إنها ليلة.. خير من ألف شهر.. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم ليتلقوا الدعوات وآهات المحرومين ودموع المظلومين.. وصرخات من هانوا علي أوطانهم ومن سقطوا من حساب الزمان.. ومن تمنوا أن يروا حدودا لصبرهم الذي فاق صبر أيوب. إنها الأيام المباركة.. المقدسة تمر سريعا كأنها تنبهنا أن الحياة قصيرة وأن الفرص الممنوحة لنا.. للتوبة أقصر وأن لا أحد يعرف ما يخبئه لنا غدا.. حتي وإن لم يكن هناك غد فاعمل لآخرتك كأنها ستقوم الآن.. واعمل لدنياك.. كأنها ستدوم إلي الأبد.. كلام.. كلام.. نسمعه علي مدي سنوات.. وتحيطها الأنوار الإلهية في الأيام المباركة.. نهرع للمساجد لعل السماء تسامحنا.. نتهجد في الأمسيات النورانية نطلب العفو والرحمة والمغفرة ثم تمر الأيام ونعود لدنيانا لايغيرنا شيء ولا نعيد حسابات تصرفاتنا كأننا لم نسجد ولم ندمع ولم نتهجد.. ثم تأتي الليلة المباركة التي قيل إنها في العشر الأواخر من رمضان.. وهنا يبدأ سباق الالتزام والتشدد علي النفس والاعتكاف وطرح احتياجات الدنيا من نفوسنا.. وتصغر ملذاتها.. وتتقزم أهميتها.. ويغيب الجسد باحتياجاته عن دائرة ا هتماماتنا.. وتبقي الروح مستيقظة متنبهة.. متذكرة لكل هفوة ضعف فيها وكل سقطة لم تقاومها وكل إغراء لم تتعفف عنه. نغرق في عرق خجلنا من الله.. نعدد عطاياه لنا مهما كانت صعوبة حياتنا كما نراها بنفوسنا الضعيفة وعقولنا العاجزة عن إدراك حكمة السماء.. حتي الضرر الذي قد يصيبنا قد يكون هو مفتاح فرجنا ونقطة التحول في حياتنا وإشارة من الله سبحانه وتعالي عن رضاه علينا. في تلك الأيام الإلهية ذات الأنوار البهية.. حيث تصفو نفوس أغلبية الناس محاولين خلع رداء الضعف الإنساني وشهوات النفس من طمع وأنانية انغلاق علي الذات. نري أنفسنا مساكين ضعفاء محتاجين للرحمة وللعفو والمغفرة.. ولكن أتري من منحهم الله كل شيء من عز وجاه وثروة وعزوة.. يشعرون مثلنا بأنهم ضعفاء.. مساكين محتاجين للعفو والمغفرة؟ أتراهم يقرأون مثلنا القرآن هذه المعجزة الإلهية الذي كلما قرأته.. تشعر كأنك تقرؤه لأول مرة.. مع أنك تكون قد قرأت تلك السورة أو هذه الآيات عشرات المرات.. ومع ذلك تدهشك بأن معني معينا قد تسلل إلي عقلك وفهما منطقيا قد أنار خلايا عقلك.. فوصلتك رسالة الله من تلك الآية الكريمة. أعتقد وربما أجزم أن هذا يحدث كثيرا.. لكثير منا ربما (ينور) المعني للقارئ ليلبي حاجة في نفسه يعلمها الله وحده يهديه إليها في قراءته الرمضانية أو غير الرمضانية.. ليهدي قلبه وروحه.. بأن الله يمهل ولايهمل فلا تيأس أبدا من رحمة السماء.. وانتقامها من الظالمين.. يمتعهم بالمال والأبناء والقناطير المقنطرة ثم يأخذهم.. أخذ عزيز مقتدر.. ليكونوا عبرة وأمثلة.. ومع ذلك لا يرتدع الكثيرون.. ربما تصوروا أنهم خالدون.. ربما تصوروا أن ماعندهم إنما هو دليل علي رضا الله عليهم.. أي والله.. ربما بلغ بهم »السهو« أو