اليخت الذى استقله المشاركون فى رحلة إلى جزيرة «تيران» في مقهي قُرب شركته التي أوصدت أبوابها بوسط القاهرة يجلس شريف عبدالله نادباً حظه بعدما فقد عمله في أعقاب ثورة يناير 2011 وبينما يتذوق الرشفة الأخيرة من قدح قهوته السادة، ينتبه إلي سؤال صديقه: "هل وجدت فرصة جديدة أم مازال الوضع علي ما هو عليه؟". يقع السؤال علي شريف كالصاعقة، ولأن "الحال محلك سر" يكتفي بتنهيدة طويلة أعادته لأكثر من ثلاث سنوات إلي الوراء، مسترجعاً ذلك اليوم الذي قام فيه صاحب الشركة بتسليمه خطاب شكر، وكيف أن شريف طلب الاستمرار في العمل ولو بنصف راتبه.. لكن الإجابة كانت صادمة: "آسف جداً الشركة تخسر وده حال كل شركات السياحة في البلد.. الأوضاع الحالية قضت علي السياحة". شريف الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره لم يكن وحده الذي أضير بسبب انهيار السياحة في مصر. ثمة الآلاف غيره فقدوا عملهم. بعض زملائه من المحاسبين وجد فرصة عمل في شركات تعمل في مجالات أخري، لكن الحظ لم يبتسم لشريف بل اضطر إلي فسخ خطبته من الفتاة التي أحبها لسنوات لأن مستقبله حسب ما قال والدها أصبح "علي كف عفريت". بين مقهي وآخر أضحي إيقاع حياة شريف، وربما جلس إلي جواره أو علي بُعد طاولة واحدة آخرون يتشاركون معه في الأزمة ذاتها، يعانون جميعاً ألم البطالة وفقد العمل، وربما كانوا يمتهنون العمل في مجالات أخري، إلا أن السياحة أطاحت بالكثيرين، ممن لايزالوا يحلمون باستعادة حياتهم وقوت يومهم. وفي المنطقة الفاصلة بين هذا الفقد وذاك الحلم، كان شباب آخر يقطعون مسافة افتراضية علي الإنترنت لإعادة الحياة إلي وطنهم. ملأهم الحماس وأخذهم إلي أفق رحب وكان لديهم هدف واحد هو عودة السياحة التي تمثل أحد أهم مصادر الدخل القومي لمصر، فانطلقت الفكرة من عالم "فيسبوك" إلي أرض الواقع. البداية كانت مبكرة. منذ ليلة 28 يناير 2011 المعروفة ب"جمعة الغضب"، حين حاول بعض البلطجية حرق المتحف المصري وسرقته، بينما تصدي لهم عشرات الشباب وصنعوا بأجسادهم ساتراً منيعاً حال دون تخريب المتحف وما فيه من شواهد تحكي حضارة أجدادنا الفراعين. هؤلاء الشباب الذين وضعوا حياتهم علي أكفهم حماية للمتحف كان عددهم حوالي 450 شاباً وفتاة، تعرفوا علي بعضهم البعض وقتما كانوا يشكلون لجاناً شعبية لحماية المتحف بالتنسيق مع قوات الجيش والشرطة، وبعدها قرروا تشكيل حملة تحت مسمي "شباب المتحف المصري"، لم يكن الغرض منها في البداية تنشيط السياحة، لكنها بدأت بإطلاق فعاليات ميدانية، مثل تنظيف الشوارع والجسور وساحات بعض المساجد، بالتزامن مع انتهاء أيام الثورة بسقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكان من بين هؤلاء الشباب مجموعة متخصصة شاركت في ترميم القطع الأثرية التي تعرضت للكسر جراء هجوم البلطجية علي المتحف المصري. حاولت الوصول إلي هؤلاء الشباب النقي. كان الأمر صعباً فقد ذهب كل منهم إلي حال سبيله، وتفرقوا بين مذاهب سياسية مختلفة، ولم تعد اليد في اليد مثلما كان المشهد الشهير علي أسوار وبوابات المتحف. أربعة أشخاص فقط. هذا هو ما تبقي من كل هذا الحشد الكبير. الصدفة وحدها جمعتني بهم حين حدثني أحد أصدقائي عن شباب يروجون للسياحة بتنظيم رحلات إلي الأماكن والمزارات المهمة في أرجاء البلاد وبأسعار مناسبة جداً. التقيتهم وعرفت منهم كيف يفكرون وما هي أهدافهم التي بناء عليها أسسوا صفحة علي موقع التواصل "فيسبوك" تحت اسم "شباب المتحف المصري لتنشيط السياحة"، فهكذا تطورت الفكرة لديهم من مجرد فعاليات ميدانية إلي حملة ضخمة تستهدف إعادة بث الحياة في ركن أساسي من أركان الاقتصاد القومي. أحمد الجمال وحسام عزت ومحمد النمر ومي عمر. رباعي نشيط يسيطر عليه روح الشباب. تحدثوا معي بتلقائية شديدة وبدت أفكارهم البسيطة مثل جبل من طموح يسترعي الانتباه، وحين تنتهي كلمات كل واحد منهم تتأكد أن في مصر جيلا جديدا قادرا علي تحويل المستحيل إلي ممكن، طالما توافر لديه حب الوطن وإرادة التغيير. الغريب أن أحداً من هؤلاء لا علاقة مباشرة له بالسياحة. أحمد (24 عاماً)، خريج كلية الحقوق ويعمل في مجال التسويق الإلكتروني، وحسام (27 عاماً) مهندس كمبيوتر، ومحمد (21) متخرج حديثاً