خلال الثمانية عشر شهرا الأولي التي تمخضت عن أطهر ثمانية عشر يوما من الثورة المجيدة فشل المجلس العسكري في كل ما فشل فيه الإخوان المسلمون خلال السنة التالية.. بل إن فشله كان أكبر لأن مدته أطول، وعوامل النجاح المتاحة له أكثر، فغالبية الشعب كانت علي قلب رجل واحد وكانت صدورهم وعقولهم مفعمة بالحماس ورغبتهم شديدة في البناء والوصول بمصر لمكانتها المستحقة، التي أدركها الجميع الواعين ومن علي الفطرة عندما وجدوا العالم كله مبهورا ومصفقا لثورتهم الفريدة، وأصبح أمل أحرار الدنيا زيارة "التحرير" الذي اعتبروه ميدانا مقدسا ورمزا لحرية الشعوب. يبدو أن القدر كان مقتنعا أن ما اشتهرنا به من طول صبر وتحمل تحول إلي بطء وموات، فألغي التعامل معنا بالثواني والدقائق والساعات، وأصبح يعاملنا بالسنة ونصف السنة، وأبي إلا أن يضيف ستة شهور أخري لسنة الإخوان لتكتمل ثلاث سنوات متتالية من الفشل الذريع، المستمر للآن.. فهل صار قدر هذا الشعب المظلوم أيا كانت الأكاذيب التي تباع له هو الاستمرار في المعاناة والحرمان من أبسط الحقوق المكفولة لغالبية الشعوب؟! .. وهل مانراه الآن ينبيء بسلامة وصدق السير علي طريق التكاتف لبناء مصر الفريدة، التي يعلم العلم كله جدارة أن يكون شعبها من أسعد وأكثر الشعوب رخاء وتحضرا؟!.. ولم لا ونحن نملك الرصيد والمخزون من الثقافات وخبرات الحضارة والبناء والتعمير والثروات الطبيعية والسياحة والموقع والشمس نادرة السمات، كمصدر للطاقة لا ينضب، ومحسوب له أن يحقق ثراء يفوق كل أنواع الذهب الأسود والأبيض والأصفر. ولكن "فرحة ماتمت".. اكتشفنا أن الطرفين الطامحين للحكم اتفقا بليل علي اقتسام الفريسة ويبدو أن كلا الطرفين كان يخفي خنجرا وراء ظهره للآخر، ولم يكن يهم أيا منهما أن الطعنات لاتصيب سوي صدور التسعين مليونا الذين يسددون كل الفواتير ولا يحصدون لأنفسهم سوي الحسرة و"ترماي" إسماعيل ياسين في »العتبة الخضرة«. من المؤكد أن البكاء علي اللبن المسكوب واجترار الفشل لن يبني بلدا حرا ناجحا، كما أن علاج الجرح بغلقه علي الجراثيم وعناصر الفساد لن ينتج جسدا طاهرا معافي، وكفانا أكاذيب من الفاسدين بأن التطهير سيؤدي لهروب رءوس الأموال، العكس هو الصحيح، فالمال النظيف هو الذي يفر هروبا من تكاليف الفساد والإتاوات.. أما من يشيع الأكذوبة فهي الأموال الخبيثة، القادمة أصلا لإفساد وتدمير مصر.. وفي كل الحالات لاتنجح دولة دون جسد قوي نظيف سليم الأساس.. وينبغي الانتباه إلي أن الاقتصاد الورقي بالثراء السريع من مضاربات الأراضي وصفقات المغامرات وبورصات حاشية المخلوع مبارك وولديه، لم يكن سوي طريق الندامة الذي يجب ألا نعود إليه ثانية.. وقبل كل شيء فإن أول سؤال يبحث المستثمر عن إجابته هو: هل مصر دولة قانون تتوافر بها العدالة الحاسمة أيا كان صاحبها: مصريا أم أجنبيا.. كبيرا أم صغيرا؟! إن المبالغة في مد أمد الحرب علي الإرهاب داخل مصر لن يفيد سوي أعدائنا، الذين خصصوا عشر سنوات من حياتهم واقتصادهم لهذه الحرب العالمية المستترة، ولم يتخلصوا من "بن لادن" سوي في السنة العاشرة بالتمام