المشير عبدالحكيم عامر الضباط كانوا يذهبون إلي حرب اليمن ب »الواسطة«! كل ضابط كان يعود بسيارة وثلاجة وسخان وغسالة وألوف الجنيهات والحصول علي شقة من الحراسة! قدمت تقريراً إلي القيادة السياسية يتضمن ما يحدث في اليمن فتجاهله عبدالناصر الروس أقنعوا عبدالناصر أنه يحارب أمريكاوالصين الشعبية في اليمن .. فزاد عناده الفريق مرتجي كان له فضل لملمة القوات المصرية في اليمن وجعلها كحائط الفولاذ في هذه الحلقة يكشف فارس البرلمان المصري علوي حافظ كيف ضاع غطاء الذهب.. فقد تم سحب كل رصيد الذهب المصري من البنك المركزي وتبدد بهذا غطاء العملة المصرية.. وتم إلقاء الريالات الذهبية التي تحمل صورة ماريا تريزا إمبراطورة النمسا، من الطائرات علي القبائل اليمنية المؤيدة للإمام أحمد بن حميد الدين، حتي تنضم إلي قوات الثورة في اليمن، وبذلك يتوقف نزيف الدم الذي كان يتعرض له ضباط وجنود الجيش المصري في اليمن، والذي راح ضحيته أكثر من 25 ألف قتيل من خيرة شباب مصر في اليمن. ويقول علوي حافظ: لم تكن هذه الكميات من الريالات الذهبية تلقي كلها علي القبائل اليمنية من الطائرات.. وإنما كان جزء منها يبقي لمن يحملونها.. وكل هذه المعلومات كان المسئولون يعرفونها سماعاً، ولكنهم لا يملكون الدليل عليها.. وعندما ناقش أحد كبار الضباط المشير عبدالحكيم عامر في الموقف المتدهور في اليمن قائلاً : إن القوات المصرية في اليمن تتكلف مليون جنيه كل طلعة شمس.. هز المشير رأسه موافقاً.. وقال: وما العمل ؟ فقال الضابط الكبير: إنني أعتقد أن مهمتنا الأساسية كقوات مسلحة أن نحمي مصر، ويوم أخل بحجم قواتي المسلحة في مصر فإنني لا أستحق البقاء لحظة واحدة في منصبي.. وأمن عبدالحكيم عامر علي رأي هذا القائد بقوله : اليمن ليست »بلاعة«.. اليمن »خرارة«! أصابع الروس كانت القيادة تلتزم العناد في كل ما يتعلق باليمن.. وأي تقرير يصل إليها عن أن من المصلحة والحكمة أن تنكمش العملية وتتقلص وتنتهي.. وأي رأي يؤيد التفاوض مع السعودية لإنهاء مشكلة اليمن كان يقابل بالرفض أو السكوت.. والواقع فيما رواه لي الضباط أنهم كانوا يحسون بأصابع الروس وراء هذا العناد لأنهم كانوا ينقلون لجمال عبدالناصر أنه يحارب أمريكا من ناحية، ويحارب الصين الشعبية من ناحية أخري.. من أجل هذا يزودونه بالمزيد من السلاح والمزيد من الطائرات.. وقد ثبت بعد هذا أن كل هذا أصبح ديناً علي مصر.. وهو الدين الذي أصبح سداده حتي الآن مشكلة من مشاكلنا الاقتصادية. كان الروس يصورون لعبدالناصر »شياطين« في اليمن.. لم تكن موجودة.. أما الضباط المصريون الذين يحملون أرواحهم علي أكفهم ببطولة نادرة المثال فقد كان رأيهم أن موقفنا في اليمن هو موقف من أخرج عفريتاً من القمقم ثم عجز عن إرجاعه إليه!.. وإذا كنت سمعت عشرات القصص عن اختلاسات الضباط.. فإنها تدور حول أسماء معينة لا أظن أنها ستفلت من العقاب إلي الأبد.. ومن هؤلاء الضباط من أثروا في مهماتهم بسوريا أيام الوحدة.. أثروا من جيب مصر لأن مصر كانت تتحمل الغرم دائماً. هؤلاء.. مع عدد آخر انضم إليهم بحكم ولائه للقيادة العسكرية أو حتي القيادة السياسية سعوا إلي الإثراء علي حساب حرب اليمن، والإثراء دائماً