»من لنا بعدك يا بنوك سويسرا« قد يكون هذا لسان حال الديكتاتورية والطغاة الذين كانوا يجدون في بنوك سويسرا ملاذا يخبئون فيه الثروات التي نهبوها من بلدانهم إلي الأبد لدرجة أن سويسرا أصبحت في الذاكرة الساخرة لهذه الشعوب المنهوبة تعني دائما المكان الذي يبتلع مواردها ويذهب الحاكم إليها كل عام ليطمئن علي خزائنه الممتلئة تاركا أبناء شعبه لبطونهم الخاوية. وقد كشفت سويسرا عن مشروع قانون ينهي الحماية التاريخية التي كان لصوص الأوطان يتمتعون بها في بنوك سويسرا.. ويهدف مشروع القانون إلي تعديل التشريع الموجود في سويسرا حاليا بهدف الإسراع بإعادة الأصول المنهوبة المودعة في حسابات مصرفية سويسرية إلي الدول التي نهبت منها.. ويأتي هذا التعديل بعد سلسلة من المواقف المحرجة نتيجة ثغرة في القانون الحالي، حيث اضطرت سويسرا إلي الامتناع عدة مرات عن مصادرة ستة ملايين دولا مملوكة لحاكم هايتي السابق »بيبي دوك« دوفالييه وتسليمها لهايتي وهي واحدة من أفقر دول العالم وتعرضت لزلزال مدمر في مطلع العام الجاري. وبموجب القواعد القديمة لايمكن لسويسرا أن تعيد أصولا مالم تقدم الدولة التي خرجت منها الأصول طلبا رسميا للمساعدة في مسألة جنائية.. وقالت وزارة الخارجية في بيان »أظهرت الخبرة إن هذا النظام يقف مكتوفا عندما يؤدي فشل النظم القضائية الوطنية إلي عدم تمكن الدول من القيام بالإجراءات الجنائية الوطنية«. وعلي مدي سنوات وضع زعماء سابقون مستبدون في دول نامية ثروات منهوبة في بنوك سويسرا متخفين وراء قوانين السرية السويسرية.. وأعلنت سويسرا التي لم تعد تقبل مثل هذه الأصول غير المشروعة قواعد صارمة لمكافحة غسيل الأموال وأعادت إلي عدد من الدول علي مدي 15 سنة مضت أكثر من 1,7 مليار فرنك سويسري كانت مملوكة لزعماء فاسدين.. وتشمل هذه الأموال أصولا مملوكة لحاكم نيجيريا السابق ساني أباتش أو الرئيس الفلبيني السابق فرديناند ماركوس. وقالت وزارة الخارجية إن القانون الجديد يتيح للمحكمة الإدارية الاتحادية السويسرية مصادرة أو تجميد أي أصول تم الحصول عليها بصورة غير مشروعة حتي في غياب طلب محدد من الدولة التي تتبعها هذه الأصول.. وقالت »ميشلين كالمي ريه« وزيرة الخارجية السويسرية في تصريحات: لايجب أن تتكر حالات مشابهة لقضيتي موبوتو سيسيكو رئيس الكونغو الديمقراطية السابق وجان كلود دوفالييه وتم إكتشاف الحاجة إلي هذا القانون الجديد بعد أن تبين أن بعض الدول المتضررة من هذه الظاهرة ولأسباب تتعلق بقصور في نظامها القضائي.. لم يكن بمقدورها إجراء محاكمات وطنية لإثبات أن تلك الودائع أموال عامة منهوبة.. في هذه الحالة تجد سويسرا نفسها مجبرة علي إرجاع تلك الأموال إلي أقارب وورثة أولئك المستبدين. هذا ما حدث مع ودائع موبوتو سيسيكو الحاكم الأسبق لزائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حاليا) إذ أعيدت تلك الأموال إلي ورثته عام 2009 بدلا من أن تعود إلي خزينة الدولة. وهذه الأموال ليست فقط ثروات شعوب نهبها بعض الحكام وأصحاب النفوذ والمقربين والمافيات والشركات العابرة للقارات بل هي أيضا أموال ومبالغ مساعدات دولية خارجية وحصيلة نشاطات غير شرعية وقضايا فساد وتهرب ضريبي وحتي سرقات مباشرة. وعامل الجذب الأساسي في سويسرا يكمن في مبدأين عريقين هما الحياد والسرية.. فالسويسريون اتخذوا مبدأ الحياد منذ عام 1515 بعد هزيمتهم النكراء من الجيش الفرنسي.. وحتي اليوم يعارض معظم السويسريين فكرة الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي أو أي تجمع يضر بمبدأ الحياد.. أضف لهذا فإن سويسرا لم توقع أي معاهدة لتسليم المجرمين أو تبادل المعلومات الأمنية مع أي دولة في العالم. أما عامل الجذب الثاني فهو ميثاق السرية المصرفية الذي يعصب كسره أو اختراقه وإن كان يتعرض لضغوط شديدة من الولاياتالمتحدة وأوروبا للكشف عن أسماء المودعين المتهربين من الضرائب.. وبالإضافة إلي عهد السرية العريق يعاقب القانون السويسري أي بنك أو مسئولا يفشي أو حتي يلمح بمعلومات مصرفية بل إن البنوك تتعامل بنظام مشفر لايتيح حتي للموظفين معرفة أصحاب الحسابات الذين يتعاملون معها.. كما يتيح للعميل ذاته إيداع ثروته بأسماء مستعارة أو استبدال الأسماء بأرقام سرية لايعرفها غيره.. وإذا أضفنا إلي كل هذا 500 عام من التميز والحرفية المصرفية نفهم كيف أصبحت سويسرا وجهة الأثرياء والطغاة واللصوص من كل أنحاء العالم.