في كلية الآداب قسم التاريخ، أما مي فتخرجت في كلية الآثار. يقول أحمد: أول حدث منظم كان حفلاً كبيراً في أبريل 2011 داخل المتحف المصري، تحت عنوان "اليوم المصري للسياحة" وشاركت فيه إدارة المتحف المصري ومجموعة من شباب المتحف، وكان الهدف توصيل رسالة مفادها أن مصر هي بلد الأمن والأمان لاستقطاب السياحة مجدداً، وتضمن الحفل فقرات غنائية قدمها هواة. في حين يقول حسام: استمر نشاط مجموعتنا الشبابية حتي بدأ حكم جماعة "الإخوان" في 30 يونيو 2012 حيث بدأ العقد ينفرط وتتباين الرؤي والأفكار وتتصادم الأيديولوجيات، وهنا تفككت اللُحمة بيننا، وحين أسسنا "جروب" علي موقع "فيسبوك" استطعنا أن نجمع أعداداً كبيرة لكن لم يكن من شباب المتحف سوي 40 شخصاً فقط، وبدأ العدد الفعلي الذي يشارك بالنزول إلي الشارع يتقلص حتي وصل إلي 10 أفراد قبل أن يتضاءل ويستقر عند أربعة أفراد فقط. أما محمد فيتحدث عن بداية تحوّل الفكرة لمصلحة البلد، قائلاً: قررنا أن ندشن حملة لتنشيط السياحة وبخاصة بعد حكم الإخوان للبلاد، وما تلا ذلك من أحداث مؤسفة أعادت الغضب إلي الشارع مجدداً، وأدت إلي اتخاذ العديد من دول العالم قرارات بمنع السياحة إلي مصر، وبالتالي انهارت السياحة الوافدة إلينا تماماً، فكان قرارنا هو العمل علي تشجيع السياحة الداخلية. تقول مي: الحملة تنقسم إلي شقين الأول إلكتروني يشمل رفع الصور للتعريف بالأماكن السياحية وبخاصة غير المعروفة، والثاني شق ميداني من خلال تنظيم رحلات في شكل مجموعات كبيرة. ويوضح شباب المتحف أن أول رحلة كانت في 31 يناير الماضي إلي سانت كاترين، وبعدها في فبراير وقع حادث سانت كاترين الشهير، فنظمنا رحلة جديدة إلي الموقع ذاته في 14 فبراير، لنثبت للجميع أن ما حدث هو مجرد حادث أثر فينا جميعاً بالطبع لكن لا يجب أن يكون سبباً في توقف السياحة، بل كان لدينا إصرار علي الاستمرار والتأكيد علي أن الرحلة آمنة والترويج لكل مكان سياحي في مصر. وتوالت الرحلات وتضاعف الإقبال عليها بأعداد كبيرة، ولم تقتصر المشاركة علي الشباب فقط، بل كانت الرحلات التي انطلقت أبرزها إلي الإسكندرية وشرم الشيخ وسقارة و"أفريكانو بارك" علي طريق الإسكندرية، تضم جميع الأعمار تقريباً، والعديد من الأسر، حيث كان الأمر يستدعي أحياناً الانطلاق بأكثر من حافلة كبيرة، كل واحدة تضم حوالي 50 فرداً، يستمتعون جميعاً بالرحلة التي تضم مرشدين سياحيين لشرح كل تفاصيل الرحلة والمزارات السياحية والأثرية التي يتضمنها برنامج كل رحلة، إلي جانب عرض أفلام تسجيلية عن الأماكن السياحية أثناء الرحلة. ويتحدث رباعي الشباب عن عزمهم التواصل مع هيئات وشركات حكومية وخاصة، في سبيل تقديم خدماتهم في مجال الترويج السياحي بشكل تطوعي، حيث لا يحصلون علي أجر في مقابل عملهم هذا، ولا يتكلف الشخص الذي يخوض الرحلة سوي تكلفتها شاملة التنقل بالحافلة والإقامة حسب مدة الرحلة، وبأسعار مخفضة يتم الاتفاق عليها سلفاً، لتكون المحصلة النهائية رحلة هادئة مزدحمة بالتفاصيل والمعلومات والخبرات المهمة، وكذا التعرف علي مصر الحقيقية التي للأسف كما يقولون لا يعرفها الكثير من المصريين. ولا يكتفي فريق "شباب المتحف" بالأماكن السياحية والتاريخية فقط، بل تتضمن الرحلات أحياناً زيارات تتخذ الطابع الإنساني، مثل الحرص علي تنظيم زيارات إلي دور الأيتام والمسنين، كما ينسقون أعمال الخير مثل تجهيز "شنط رمضان" لتوزيعها قبل شهر الصوم بأيام، بالتعاون مع حملة "إيد علي إيد"، للحث علي فعل الخير وتعزيز مبدأ التكافل الاجتماعي ومساعدة الفقراء والمحتاجين. ويتوقع شباب الحملة أن تنشط السياحة في مصر مع الأداء الجيد للسلطة الحالية بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي أعطي مثالاً حياً علي استقرار البلاد حين شارك في سباق الدراجات منتصف الشهر الجاري، فقد أوصل ذلك رسالة قوية للعالم كله بأن مصر بلد متحضر يتمتع بكل الأمن والأمان، وأضافوا: حتي لو عادت السياحة بكامل قوتها في عهد الحكومة الجديدة وتحت رعاية وزير السياحة هشام زعزوع، فإنهم مستمرون في عملهم الترويجي للسياحة الداخلية والتعريف بأجمل الأماكن والمزارات في مصر، لأن عملهم تطوعي يخدمون به بلدهم دون انتظار أي مقابل.