من جيب مصر.. من شقاء العامل، وعرق الفلاح ومعاناة دافع الضرائب. ثروات »المحاسيب« وكان هؤلاء الضباط يذهبون إلي اليمن »بالواسطة«.. وهي أول مرة في التاريخ يذهب فيها الضباط لساحة القتال »بالواسطة«، لأن الذهاب إلي ساحة القتال كان يعني العودة بسيارة وثلاجة وسخان وغسالة.. وبضعة مئات أو ألوف من الجنيهات.. ثم الحصول علي شقة من شقق الحراسة!. أما الضباط الصغار الشرفاء، الذين كانوا يمارسون القتال.. والجنود الذين كانوا يتعرضون للذبح.. لأن لكل رأس من رؤوسهم ثمناً عند الملكيين، فقد كانوا يراقبون ما يحدث والمرارة تعتصر نفوسهم، والتذمر والحزن في أعماقهم.. لقد قالوا لي إنهم يموتون.. والضباط المحاسيب يكونون الثروات. ولعل من مآثر الفريق عبدالمحسن مرتجي التي لا تنسي له عسكرياً أنه استطاع لملمة القوات المصرية في اليمن وتركيزها في مناطق محدودة جعلها كحائط الفولاذ، وأشاع فيها الإحساس بالأمان بعد أن كانت متفرقة ومبعثرة.. وهذا بدوره عاون علي إمكان الاستغناء عن عدد منها ليعود في الوقت المناسب إلي مواقعه في سيناء، ليؤدي مهمته الأساسية في الدفاع عن مصر. ولكن فئة من الضباط »الأثرياء« العائدين مع هذه القوات »المنهكة« هي الفئة التي يدينها التاريخ، لأنها فئة »الانسحاب« التي تخلت عن عسكريتها التي شعارها النصر أو الموت.. لأن الحياة الرغدة التي تعيشها هذه الفئة جعلت الشعار: النصر أو الفرار. أسبوع في اليمن لقد قضيت أسبوعاً في اليمن مع الوفد البرلماني الذي سافر إلي اليمن لتقصي الحقائق، كان أسبوعاً حزيناً.. وعدت وفي أذني عبارة ساخرة قالها ضابط صغير هي: »إنهم يقولون لنا إننا نقاتل في اليمن من أجل القومية العربية.. ولكننا نري أن حرب اليمن مزقت القومية العربية«.. وعدت وفي أذني تعليقات المنافقين من الضباط المنتفعين بحملة اليمن، فهؤلاء ظنوا أنني سأنقل رأيهم إلي المسئولين فيضاعف لهم المزايا، ويغضون الطرف أكثر عن عمليات الإثراء علي حساب الشعب. وكتبت كل هذا في تقرير، وقدمته إلي خلية التنظيم الطليعي التي أنتمي إليها واستهول بعض الأعضاء هذه المعلومات، وقالوا إنني استمعت إلي فئة ساخطة وهي عادة فئة تهتز من أصوات المدافع، وأن الالتزام يحتم أن نحمي قرار القيادة السياسية بشأن اليمن.. وطال الجدل واشتد.. وأصررت علي موقفي ورفع التقرير إلي المستويات العليا، وعندما أقول المستويات العليا فإنني أعني علي صبري بداية ثم جمال عبدالناصر نهاية، لأنه كان يقرأ هذا النوع من التقارير الهامة يوماً بيوم. ولم أسمع في هذا الشأن كلمة. أطبق الصمت المبين علي تقريري عن اليمن.. ولكن هذا لم يمنعني من التصدي مرة أخري لموضوع اليمن. مواجهة مع عبدالحكيم عامر وعندما جاء المشير عبدالحكيم عامر إلي مجلس الشعب ليدلي ببيان عن اليمن ودور القوات المسلحة فيه.. وما أن انتهي من بيانه حتي وقفت لأناقشه بصراحة فيما قال.. وهنا فوجئت مفاجأة غير سارة من أعضاء المجلس.. فقد تعالت أصوات زملائي فيه تمنعني من الاسترسال.. ثم تحولت الأصوات إلي صفير استنكار ودبدبة أقدام.. فوقفت لدقائق مذهولاً لما أسمع، حزيناً لما أري. وغادرت المنبر وأنا أتصبب عرقاً من الخجل لأن يبدو في المجلس الذي يتحدث باسم الشعب هذا