في العادة عندما يتحدث المصريون عن جنة الأرض، يشرد ذهنهم إلي بقاع بعيدة، ربما لأوروبا بعراقة مدنها وخضار أرضها، أو لآسيا بغاباتها وشواطئها الاستوائية الساحرة، أو لأمريكا الجنوبية بنكهتها اللاتينية. لا يخطر ببالهم للحظة أن الجنة ربما تكون أقرب لهم مما يتصورون، ربما علي بعد رحلة بالأتوبيس لا تستغرق سوي عدة ساعات يعبرون بها إلي شرق خليج السويس حيث سيناء، وتحديداً حيث تقع واحدة من أجمل بقاع الأرض، دهب. كل يوم يمر عليك وأنت في القاهرة، أسير لضغوطها، حبيس لشوارعها وزحامها، تكتم أنفاسك ملوثاتها ودخانها ويؤذي بصرك قمامتها ويزعجك سلوك أهلها، تشعر أن الحاجة للسفر بعيداً عنها ليست ترفاً أو رغداً، بل هو حاجة إنسانية لا بديل عنها، لتحافظ علي اتزانك العقلي وسلامك النفسي. بعد عام كامل داخل القاهرة، كان السفر لازماً، ربما كالعادة للإسكندرية، التي لا تختلف كثيراً عن القاهرة كمدينة، لكنها مازالت تحتفظ إلي حد ما بالهدوء خاصة في وقت لم تبدأ فيه أفواج الإجازة الصيفية في الزحف إليها. لكن هذه المرة اقترح علي صديق مكانا جديدا. مكان تسمع كثيراً عن جماله وإبداعه، لكنك لا تفكر في الذهاب إليه، ربما لأنك مصري بطبيعتك لا تحب المغامرة، ولا الذهاب لمكان لم يذهب إليه أحد ليتحدث إليك عنه، أو لأن هناك صورة ذهنية أن هذا المكان يذهب إليه فقط عشاق رياضة الغوص في الأعماق، وأن شخصا بالكاد يجيد السباحة لن يستمتع كثيراً هناك. المكان الذي اقترحه علي الصديق اسمه دهب، أما وصفه فهو جنة. مكان ليس له مثيل في العالم، تري فيه ما لن تراه في أي مكان، وتستمتع فيه بنوع من الهدوء والاسترخاء والسلام لا يمكن أن يكون قد مر عليك سابقا. الحديث عن دهب لا يكفيه صفحة أو صفحتان، لا يكفيه كتاب أو كتابان. فأنت عندما تتحدث عن هذا المكان، تريد أن تسرد كثيراً من التفاصيل، عن المكان والزمان، عن الناس، عن السياحة والفنادق، عن المصريين والأجانب، عن الجبال، عن البحار، عن الأسماك، عن الشعاب المرجانية التي تعتقد خطأً أنك لتراها لابد أن ترتدي بدلة الغوص وتحمل أنبوبة الأوكسجين وتنزل في الأعماق، بينما يكفيك أن تذهب إلي منطقة البقعة الزرقاءBlue Hole وترتدي نظارة السباحة وتضع رأسك علي سطح الماء وتنظر لأسفل لتري أجمل الشعاب والأسماك، تري كل الألوان، تري كم الإبداع الإلهي في هذا المكان. تفاصيل كثيرة تريد أن تتحدث عنها وأنت تكتب عن دهب، جوانب مختلفة تريد أن تفصلها، لكن لضيق المساحة فلنبدأ بالحديث عن المكان. والمكان هنا لا يعني دهب. فكل نقطة في هذه المدينة قصة وحدوتة من الإبهار. لكننا سنتحدث فقط عن مكان أو مكانين، عن بقعة شهيرة يسعي كل زائر إلي دهب للذهاب إليها. الجميع هناك يحدثك عن محمية أبو جالوم التي لا يمكن الوصول إليها سوي بركوب الإبل أو بالمشي وسط الصخور علي الشاطئ لمدة ساعة ونصف، بعدها تصل لجنة بحرية، خلفيتها الجبال ومقدمتها بحر تتدرج ألوانه من التركواز يتعمق تدريجياً ليصل إلي اللون الأزرق الداكن، لون المياه العميقة. ويتوسط هذه اللوحة الجميلة شاطئ رملي تم تجهيزه ليشبه المعسكرات الحربية في بدايات القرن العشرين، حيث العشش المجاورة لبعضها البعض، والبيوت الخشبية التي من الممكن استئجارها والسكني فيها وسط الطبيعة، الطبيعة العذراء التي لم يمسها الإنسان. فيها تستيقظ صباحاً علي مشهد الشمس، تشرق خلف جبال السعودية لتصعد للسماء وتنير هذه البقعة الساحرة. إذا أردت أن تأكل فأمامك البحر، تقطف من أسماكه لتطهيها علي أحطاب النار الدافئة، وتتذوق وتستطعم مذاق الطبيعة وتنام وسط السلام وصوت البحر ومشهد الكواكب والنجوم. تلك البقعة الساحرة أثارت فضولنا، هي أجمل مكان رأيناه في رحلتنا، لكننا كنا كل يوم في رحلتنا نقول هذا الكلام. نقول إسن ما نشاهده الآن هو أجمل ما يمكن أن نراه، وفي اليوم التالي نذهب إلي مكان آخر أروع وأجمل، كأنك في الجنة تتدرج بين مستوياتها، فالأدني يعتقد أنه لا يمكن أن يري أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وعندما يصعد للجنة الأعلي يري ما هو أكثر جمالاً وتشويقاً. هناك قابلنا مرشدا سياحيا مع مجموعة من الغواصين الروس الذين جاءوا ليجوبوا أعماق تلك المنطقة ويستمتعوا بمشاهدة الشعاب والأسماك في تلك المنطقة المميزة. سألناه صراحة، هذا المكان رائع، لكن هل من مزيد من الجمال والروعة في تلك المدينة؟ فأجاب بالتأكيد. علي بعد ساعة أخري من المشي بقعة أروع من تلك التي نحن فيها، يطلقون عليها إسم Blue Lagoon أو اللاجونة كما نطقها المرشد. قال عنها أنها بقعة يذهب إليها هواة رياضة الكايت سرفنج، وهي مزيج بين رياضة التزحلق علي الماء ورياضة المظلات، حيث تصعد الرياح بالمتزلج للطيران عالياً ثم يعود مرة أخري للماء. وهي منطقة غاية في الروعة والجمال. استغربنا تلك الكلمات، هل هناك أبدع من هذا وأجمل من هذا؟! إذاً فلا مجال للتفكير، لابد لنا أن نري ونشاهد ونحكم بأعيننا. مشينا تلك المسافة التي وإن كانت طويلة لكنها ممتعة. فأنت لا تسير وسط إزعاج السيارات وضوضاء المدينة ولا تمشي في شوارع زينتها القمامة وطابعها الاتساخ. بل إنك تمشي في الطبيعة التي لا مثيل لها في العالم. طبيعة لا تراها سوي في مكان واحد فقط هو سيناء، طبيعة بها مزيج خلاب من الجبال والصخور والرمال والبحر الشفاف، الذي من الممكن أن تري فيه الشعاب دون الحاجة للنزول للماء. هذا المزيج لا يمكن أن تراه في أي مكان آخر سوي هنا. لا تحاول أن تراه في أي مكان آخر. وبعد ساعة من المشي الممتع، رأينا من بعيد ملامح لمكان يبدو أنه مختلف تماماً عما نراه حولنا. رأينا هلالا من الرمال البيضاء النقية، يحيط ببقعة من البحر شفافة، براقة، لونها أزرق سماوي ينم عن عمق ضئيل جداً للمياه في هذه البقعة. رأينا من بعيد لاعبي الكايت سيرفنج وهم يطيرون في الهواء. رأينا عششا متجاورة بشكل لا يؤذي طبيعة المكان. شيء المذهل في دهب أن التدخل البشري لا يؤذي الطبيعة بل يضيف إليها. في المدينة لا تري أبداً أي مبني يرتفع عن طابقين، ولا تري أي حاجز يمنعك عن رؤية البحر. وحتي في هذه البقعة وسط الصحراء والفضاء فإن العشش التي تم بناؤها مرتبة بشكل يضيف لمسة جمالية غير عادية، كأنه رسام أراد أن يضع لمسته فوضع عشة صغيرة علي يسار اللوحة، ووضع عشتين بحجم أكبر في أوسطها، ووضع ثالثة علي يمينها بقليل، لتعطي تناسباً في الرؤية مع الخلفية الزرقاء الداكنة للبحر العميق، والمقدمة ذات اللون الأزرق السماوي. مشهد لا يمكن وصفه بكلمات. تلك البقعة ربما لا يعلم عن وجودها كثير من الناس، لكنها بلا شك وبلا أي مبالغة أجمل بقعة في سيناء علي الإطلاق. هناك رأينا عددا قليلا من الأجانب الذين ربما سمعوا عن المكان من مغامرين آخرين استكشفوا هذه البقعة وسحروا بها، فحكوا لأصدقائهم ومعارفهم عن روعتها، فشوقوهم لرؤيتها. ورأينا مصريين، ليسوا كالمصريين الذين نراهم كل يوم. مجموعة من الأصدقاء من الشباب والبنات، جاءوا بسيارتين شيروكي، ربما مروا في طريقهم علي متجر ضخم للأدوات الرياضية والبحرية، اشتروا العديد من النظارات المائية والقوارب الهوائية. حتي الكلب الذي جلبوه معهم وضعوا له سترة السباحة، ليعوم بحرية، بينما هم ارتادوا مركباً هوائياً علي شكل كنبة ضخمة جلسوا فيها جميعاً وسط الماء وبدأوا في التقاط الصور لتذكرهم برحلة لن ينسوها بالتأكيد. عالم آخر تعيش فيه يجعلك تعتقد أنك سافرت بعيداً، لكن بعيداً إلي أين؟ نحن في مصر، نحن في سيناء. هل هناك بقعة علي وجه الأرض أجمل من هذه؟ هل هناك هواء وماء وأجواء مثيلة لما هو في دهب سيناء. لا يمكن أبداً، إنها الجنة بلا أدني مبالغة. إنها مكان يذهب إليه المرء مرة، ويذهب بعيداً ليحلم بشيء واحد، هو اليوم الذي يعود فيه مرة أخري لهذا السحر والإبداع.