لم يعد خافيا علي أحد التوترات والأزمات المتتالية التي نعيشها والتي لم تأذن بالرحيل الي الآن فخلفت أجيالا تعاني من حالة من الإحباط والاكتئاب الذي لايحمد عواقبه فتراهم يهرعون الي الانتحار كحل مثالي لمشاكلهم تلك أو يفكرون جديا في الهجرة من بلادهم التي ضاقوا بها الي بلاد أخري قد يجدون السلوي والاستقرار فيها ولكن هناك فئة أخري اختارت أن تبقي بين أحضان وطنها وتحاول تجسيد معاناتها وتوصيلها الي العالم كله من خلال الرقص وبالتحديد المعاصر وهو فن جديد انتشر في بداية الألفينات علي أيدي الراقصين الأمريكيين الذين دخلوا المحروسة ويتمتع هذا النوع من الرقص علي حرية الحركة وعدم التقيد بالأوضاع والأشكال الكلاسيكية فاستطاع أن يجذب مئات المعجبين الذين قرروا خوض غماره وإقامة مهرجان سنوي يحوي عروضا ومسرحيات مختلفة يحضرها الآلاف والآلاف ليروا معاناتهم علي خشبة المسرح تحت مسمي العلاج بالرقص. الفكرة استطاعت أن تجذب عشرات الفرق والراقصين الذين قرروا حزم حقائبهم إلي مسرح الفلكي الذي شهد توافدا واقبالا الكثير من الزوار وعشاق الفنون الراقية ليقدموا عروضا اجتهدوا في تصميمها علي مدار أشهر متتالية ليعرض في هذا العرس الذي تم تسميته "البقية تأتي" بتنظيم من استديو عماد الدين. »آخرساعة« سلطت الضوء علي تلك العروض التي مست أوجاع المواطن البسيط كما ناقشت فكرة العلاج بالرقص وجدواه في الاستشفاء من جميع الأمراض النفسية التي قد تصيبنا. علي خشبة مسرح الفلكي بباب اللوق سرعان ما تفاجأ بحركة دءوبة ونشاط ملحوظ كأنك بداخل خلية نحل فالكل يجري استعداداته علي قدم وساق لتقديم عرضه الذي تدرب عليه طيلة شهور عديدة ليقدمه أمام الجمهور العريض الذي وجد في مشاهدة العروض المسرحية متنفسا لمعاناته خاصة تلك التي تمس جراحه وتترجمها الي حركات راقصة أو إلي نص تمثيلي . وبعيدا عن هذا العمل الجاد تقف "نيفين الإبياري"منسقة الحفل وصاحبة فكرة ذلك المهرجان لتلقي النظرة الأخيرة علي ترتيبات الحفل فطالما حلمت أن يترجم مشروع تخرجها الراقص بالجامعة الأمريكية الي عرض جماهيري يحضره الكل وليكون أيضا بمثابة حضانات تشمل عروضا وتدريبات للهواة والمبتدئين، تحت إشراف أساتذة متخصصين، عرضت الفكرة علي القائمين علي استوديو عماد الدين ورحبوا بتنفيذها فعليا ليتحقق حلمها في 2008 ويقبل علي المشاركة فيه الكثير من الفرق الراقصة والهواة ليصبح معملا لتفريخ الفن الراقي وعيادة نفسية لعلاج المصريين. ويعتبر "محمد الديب" من أشهر الراقصين الذين يحرصون علي المشاركة في المهرجان ليقدم عروضا راقصة استوحاها من الواقع المؤلم الذي نعيشه ليتفنن في ترجمتها إلي حركات رشيقة بمساعدة زوجته الأسبانية التي عشقت مصر وقررت العيش في أحضانها دون النظر الي مايحيط بها من تشتتات وكوارث ولك أن تعلم أن "محمد" أيضا يعمل كمعالج نفسي بالرقص وصاحب أول ورشة للعلاج بالرقص ناهيك عن عمله كمخرج لبعض العروض المسرحية. بمجرد أن ترفع الستارة الحمراء حتي يظهر محمد بطل عرض "ماتبقي"يقفز في الهواء ممسكا بيد زوجته"ساشا" ليؤديا بعض الحركات الأساسية في هذا العرض الذي يدور حول الفساد الذي ضرب جميع أركان دولتنا ولوث عقولنا وأصاب شبابنا بالإحباط والاكتئاب والكثير من العقد النفسية التي يصعب علاجها. وبمجرد أن انتهي من تأدية عرضه حتي فوجيء بعاصفة من التصفيق المدوي من الحضور فعرضه مس واقعهم المؤلم الذي يعيشونه ولا يعرفون سبل الخروج منه .. يقول محمد:مما لاشك فيه أن حالة من الإحباط والاكتئاب قد ضربت مجتمعنا خاصة في ظل عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الذي نعيشه بفعل الإرهاب الذي يظهر من حين لآخر وكان الشباب هم أكثر فئة مسها هذا الإحباط فقد حلموا بحياة مستقرة بعد ثورة يونيه وسبقتها ثورة يناير إلا أن أحلامهم تلك تحطمت علي صخرة الإرهاب والغياب الأمني وحاصرتهم الأمراض النفسية المختلفة فأردنا من هذا المهرجان توصيل معاناتهم إلي العالم كله وتجسيدها علي خشبة المسرح كطريقة من طرق العلاج النفسي. ويضيف