الموقف المخزي من مناقشة قضية هي في تقديري أهم قضايا الساعة.. ولكنني لم أنس أن أقذف بكل الأوراق التي في يدي والتي تحتوي كل معلوماتي عن اليمن، فوق طاولة أمناء المجلس.. ولم أعد إلي مقعدي.. بل غادرت القاعة والدموع في عيني.. والكلمة الصادقة.. كلمة الحب لمصر حبيسة في صدري وأنا ألعن التنظيم السري الذي حول المجلس إلي تلك الصورة. والحق أنني منذ ذلك اليوم عذبتني أسئلة كثيرة: »تري من هم أصحاب المصلحة الحقيقية في مغالطة الشعب؟.. تري من يغلق أبواب الديمقراطية؟.. ثم .. إلي متي تطفو أصوات النفاق فوق السطح.. وتعلو فوق الكلمة الموضوعية الشريفة؟«. لقد كانت مذبحة اليمن ثقلاً كبيراً علي أكتاف هذا الشعب ومدخلاً خطيراً لا تحمد عقباه. يكفي أنها أفسدت الأخلاق والضمائر.. نعم أفسدت اليمن الأخلاق في مصر.. فقد أوجدت مذبحة اليمن في مصر طبقة مستفيدة من استمرار الحرب في اليمن.. من راغبي الثراء السريع.. تجار المذابح.. أثرياء الحرب.. إنهم يريدون بحور الدماء لكي تستمر بحور الذهب والفضة. أثروا ثراء فاحشاً من هذه الحرب ويطالبون بالمزيد.. ولن يأتي المزيد إلا باستمرار الدم ودفن الزهور في اليمن.. لقد تحولت بيوتهم في مصر إلي متاجر ومتاحف. فخ للقضاء علي عبدالناصر لقد كانت عملية ذهاب الجيش المصري إلي اليمن عملية استدراج استعماري لمصر للوقوع في فخ يقضي علي حكم عبدالناصر تماماً. ولم يدرك عبدالناصر هذا.. فالاتحاد السوفيتي طبعاً لايريد حلاً لتورط مصر في اليمن.. فإن الوجود المصري في اليمن هو أعظم انتصار له.. لقد كان ذات يوم يريد أن يصل إلي المياه الدافئة.. وها هو اليوم يصل إلي المياه الدافئة والحارة أيضاً. لقد كانت نصيحة الاتحاد السوفيتي لمصر من البداية لعبدالناصر عن طريق عملائه المحيطين به: »ادخل اليمن.. لتفك الحصار عن مصر بعد عزلة الانفصال ولحماية الثورة اليمنية ومواجهة السعودية وبريطانيا. ادخل اليمن.. والاتحاد السوفيتي يفتح لك الجسر الجوي والبحري وخط الإمداد المستمر إلي هذه البلاد مهما كانت التكلفة.. وقد »كان«.. أما الولاياتالمتحدة، فإنها تريد أن تظل مصر في وحل اليمن تنفق كل ما لديها من مال وقوة.. ومصر دائما تدفع الثمن لأخطاء وغرائز ومرض الحكام. عبدالحكيم عامر بدأ يقول في مجالسه: »الله يجازي اللي كان السبب.. اتورطنا وانتهينا....« ويقصد بكلامه.. السادات طبعاً..! وعبدالناصر يعترف بأنه تورط في هذه الحرب وأنه يريد أن يخرج بشيء من الكرامة..!!.. ولكن كيف....؟؟. انتهي عبدالناصر تماماً ومعه مصر في هذه الحرب التعيسة.. لقد أصبح عبدالناصر بعد حرب اليمن رئيساً لشعب فقير.. هرب منه كل العمالقة والكفاءات.. كل شيء هرب من مصر.. حتي البركة رحلت عن مصر. حرب اليمن كانت ذروة الخراب لمصر ولأهل مصر. الضحية في حرب اليمن هي أمة بأسرها هي الأمة المصرية. مصر ماتت لعدم وجود من يقول لعبدالناصر المريض: قف.. أو ماذا تفعل بمصر..؟ أو إلي أين..؟؟ عبدالناصر لم يجد فيمن حوله من يقول له أين الصواب وأين الخطأ.. من يقول له إن مصر ماتت من شدة الطغيان.. مصر أصبحت غابة كبيرة ضاعت فيها القوانين وماتت فيها العدالة وانتحر الحق وتبخرت الأخلاق. انتهي كلام علوي حافظ.. وانتهت شهادته.