاغٍ آخر. ويشير محمد إلي أن هدف الأسرة من السعي وراء حق هبة هو إحداث ثورة تزلزل المنظومة الصحية المتردية وتفضح الأطباء معدومي الضمير حتي ننقذ آلاف الأبرياء من أن يلاقوا مصيرها، ونشجع ضحايا الإهمال الطبي علي المطالبة بحقهم. يتابع: نعرف أننا مقدمون علي معركة شرسة وبالفعل يحاول المستشفي المراوغة ونفي التهمة عن إدارته وإلصاقها بالطبيب والتمريض فقط. لكن التحقيقات كشفت مهازل الإدارة فالممرضة المتورطة مع الطبيب غير حاصلة علي شهادة تمريض وبالتالي لايصرح لها بممارسة المهنة غير أنها متدربة منذ 15 يوما فقط في المستشفي، كما اكتشفنا أن الطبيب غير متخصص في الأشعة، مايكشف الإهمال الجسيم من قبل إدارة المستشفي. ماتت هبة لكنها تركت نسخةً منها، لم تتقاسم معها ملامح الوجه فقط بل كانتا تتقاسمانِ العمرَ والتكوين وكل تفاصيل الحياة. جلست إليّ أختها التوأم رنا العيوطي تتشحُ بسوادٍ لايكفي لاحتواء حزنها، أعادت في لحظةٍ شريط العمر وتفجر سيلٌ من الذكريات. تخبرني أنها لم تفارق هبة يوماً واحداً منذ أول يومٍ لهما في الحياة. مقعدها المجاورُ كان دوماً محجوزاً لها من حضانةِ الأطفال مروراً بفصل المدرسة إلي قاعة محاضرات الجامعة التي احتضنتهما سويا. وصدفةٌ تقعُ مقراتِ عملهما في نفسِ الشارع لتقتنص من وقتِ الراحةِ فرصةً لرؤيتها. وتقول: كنا نشعر ببعضٍ كأننا جسد واحد عندما دخلت إلي غرفة العمليات شعرت بألمٍ رهيب في بطني، وبعدما خرجت وجدت خياطةَ الجرحِ في نفس المكان. وفي غرفة الإنعاش لم يكن باستطاعتها أن تتكلم كانت تكتب لي علي ورق لتعبر عما في داخلها، وقالت لي «أنا مش مسامحة الدكتور». لاشيء يعوضني عن هبة حسبنا الله ونعم الوكيل. عيوطي في منزلها بحي المعادي.