خلال حواره مع أحمد الجمال علي مدار أكثر من 130 سنة شاركت في بناء مصر كواحدة من أهم الشركات الحكومية في مجال المقاولات والاستصلاح، وكان لعمالها فخر تصنيع المضخات والكباري التي استخدمت في عبور قناة السويس وهدم خط بارليف في حرب أكتوبر 1973 كونها تمتلك مجمعاً صناعياً لا مثيل له في أي مكان بمصر، كما كانت أول شركة تقوم بتمرير "سحارة" في "الدفرسوار" أسفل القناة، وبعد التأميم استصلحت ما يزيد علي مليون فدان، وكانت أول شركة بعد توقيع معاهدة السلام تدخل سيناء ونفذت ترعتي الشيخ زايد والشيخ جابر، وغيرها من المشروعات العملاقة، قبل أن تبدأ معاناة الشركة بعد تحويلها إلي قطاع أعمال عام في عهد رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد ثم تحويلها إلي شركة مساهمة في 14 فبراير 1995 وفقاً للقانون 159. ومنذ ذلك التاريخ بدأ انهيار الشركة العملاقة، نتيجة عدم وجود الرقابة من جانب الجهاز المركزي للمحاسبات، وإسناد أعمال الرقابة لمكتب محاسب قانوني خارجي، أما الأزمة الكبري فكان سببها عدم إسناد أعمال للشركة من جانب الحكومة، حيث أصبحت تدخل المناقصات مثلها مثل أي مقاول قطاع خاص، وهذا أدي إلي انخفاض حجم أعمالها مقارنة بحجم العمالة الموجودة بها والمقدر بنحو 4200 عامل، من أمهر العمالة الموجودة في مصر وخارجها في مجال المقاولات والتصنيع المعدني واستصلاح الأراضي. "آخرساعة" التقت محمد فتح الله، مدير إدارة التنفيذ بقطاعات التنفيذ بالشركة سابقاً، والذي كان عضوا في الجمعية العمومية للشركة حتي بلوغه سن المعاش في 15 مارس 2012 ويحمل الرجل الكثير من الحزن علي الشركة التي قضي فيها سنوات طويلة من عمره، قبل أن يري أوراقها تتساقط في خريف العمر. يقول فتح الله: تطبيق القانون 159 علي الشركة أدي إلي حدوث العديد من السلبيات، أبرزها ضعف الرقابة، حيث كان الذي يراقب مجلس إدارة الشركة ويناقش ميزانيتها أعضاء جمعية عمومية منتخبون من العاملين، فكيف يكون العامل هو الرقيب علي أداء رئيس وأعضاء مجلس الإدارة ومقدراته في يد رئيس مجلس الإدارة من سفريات وترقيات ومكافآت ! وبالتالي أدي ذلك إلي ضعف الرقابة وساعد علي الكثير من التجاوزات التي أدت بدورها إلي انهيار الشركة وتدهور أوضاع العاملين فيها. ويتحدث الموظف السابق بالشركة عن أبرز ما نفذته من مشروعات قائلاً: الشركة نفذت مشروعات قومية متنوعة داخل مصر من بينها مشروع توشكي قديماً (فترة السبعينيات) ومشروع توشكي الجديد، وجميع أعمال الاستصلاح والاستزراع لغرب وشرق الطريق الصحراوي، وجميع أنواع الطرق والكباري وجميع الأعمال البحرية وأعمال التسوية والتنسيق في قرية "مارينا" بالساحل الشمالي، والطريق الدائري «بشتيل صفط اللبن» بالقاهرة الكبري وأيضاً أعمال الطرق. ويوضح فتح الله: الشركة تمتلك أسطولاً ضخماً من الكراكات حيث نفذت أعمال التكريك وتحديد المسار الملاحي لمجري النيل من أسوان إلي فرع دمياط ثم فرع زفتي، وخارجياً نفذت في السعودية مشروع سد "وادي جيزان"، وفي