غضب الله عليهم فنسوا الله فأنساهم أنفسهم.. نسوا أنهم مسئولون عن حياة الناس.. وأن كل راعٍ مسئول عن رعيته.. ألم يقرأوا أي آية شريفة خاصة في العشر الأواخر من رمضان.. تحثهم علي الالتفات إلي المسئولية المكلفين بها. ألم تهزهم آيات وصف النار.. ألم تخفهم أنواع العقاب للذين لم يرحموا عباد الله.. ألم يؤرق مضاجعهم.. دعاء المظلومين أو دموع المحتاجين.. أو إغراء القوم الذين »ذلوا« لأنهم رفضوا أن يمدوا يدهم للحرام فلم يلتفت لهم أحد.. وتكوموا في بيوتهم محصورين حتي تلك الجدران الأربعة التي تحميهم من مذلة الشارع وخطورته مهددين بالطرد منها بقوانين غابة غاب عنها شعار قديم مستهلك بيئة اسمه البعد الاجتماعي أشعر بالخجل.. أشعر بالعار.. أشعر بأنني لا أستحق أن أتشرف بنعمة الإسلام.. أو أي دين سماوي فلقد أمرنا الله ألا نفرق بين أحد من الأنبياء وقلنا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فكل الأديان السماوية أتت من نبع مقدس رحيم عادل طالبتنا بأن نرحم ونعمل ونتقي الله فلا نسرق ولا نقتل ولا نزني ولا نظلم.. طالبنا الله في كل رسالاته السماوية بأن من يعمل منكم عملاً فليتقنه.. فهل عملنا؟ هل اتقينا الله.. طالبنا بأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه البعض فهل وقفنا بجانب المستضعفين.. المقهورين.. هل توحدنا حتي لا يستفرد بكل منا أعداؤنا.. كل أنواع الأعداء.. واحد وراء الآخر.. حتي هانت بلاد المسلمون جميعا. هذه هي تعاليم السماء..؟ لقد آمن المسلمون الأوائل.. بأن رسالة محمد([) كانت تستحق التضحية.. كانوا مؤمنين بأنهم يدافعون عن حياتهم ضد القهر والعبودية والعنصرية وكل أنواع تقسيم المجتمع علي أساس الأصل والمال والجاه لذلك بهذا الايمان.. غلبت فئة قليلة فئة كثيرة بإذن ربهم..وأمدهم الله لايمانهم القوي بجنود وملائكة لم يروها.. حاربت معهم تعضيدا لهم علي قوة إيمانهم وعظمة تضحياتهم.. فكيف ونحن قاعدون متكاسلون.. غافلون عن حق بلدنا علينا بأن ننتظر عطف السماء ورحمتها وملائكتها؟ كيف؟ هل عملنا.. هل تعلمنا.. هل بنينا.. هل نصرنا أنفسنا وإخواننا في الدين في محنتهم؟ هل حاربنا الظلم والفساد في محيطنا الصغير؟ هل ننتظر أن تنزل الملائكة من السماء.. لتغير حياتنا وتعيد لنا حقوقنا؟ »إن الله لايغير ما بقوم.. حتي يغيروا ما بأنفسهم«. والله أنا خجلانة من الله.. ويزداد خجلي عندما أقرأ.. في تلك الليالي المباركة أوامر الله سبحانه.. فالمؤمن ليس ضعيفا ولا ذليلا ولا جاهلا.. ولا كاذبا.. وليس هاربا من مسئولياته الدنيوية والسماوية. ياه.. ما أبعدنا عن المؤمن الذي يعده الله بجنته؟ ❊ ❊ ❊ إنها الليالي المباركة.. العشر الأواخر.. حيث تأتي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.. ننتظرها جميعا بأمانينا الخاصة جدا. ربما أولها.. أن نحب بلدنا أكثر من هذا الحب السلبي الضعيف.. أن نتركها لأولادنا وأحفادنا.. إرثا يفتخرون بما أنجزه آباؤهم وبما ضحوا لكي تكون درة الدول والمدن وأشرفها.. ادعوا إلي الله في ليلة القدر أن نستعيد عظمة أول كلمة نزلت علي رسولنا الكريم اقرأ ..» اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ.. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ .. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.. عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ« صدق الله العظيم. هل قرأنا واقعنا وأدركنا أنه في حاجة إلي قراءات كثيرة ووعي وإدراك.. أنه في حاجة لمن ينقذه من قلة العلم.. والفكر والإبداع والابتكار والتصنيع والإنتاج. أنه في حاجة لمن ينقذه من الجبن والنفاق واستغلال النفوذ وأكل أموال اليتامي والأحياء.. والأموات والفقراء بالباطل. هل قرأنا آيات الله بتفهم وتدبر ونية خالصة علي الالتزام بمعانيها السامية التي لا تهدف سوي لسعادتنا وراحة قلوبنا وعيشنا في عزة وكرامة وقوة تحمي ولا تعتدي »إن الله لايحب المعتدين«. يحب الله مؤمنيه الذين يعفون عند المقدرة لا عند الضعف.. وأن الله لايحب عبده الضعيف لأن من كان الله ورسوله سنده وعزوته لا يخشي أحدا.. في ليلة القدر أتمني أن تنزل الملائكة بها لتسمع دعوات المؤمنين.. بل أتمني أن تسمعهم أوامر الله جهارا.. صوتا وصورة بأن الله لو شاء لآمن من في الأرض جميعا.. ولو شاء لجعل رسالات السماء وأنبياءها.. رسولا وكتابا واحدا.. فلم الاقتتال؟.. مسلم.. مسيحي.. يهودي.. هم عباد الله المؤمنون بتعاليمه أما الاختلافات.. فالله وحده سيكون الحكم فيما كنتم فيه تختلفون. فلنبعد عما يفرقنا.. ولنتقرب مما يجمعنا في الدين والحياة والسياسة.. فالمؤمن كيس وفطن يعرف أن غاية أعدائنا.. أن يفرقوا في سنين قصار ماعجزت القرون عن إفساده.. فالدين لله.. يامؤمنين.. والوطن للجميع ❊ ❊ ❊ إنها ليلتي الخاصة.. أنا عبدتك.. الضعيفة العاصية أطلب عفوك ورضاك ومغفرتك.. لدي الأمل في رحمتك قبل عدلك.. أن تتوب عليّ وأن تلبي دعواتي بأمور دنيوية وأخري سماوية وأن تعينني أن أكون أكثر التزاما أكثر عفوا.. وأكثر قدرة علي كظم غيظي وأن أعفو عمن أساء إليّ.. والح عليك ياكريم وأنت تحب عبدك اللحوح أن تقر أعين كل الأمهات علي فلذات أكبادهن وأن تبعد عنهم شر البأس والهزيمة النفسية وهم في عز شبابهم.. أدعو لكل أبنائنا أن يبعد عنهم شياطين الإنس والجن. يبعد عنهم كل جبار عنيد ويحميهم من الاغتيال المعنوي والبدني. ومن حرمهم .. راحة البال وهم في بداية حياتهم وكل مادفعهم إلي الانتحار الجماعي يأسا من وطن يأكل أبناءه.. غفلة أو عمدا أدعو في ليلة القدر الخاصة بي.. أن يحسن خاتمتي وخاتمة كل المؤمنين وأن تتسع رحمتك التي وسعت كل شيء وأن تطمئن قلوبنا بأن نتذكر دوما.. أن دعوة المظلوم تصعد إلي السموات السبع فيحييها الله القوي الجبار المنتقم »وبعزتي وجلالي لأنتقمن لك ولو بعد حين«. واللهم.. آمين!!.