والكمال لأن حكامهم يكملون ما بدأه السابقون مهما اختلفوا وتنافسوا علي الحكم.. والإرهاب بمصر كان اختفي تقريبا وهو الآن محدود للغاية ومحصور في سيناء وهي أسهل مساحة بمصر يمكن السيطرة علي مخارجها ومداخلها لأنها حدود عسكرية، وهي دائما تحت عيون ومسئولية مخابراتنا اليقظة، فما الداعي لرهن وتركيز كل حياة مصر علي أمر يمكن أن يتم في حدود حجمه الحقيقي.. ولنعلم أن خسائر هذه المبالغات أضخم كثيرا مما نتصور، فهي لن تقتصر علي مجرد تكاليف الأرواح والاقتصاد.. الأخطر هو أن يتسبب طول التعود والمعايشة مع الدماء أن تسيطر علي مصر وشبابها سلوكيات وطباع العنف اليومي.. وقتها قل علي الشعب كله، مترفيه وفقراءه وحكامه، يارحمن يارحيم.. ومن الآن يمكننا أن ننطق كمسلمين "نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" وأن ينطق أشقاؤنا المسيحيون بالشهادة »بين يديك أستودع روحي«.. ويحتم المناخ الحالي الملتبس أن نوجه سؤالا للرئيس القادم: وماذا عن لصوص المليارات وماخور الفساد الذي يبدو أنه اطمأن وزاد؟!.. فقد جعله العنف المستمر يشعر أن جو الخوف عاد وتمكن من معظم الشعب، وأن ذلك سوف يعيد الكرة ثانية بما يوفر له الاطمئنان ليعود ويعيس في مصر فسادا ونهبا للأموال والممتلكات العامة.. ومن الطبيعي عندئذ أن يظل الشعب المسكين صديقا مستديما للفقر والمعاناة، في وقت تتحسن فيه أحوال الشعوب من حوله، ومن المؤكد أن يعيده ذلك للثورة من جديد وقد تكون ثورة جياع والعياذ بالله.. ولن تجدي معها المسكنات أو الطرق التي تسترضي الصغار والطيبين. ولنذكر الرئيس القادم بالشواهد التالية لضمان سلامة المستقبل : إن ذاكرة الشعب لاتنسي جرائم اللصوص لأرواح أبنائه وأمواله، ولا تنسي في ذات الوقت مهرجان البراءة للجميع.. ويوما بعد يوم تتكشف للشعب المصالحات السرية لرجال الأعمال والتساهل المخيب للآمال في استرداد المليارات من أمواله المنهوبة.. ومازال الشعب يتابع تراجع حسين سالم صديق مبارك عن التنازل عن نصف أمواله (مسروقاته) وسر الاطمئنان الذي دفعه للتراجع.. ولاينسي الناس حالات الهروب السهلة والمحاولات المتكررة لتبييض وجوه أصحابها، والتمهيد لقبول عودتهم دون حساب مقابل الملاليم.. إن السكرة الحالية توفر جوا من الاطمئنان لو سارت الأمور لصالح الشعب، لكنها لن تمنع التحول المفاجئ للمظلومين إذا استمر الفقر والظلم والحرمان.. عندئذ ستختفي السكرة وتحل محلها الفكرة.. حمي الله مصر وشعبها من الظلم والفساد والفاسدين. آلاف السنين وشعبنا يتسم بالطيبة وربما أكثر من الطيبة، وقد تكون ثورة يناير عالجت الجزء الأخير، لكننا بسبب استمرار العنف نخشي تخلي الشعب نهائيا عن سماحته، وهذا يحتاج للعقول والحكمة لا الحناجر والسيوف.. يجب إذن أن تعود روح المصالحة مع العدل وسيادة القانون.. والحب والود يقيمان أي بنيان أقوي مليون مرة من الانتقام والانتصار الخادع علي الشقيق وشريك الوطن.. وإذا كان همنا الأول هو حقوق الشعب بصدق، فلنهتم بدلا من الكراهية والإقصاء بالتعليم والأخلاق وقيم التعايش والمساهمة الإيجابية في تطور الحضارة والحياة.