الديب: ويعتبر عرض"ماتبقي"انعكاسا لتفاصيل العالم الاستهلاكي الملوث والمترف الذي نعيش فيه جعلنا أشبه بآلات جامدة غاب عنها أحاسيسها وفكرها وعمت الأنانية بقلوبنا وتناسينا القيم والأخلاق التي تربينا عليها وارتبطت بمصريتنا لتسود المحسوبية والشللية بدلا منها ونعجز عن تحقيق التقدم الذي طالما حلمنا به لبلادنا ونفقد خيرة أبنائنا الذين فضلوا الهجرة واالرحيل. وعن جدوي مثل تلك العروض في العلاج النفسي يقول:العلاج بالرقص أصبح موضة العصر يقبل عليه الجميع نظرا لفعاليته في إخراج الشحنات السالبة والتوترات العصبية المسيطرة علي العقل فتجعله يحلق في سماء الأحلام ويتخلص من الضغوط المسيطرة عليه كما أنها تكسبه جسما رشيقا ولينا يرفع من الحالة النفسية ويفهم لغة جسده والغريب أن تجد الفتيات هن الأكثر إقبالا علي ذلك العلاج وهذا السبب في أننا لدينا رجال متكبرون في الاعتراف بأنهم في حاجه إلي مساعدة نفسية برغم أن الكثير منا يعاني من الكبت بسبب ضغوط الحياة ولكن الكبر يمنعه من الخضوع للعلاج فالرجال هم الأكثر تعرضا للمشكلات في العمل أو الحياة العامة. ولم يكن "الديب وزوجته"وحدهما من شاركا بعرض يناقش فكرة الإحباط والاكتئاب الذي ملأ قلوبنا فهاهي"ياسمين إمام"تلك الفتاة الشرقاوية العاشقة للمسرح والمختزن بداخلها العديد من الإبداعات التي اشتقتها من الواقع المحيط بنا وقد حققت عدة نجاحات في مجال المسرح أبرزها تصعيد مسرحية الأطفال التي ألفتها بعنوان "سنبلة الغاضبة" للقائمة القصيرة بمسابقة الهيئة العربية للمسرح بأبوظبي تقف علي خشبة المسرح لتقدم عرضا أسمته "المراية ولا يعني انزل كده" يدور حول فتاة تستعد للخروج وحضور مناسبة وعند وصولها تكتشف زيف العالم الذي تتواجد به فيدفعها لأن تطرح علي نفسها عدة أسئلة مما يجعلها تصاب بالحيرة والإحباط؟ تقول إمام: يعتبر مهرجان"والبقية تأتي"من أهم المهرجانات التي تقدم عروضا مسرحية وراقصة تحاكي الواقع ويستمد تفاصيله منه خاصة في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها ويعتبر عرض المراية تجسيدا لمعاناة الشباب حيث يواجهون مجتمعا منفصلا ينادي باتباع القيم والأخلاق وعلي الرغم من ذلك لاينفذها مما يجعلهم يصابون بانفصام الشخصية وعقد نفسية مختلفة . وحول الإقبال الجماهيري تقول ياسمين:بدأ المهرجان منذ 2008 وقد حاز علي إعجاب النقاد والجماهير منذ افتتاحه فهو يقدم مواهب تمثيلية مختلفة بالإضافة الي ميزته في علاج أمراضنا النفسية المختلفة دون أن نشعر فبعد كل عرض يتم تقديم الحل الأمثل للمشكلة فتتفتح أفاق جديدة لصاحب المشكلة ويصل للحل. أما نيفين الإبياري منسقة الحفل وصاحبة فكرة المهرجان: عندما بدأت العمل في استوديو عماد الدين في عام 2005، كنت مسئولة عن ورش العمل وبرامج الإقامة، وقد لاحظت أثناء ذلك أن الأعمال كانت مفتعلة وطويلة جداً. وعلي رغم الجهود المبذولة فيها، كانت تبدو قليلة الجودة. فقررت تعديل مشروع تخرجي في الجامعة الأمريكية، ليصبح مهرجان »البقية تأتي« أردت أن يكون التدريب مؤثراً بحق في العمل، لعرض عمل الهواة والمبتدئين، بإشراف المحترفين«. وتضيف الإبياري: ويتميز المهرجان بكونه مناسبا لجميع الأذواق فهناك العرو المسرحية التي تجذب الجميع من كل الطبقات إلي عروض الرقص الحديث فتستهوي طبقة بعينها وأردنا أن يكون مهرجانا محاكيا للواقع الصعب الذي نعيشه ومليء بالضغوطات ونصل لحلول فعالة لجميع مشاكلنا. وتختم الإبياري حديثها عن تمويل الفرق والمشاريع المشاركة: في شكل عام لا تتلقي الفرق المسرحية العاملة في الاستوديو أي دعم مالي من مؤسسات مصرية أو إقليمية، بل يلجأ أعضاؤها في الأساس إلي جمع الأموال من بعضهم لإنتاج أعمالهم. والحقيقة أن هذه الظروف المالية الصعبة لا يأخذها في الاعتبار الفنانون عندما يقومون باختياراتهم الفنية أثناء العملية الإبداعية، فقد لاحظنا أن غالبية العروض التي أُنتجت من الفرق المستخدمة الاستوديو تزيد مدتها علي الساعة وتضم عشرات الممثلين، وتستخدم ديكورات ضخمة ومكلفة.