أوغندا نفذت "المشروع المصري الأوغندي"، وفي ليبيا نفذت النهر الصناعي العظيم من خزانات وخطوط مواسير ومزارع، ومشروع ثلوج حماية شاطئ "سلوك"، وهناك أيضاً مشروع التكامل المصري السوداني في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينات، ومازالت مقرات الشركة موجودة في السودان وأوغندا وليبيا حتي الآن. وإلي جانب ذلك تمتلك الشركة مجمع ورش علي مستوي عال من التصنيع المعدني لخطوط المواسير بأقطارها المختلفة (مياه الشرب والصرف الصحي والغاز ومحطات تنقية مياه الشرب.. إلخ)، هذا إلي جانب تصنيع الوحدات البحرية مثل سفن الإمداد والتموين وسفن الأبحاث، حيث قامت بتصنيع سفينة أبحاث تخدم أبحاث النيل بين مصر والسودان، ولدي الشركة ورش لعمل "عمرات" المحركات والمسابك وورش النجارة والعديد من محطات خلط الخرسانة الجاهزة وخلاطات الأسفلت ومعداته، وتشارك الشركة حالياً في أعمال البنية التحتية لمدينة بني سويف الجديدة ولكن حجم العمل لا يكفي لسد رواتب العاملين. وعلي الرغم من هذا التاريخ الطويلة للشركة والأعمال الجبارة التي نفذتها طوال هذه السنوات إلا أن المشكلة الأكبر التي تواجهها هي ضعف حجم العمل المُسند إليها، فالحكومة بكل أسف لم تستغل إمكانيات الشركة من طاقات بشرية وفنية، لتنفيذ مشروعات التنمية التي تحتاجها الدولة في الوقت الحالي، لخلق فرص عمل لتشغيل الشباب والحد من البطالة وتشييد مجتمعات عمرانية جديدة، فلو قامت الشركة القابضة بإسناد أعمال لهذه الشركة لما كانت هناك مشكلة وصعوبة يعاني منها العاملون في صرف رواتبهم المتأخرة منذ نحو سبعة أشهر وحتي اليوم، والتي تقدر قيمتها بحوالي 30 مليون جنيه. الصعوبات الكبيرة التي يواجهها آلاف العاملين بالشركة لم تدفعهم في هذا الظرف التاريخي الصعب الذي تمر به مصر منذ ثورة 25 يناير 2011 إلي الدخول في اعتصامات وإضرابات، حيث رفض العمال استغلال ظروف البلاد في إضافة عبء جديد علي الدولة التي تواجه عشرات الإضرابات والاعتصامات لفئات مختلفة يومياً، ولم يطلبوا حتي زيادة في الأجور، لكن مطلبهم الوحيد هو إسناد أعمال جديدة للشركة بما يحرك عجلتها مُجدداً ويساهم في صرف رواتبهم المتأخرة ويحافظ علي أسرهم من التشرد أو استغلالهم في أعمال تعاني منها الحكومة حالياً في ظل تنامي الإضرابات والاعتصامات الفئوية، فأي إدارة تتولي مسئولية إدارة الشركة متمثلة في رئيس مجلس إدارة لا يمكن أن تحقق أي نجاحات بدون إسناد أعمال من جانب الحكومة التي هي صاحبة الحق في تعيين رئيس الشركة. وإلي جانب محدودية الأعمال المُسندة إلي الشركة، فإن ضعف الرقابة عليها أيضاً ساهم بشكل كبير في تدهورها بحسب تأكيد عدد من العاملين، فعلي سبيل المثال تم إبرام تعاقدات مع محامين من خارج الشركة علي الرغم من أن الشركة بها قطاع قانوني كامل وهذا العمل داخل في صميم عمل القطاع القانوني، وهذا القطاع يكلف الشركة أجورا وبدلات ومكافآت وترقيات، كما أن هذه التعاقدات الخارجية أدت إلي إرهاق وتكليف الشركة مبالغ تتعدي أربعة ملايين جنيه. ضعف الرقابة أيضاً أدي إلي إعداد ميزانيات للشركة غير منضبطة تشير إلي تحقيق أرباح وهمية ولا تتطرق إلي خسائرها الحقيقية، ما أدي فجأة إلي تحقيق الشركة من واقع ميزانياتها والقوائم المالية خسائر وصلت إلي 110 ملايين جنيه لعام 2010 وهذا مثبت في محضر الجمعية العمومية في 15 مارس 2012 ثم حققت الشركة خسائر بلغت نحو 96 مليون جنيه في العام 2011-2012. وأدي ضعف الرقابة إلي تسويات وهمية للفروع الخارجية للشركة، كما هو مُدرج في قرارات الجمعية العمومية في 15 مارس 2012 ضمن قراراتها وهو مستند علي أعمال وهمية لم تتم بقيمة 50 ألف دولار لمشروع الشركة بأوغندا. ولا تنتهي المشكلات عند هذا الحد حيث يتم ضرب عرض الحائط بالقوانين، حيث لم يتم سداد التأمينات الاجتماعية للعاملين التي يتم خصمها شهرياً من رواتبهم وهي عبارة عن اشتراكات معاشات، الأمر الذي أدي إلي ضرر بعض العاملين المحالين للتقاعد سواء لبلوغ السن القانونية أو الاستقالة أو العجز الجزئي أو الكلي. ثم ضرب عرض الحائط بالقوانين في استمرار جميع التنظيمات من اتحاد مساهمين ومجلس إدارة جمعية عمومية بالاستمرار دون إجراء انتخابات منذ عام 2007 وحتي 2011 علماً بأن مدة دورة كل تنظيم طبقاً للقانون والنظام الأساسي ثلاث سنوات ، وهناك قضية تحمل رقم 2890 لسنة 2011 رفعها بعض العاملين للمطالبة ببطلان التنظيمات وقراراتها. ونتيجة عدم الاستجابة أو الاستماع لمشاكل الشركة وعمالها من جانب المسؤولين المتمثلين في رئيس الحكومة إبراهيم محلب ووزير الزراعة ورئيس الشركة القابضة لاستصلاح الأراضي والمياه الجوفية، اضطر العمال إلي تنظيم عدة وقفات احتجاجية حتي يستجيب المسئولون وبخاصة وزارة الزراعة والشركة القابضة لاستصلاح الأراضي بعد نقل تبعية الشركة وشركات الاستصلاح وعددها ست شركات يقدر عدد العاملين فيها بنحو 20 ألف عامل، من القانون 159 إلي شركة قطاع أعمال عام تتبع القانون 203. وأخيراً يقترح محمد فتح الله علي الحكومة أن تسند أعمالاً جديدة للشركة وعدم إسناد الأعمال لشركات بعينها في هذا المجال، ويقول: إذا كان السبب وراء عدم إسناد الشركة القابضة أو الوزارة لأعمال جديدة لشركات الاستصلاح هو عدم وجود تمويل مالي كاف، فيمكن اللجوء إلي توفير هذا التمويل المالي اللازم من خلال رجال أعمال وطنيين لإعادة تشغيل "مساهمة البحيرة" وبقية الشركات الست، علي أن يتم ذلك تحت مظلة الحكومة وفق قواعد وشروط محددة تضمن تمويل مشروعات استصلاح الأراضي والمشروعات التنموية باختلاف أنشطتها، كما يمكن أن يدخل رجال الأعمال كشركاء مع الحكومة في تمويل المشروعات. ويبقي في النهاية أن الحكومة الجديدة برئاسة المهندس إبراهيم محلب عليها أن تنظر بعين الاعتبار إلي هذه الشركة العملاقة التي بدأت تنهار وتخلق حلولاً جذرية لإنهاء مشاكل العاملين فيها وإعادة تدوير عجلتها بشكل يناسب تاريخها الطويل وحجمها الكبير ويكفي أن هذه الشركة تمتلك أصولا ثابتة تقدر بنحو مليار و200 مليون جنيه.